بيان محمد الفاران
المقدمة
فيلم (أسوأ شخص في العالم) هو فيلم نرويجي أُنتج عام 2022 من إخراج Joachim Trier، وكتابة Joachim Trier, Eskil Vogt. ويصنف الفيلم على أنه رومانسي درامي، يتناول قصة فتاة في منتصف العمر، تمر بعدة تجارب في بحثها عن السعادة وتواجهها العديد من العقبات. وقد ناقش الفيلم عددًا من موضوعات العصر، كالفروقات بين الأجيال والإنجاب والحب والسعادة والموت، وكلها موضوعات رئيسة تمر في حياة كل إنسان، حاول الفيلم رؤيتها من خلال منظور الشخصية الرئيسة.
الخيارات المتعددة للإنسان المعاصر لم تسهل له الحياة، بل زادتها تعقيدًا، وهو الأمر الذي يجعل جولي تخفق في إكمال أي شي بدأته، سواء في حياتها العلمية أو العملية أو علاقاتها العاطفية، بل إنها في وسط ذلك تترك خلفها أشياء قيمة وأشخاص لن يعودوا، لأن كل تجربة نتخطها لا يمكن العودة إليها، ولكن فقط بإمكاننا تأملها وتقييمها والاستفادة منها. وهو ما تصل إليها جولي في نهاية الفيلم بعد أن حاولت تصحيح مسار حياتها، وأدركت قيمة ما مر بها.
ولأن الفيلم يحتوي على العديد من العناصر السردية، فالمنهج الشكلي الذي يهتم بالبناء والأسلوب هو الأنسب لوصف رسالة الفيلم الظاهرة أو الضمنية، وفضاءاته المكانية والزمانية وتحليل الحوارات القائمة فيها [1].
وُضعت آلية تحليلية نقدية لمحاولة السير على جميع مستويات الفيلم، أولها تحليل الشخصيات: وذلك بالتركيز على تحليل الشخصيات ودوافعها، ووجهات نظرها، وتحليل كل ما يتعلق بالشكل بالحبكة السردية الأساسية والأماكن، وسبب تسمية الفيلم، والتأثيرات المرئية، والديكور، والملابس، والتصوير، والموسيقى التصويرية، وتحليل المضمون: الذي يتمثل في الثيمات أو الموضوعات الرئيسة التي يتناولها الفيلم، وتحليل الأسلوب ويقصد به الطريقة التي تمكن بها الفيلم من إيصال المعاني.
أولًا: نقد الشكل
1- تحليل الشخصيات
أ- الشخصية الرئيسة
جولي فتاة شابة جميلة تملك كل المؤهلات التي يحتاجها المرء للنجاح، من موهبة وذكاء، وتملك كل الخيارات لتحقيق ذلك، لكنها تعجز عن الاختيار والنجاح؛ حيث تعمل في مكتبة صغيرة وتحب المجالات الإبداعية كالتصوير والكتابة. ليست جولي مثالية، بل هي مليئة بالتعقيدات، والحياة بالنسبة لها مليئة بالخيارات والفرص اللانهائية، وربما كانت هذه هي المشكلة في حياة جوليا تتساءل دائمًا عما ستؤول لها حياتها العملية والعاطفية.
ب- العلاقة مع الأب: والد جولي مشغول بعائلته الأخرى، التي اختار أن يوليها الاهتمام بعد انفصاله عن أمها، وأمامها يخلق الأعذار بالمرض أو الانشغال، لذلك تبقى علاقته بها سطحية.
ج- علاقتها مع أكسيل: أكسيل كاتب مجلات هزلية، في الأربعين من عمره يُقدم في علاقته مع جوليا الكثير من الأمان والنضج الذي كانت تحتاجه، ولكنها تحمل أيضًا الالتزامات التي تخشاها كالعلاقة التقليدية، والإنجاب، مقابل طموحها الشخصي ورغبتها في النجاح.
د- علاقتها مع إيفيند: شاب يعمل في مقهى، قريب من عمر جولي وقد تكون ارتبطت به لهذا السبب بالتحديد، فهو يشابهها في الكثير من الجوانب، يملك علاقة متوترة مع والده، يعمل في عمل بسيط، متشائم ومتهكم مثلها تمامًا، ويبحث عن ذاته.
2- الحبكة والأحداث
ينقسم الفيلم إلى مقدمة وخاتمة واثني عشر فصلًا ليشابه البنية السردية المألوفة في الروايات، يرجع ذلك إلى رغبة المخرج في تصميم فصول مختلفة في الطول وأساليب التصوير، يستطيع من خلالها تجربة طرق مختلفة وأفكار متميزة لعرض القصة، وبذلك يملك اتساعًا وحرية أكبر في سرد مجرياتها.
اشتملت مقدمة الفيلم على العديد من الأحداث المتسارعة والمليئة بأحداث قصة جولي بدءًا بدخولها الجامعة واختيارها تخصص الطب، فقط لأنها ذكية ولأن علاماتها المرتفعة عنت شيئًا، غير أنها ما تلبث أن غيرت تخصصها لعلم النفس بداعي أنه يتجه إلى الأفكار والمشاعر، ولكنها شعرت أنها محاصرة في الدراسة فاتجهت إلى التصوير لاعتقادها أنها تحب المؤثرات الحسية بلا شبكة أمان وبلا قيود. لم يمارس عليها أي نوع من أنواع الضغوط المجتمعية، بل كانت حرة في إرادتها تمامًا. المقدمة تحمل دلالات قوية حول القصة وشخصية جولي وطبيعتها التائهة؛ حيث أعطت المقدمة مختصرًا سريعًا لرحلتها، ليدل تبدل جولي بين مساراتها التعليمية والمهنية المختلفة على ترددها وارتباكها الوجودي في بحثها عن المعنى. وقد كانت جولي تبدل علاقاتها في كل مرحلة تغير فيها تخصصها، إلى أن تصل إلى علاقتها الأخيرة مع أكسيل، كاتب القصص الهزلية الذي يكبرها بعشر سنوات.
في كل فصل من هذه الفصول يتتبع الأحداث المحورية في شخصية جولي من عمر العشرينيات إلى منتصف الثلاثينيات، ومع تقدم الفصول والزمن تتغير هويتها ووجهات نظرها وتعكس بذلك تطورها الشخصي والنفسي.
تبدأ الفصول بتناول ومضات من حياة جولي ولقائها بأكسيل الرجل الذي يكبرها بعشر سنوات، وعدم رغبتها في الإنجاب بحجة تحقيق ذاتها، ولكن إحباطاتها العملية وعدم وضوح أهدافها جعلها تشعر بعدم القيمة أمام إنجازات أكسيل، وفي خضم تلك الإحباطات والشتات تدخل مصادفة إلى حفلة لتتعرف على إيفيند الشاب الذي يقاربها في كل شيء، كعلاقته في والده ونظرته المتشائمة للحياة وعمله البسيط، لتترك أكسيل وتنتقل للعيش معه. يتصادف لاحقًا أن تعرف بحملها في الوقت نفسه الذي تعلم فيه أن أكسيل يعاني من مرض السرطان، وأنه سيموت قريبًا، فتعاود زيارته ومرافقته في لحظاته الأخيرة، في مفارقة تجتمع فيها إرادة الحياة والموت (الحمل والموت). لكن ذلك لا يكتمل، ففي اليوم نفسه الذي مات فيه أكسيل فقدت جولي جنينها، وكأنها كان لا بد أن تفقد كل شيء حتى تصل إلى مرحلة السلام النفسي والاستقرار، وهو المعنى الأهم الذي ستصل إليه أخيرًا، بأنه ليس هنالك اكتمال في الحياة.
النهاية في الفيلم مفتوحة تحمل دلالة مهمة أن الحياة مستمرة وغير مكتملة المعنى، وأن رحلة جولي في إيجاد ذاتها والمعنى ما هي إلا رحلة مضطربة، ولكنها مستمرة. لقد كان على جولي أن تتعلم أن تحب نفسها وتتقبل نفسها أكثر، وتتعلم الرضا وإيجاد السعادة في داخلها.
نجد أن البنية السردية هي عبارة عن حلقات متسلسلة لم تكتمل، كل فصل من القصة يمثل جانب أو مرحلة من حياة جولي، وبالرغم من تسلسلها الزمني المندفع إلى الأمام إلا أن الفجوات الموجودة في هذه الحلقات تعكس أن التجربة الإنسانية المتعلقة غير مكتملة، فكل شيء قابل للسقوط في لحظة ما، وكل شيء يكمل جزءًا من المعنى في حياتنا، دون أن يكون هو تمامها.
يمكن تصوير رحلة جولي وعلاقاتها أو تجربتها الإنسانية غير المكتملة بهذا الشكل:
- العلاقات: نلاحظ أن جولي لم تكمل أيًا من علاقاتها الإنسانية، سواء مع والدها الذي توقفت عن التواصل معه أو والدتها، أو مع أكسيل أو إيفيند.
- التعليم: حيث درست الطب وعلم النفس والتصوير ولم تكمل أيًا منها.
- العمل: تعمل كمساعدة في المكتبة وتبدو دائمًا غير راضية عن عملها، أما أعمالها الكتابية فلم يصدر لها إلا مقالًا واحدًا ولم تجرؤ على إصدار البقية، أما التصوير فعمل مستقل لم تحترفه إلا في نهاية الفيلم.
- الإنجاب: نجد أن جولي مترددة، لا تريد الإنجاب ومرة ترغب به، وحين حملت لم تكتمل تجربة حملها.
- الإنجاز: هو الرغبة التي تغمر جولي دائمًا، في أن تحقق شيئًا ما، ولكنها لا تفعل شيئًا تجاه ذلك. 3- الفضاء السردي (المكان)
تدور أحداث الفيلم في مدينة أوسلو عاصمة النرويج، التي تمثل فضاء معاصرًا يعاني فيه الفرد من الخيارات المتعددة، بعد تحقيق رفاه إنساني عال. إن توظيف مدينة أوسلو كفضاء سردي يمثل عنصرًا داعمًا وثابتًا في الفيلم، فحين تشعر جولي بالهزيمة والتعاسة في حفل أكسيل تبدو لها المدينة من الأعلى مليئة بالألوان والحياة والفرص، وحينما علمت أن أكسيل لن يعيش للصباح، تاهت في مدينة أوسلو حتى أشرق الصباح معلنًا يومًا جديدًا، فلا العالم توقف ولا المدينة أصبحت مختلفة، بل ما يختلف هو تجربة الإنسان ومشاعره تجاه الأماكن والفضاءات.
حاول الفيلم أن يجعل الأماكن والفضاءات تعكس الحالة النفسية للشخصيات كالأماكن المفتوحة في أوسلو التي قد تعكس لحظات القلق والتفكير في المعنى وصراعاتها الشخصية، والأماكن المغلقة كالبيت الذي قد يعكس الأمان والراحة.
4- الزمان السردي
تتسلسل الأحداث حسب الترتيب الزمني الخطي المتصاعد باتجاه الأمام، من دخول جولي إلى الجامعة إلى دخولها الثلاثين؛ حيث قُدّمت القصة بزمن متدفق ومتسارع، يجعل جولي تشعر أنه متفلت لا تستطيع التحكم به أو حتى اللحاق بركبه. كما تتسارع الأحداث حين اتخاذ جولي قرارات مفاجئة، كترك العلاقات أو تغير المهن، وتتباطأ حين تتسم المشاهد بالتأمل أو الخوض في حوارات عميقة.
ثانيًا: تحليل العناصر الفنية
1- الإخراج
حاول المخرج أن يقدم قصة جولي بأكثر من طريقة؛ حيث وظّف عددًا من الأساليب في التصوير أضافت إلى الفيلم أبعادًا مختلفة، فكانت فكرته في تقديم الفيلم كاثني عشر فصلًا يحكي فيه قصة جولي، حاول المخرج أن يجعل الانتقالات بين المشاهد تجري بسلاسة، بحيث تجعل كل فصل ينتقل بالزمن إلى مراحل مختلفة في قصة جولي، دون أن تكون تلك الفصول مترابطة تمامًا، وهو ما يتناسب مع فكرة الفيلم القائمة على عدم الاكتمال، ووجود الفجوات.
2- التصوير والإضاءة
كان التصوير مبتكرًا من الناحية الفنية، وقد ساعد على تعزيز أجواء الفيلم وإيصال المشاعر بأن يعكس التصوير والإضاءة الحالة النفسية للشخصية، فهي مشرقة في اللحظات السعيدة وباهتة في أوقات القلق أو الخوف، كما تدور أحداث العديد من المشاهد الرئيسة في الفيلم عند الفجر لتقديم مستويات تحقق إشباعًا أعمق للألوان، باستخدام الفيلم عدد من أساليب التصوير المختلفة، فقد كانت أغلب اللقطات باستخدام الكاميرات المحمولة أي لقطات متحركة وقريبة قد يكون ذلك لرغبة المخرج أن تكون اللقطات أكثر حميمية، وهذا التنوع في طرق التصوير يُسهم في تعزيز وجود الشخصيات ويبرر استجاباتها وحالاتها النفسية [2].
3- الموسيقى والمؤثرات الصوتية
حاول الفيلم توظيف الأصوات الملائمة مع نوع الفيلم، ليعيد تمثيل المشاعر بالموسيقى، كما أضافت لحظات وفترات السكون لتعكس المشاعر وتعزز الشعور بالواقعية والتأمل والاستغراق الذي يصاحب الحالة الإنسانية في فترات ضعفها وانكسارها.
4- عنوان الفيلم
بعد مشاهدة الفيلم يظهر لك التناقض الكبير بين جولي الرقيقة، وبين كونها أسوأ شخص في العالم، هل هو إحساسها الداخلي بذلك، أم هل هي أفعالها وأقوالها؟ نعم هي ليست بتلك البراءة، ولكنها ليست بذلك السوء أيضًا. وقد ذكر الاسم أو المعاني المرتبطة به (أسوأ إنسان في العالم) مرتين في الفيلم، الأولى حين تركت إيفيند، في علاقتها الأولى وشعر وقتها أنه أسوأ شخص في العالم، والثانية جاءت من أكسيل وهو على فراش الموت في لحظة صادقة قال لها: "أنت إنسانة صالحة يا جولي"، كمفارقة جميلة بين ما تشعر به وبين ما قاله لها.
ثالثًا: تحليل المضمون
ناقش الفيلم فكرة البحث عن المعنى وإيجاد الدافع الأساسي لحياة الإنسان، وهو المحور الأساسي في الفيلم، فجولي تستطيع أن تدرس أي تخصص وتعمل أي عمل، ولكنها اختارت العمل في المكتبة القريبة وأخذ دورات في التصوير، والكل يثني عليها في قرارتها التي رأوا أنها شجاعة، وأن هذا ما يمثله أن تكون في عشرينياتك، حرًا طليقًا وبلا قيود.
الفيلم يُصوّر في أوسلو عاصمة النرويج، إحدى الدول الإسكندنافية التي يتمتع فيها الفرد بالرفاهية والحرية والمساواة، يسيطر عليها الفكر الوجودي الذي يعلي شأن الفرد واستقلاليته، وتقل فيها أو تنعدم الخلفية الروحية أو الدينية، كل هذا يجعل الفرد يشعر بالقلق الوجودي الناتج عن غياب اليقين، ويضع ضغوطًا وأهداف غير حقيقية، الأمر الذي يشعرهم بالتعاسة والألم في حال عدم وصولهم أو تحقيقهم إياها.
كل الأشخاص في الفيلم يبحثون عن المعنى، حتى والدها الذي أهملها قد وجد المعنى في عائلته الأخرى على حساب علاقته بجولي، وأكسيل الذي وجد معناه في مجلاته الهزلية، ثم إيفيند في محاولته الانشغال بحماية البيئة وقضايا الاحتباس الحراري.
يلخص فيكتور فرانكل في كتابه (البحث عن المعنى) تجربته الإنسانية بكونها بحثًا عن المعنى، وأن الجميع قادر على إيجاده بغض النظر عن الحالة الاجتماعية والمادية، وذلك عن طريق ثلاث وسائل غالبًا: العمل الذي نجد فيه هدفًا نحقق فيه ذواتنا، والحب الذي نقدمه للآخرين ونتبادله معهم، وأخيرًا المعاناة التي نعيشها أو نتشاركها مع غيرنا، فهو يرى أن المعاناة أساس التجربة الإنسانية والأجدر بنا أن نتقبل مصيرنا ونتعلم كيف نستجيب لتلك المعاناة عن طريق إيجاد هدف أعظم وأسمى [3]. وقد عاشت جولي جميع تلك التجارب لكنها لم تتعايش وتتقبل أيًا منها، وأرادتها أن تكون كاملة خالية من النقص.