الذي يأتي ولا يأتي رحلة البحث عن المعنى تحليل فيلم (أسوأ شخص في العالم)

بيان محمد الفاران

المقدمة

فيلم (أسوأ شخص في العالم) هو فيلم نرويجي أُنتج عام 2022 من إخراج Joachim Trier، وكتابة Joachim Trier, Eskil Vogt. ويصنف الفيلم على أنه رومانسي درامي، يتناول قصة فتاة في منتصف العمر، تمر بعدة تجارب في بحثها عن السعادة وتواجهها العديد من العقبات. وقد ناقش الفيلم عددًا من موضوعات العصر، كالفروقات بين الأجيال والإنجاب والحب والسعادة والموت، وكلها موضوعات رئيسة تمر في حياة كل إنسان، حاول الفيلم رؤيتها من خلال منظور الشخصية الرئيسة.

الخيارات المتعددة للإنسان المعاصر لم تسهل له الحياة، بل زادتها تعقيدًا، وهو الأمر الذي يجعل جولي تخفق في إكمال أي شي بدأته، سواء في حياتها العلمية أو العملية أو علاقاتها العاطفية، بل إنها في وسط ذلك تترك خلفها أشياء قيمة وأشخاص لن يعودوا، لأن كل تجربة نتخطها لا يمكن العودة إليها، ولكن فقط بإمكاننا تأملها وتقييمها والاستفادة منها. وهو ما تصل إليها جولي في نهاية الفيلم بعد أن حاولت تصحيح مسار حياتها، وأدركت قيمة ما مر بها.

ولأن الفيلم يحتوي على العديد من العناصر السردية، فالمنهج الشكلي الذي يهتم بالبناء والأسلوب هو الأنسب لوصف رسالة الفيلم الظاهرة أو الضمنية، وفضاءاته المكانية والزمانية وتحليل الحوارات القائمة فيها [1].

وُضعت آلية تحليلية نقدية لمحاولة السير على جميع مستويات الفيلم، أولها تحليل الشخصيات: وذلك بالتركيز على تحليل الشخصيات ودوافعها، ووجهات نظرها، وتحليل كل ما يتعلق بالشكل بالحبكة السردية الأساسية والأماكن، وسبب تسمية الفيلم، والتأثيرات المرئية، والديكور، والملابس، والتصوير، والموسيقى التصويرية، وتحليل المضمون: الذي يتمثل في الثيمات أو الموضوعات الرئيسة التي يتناولها الفيلم، وتحليل الأسلوب ويقصد به الطريقة التي تمكن بها الفيلم من إيصال المعاني.

أولًا: نقد الشكل

1- تحليل الشخصيات
أ- الشخصية الرئيسة

جولي فتاة شابة جميلة تملك كل المؤهلات التي يحتاجها المرء للنجاح، من موهبة وذكاء، وتملك كل الخيارات لتحقيق ذلك، لكنها تعجز عن الاختيار والنجاح؛ حيث تعمل في مكتبة صغيرة وتحب المجالات الإبداعية كالتصوير والكتابة. ليست جولي مثالية، بل هي مليئة بالتعقيدات، والحياة بالنسبة لها مليئة بالخيارات والفرص اللانهائية، وربما كانت هذه هي المشكلة في حياة جوليا تتساءل دائمًا عما ستؤول لها حياتها العملية والعاطفية.

ب- العلاقة مع الأب: والد جولي مشغول بعائلته الأخرى، التي اختار أن يوليها الاهتمام بعد انفصاله عن أمها، وأمامها يخلق الأعذار بالمرض أو الانشغال، لذلك تبقى علاقته بها سطحية.

ج- علاقتها مع أكسيل: أكسيل كاتب مجلات هزلية، في الأربعين من عمره يُقدم في علاقته مع جوليا الكثير من الأمان والنضج الذي كانت تحتاجه، ولكنها تحمل أيضًا الالتزامات التي تخشاها كالعلاقة التقليدية، والإنجاب، مقابل طموحها الشخصي ورغبتها في النجاح.

د- علاقتها مع إيفيند: شاب يعمل في مقهى، قريب من عمر جولي وقد تكون ارتبطت به لهذا السبب بالتحديد، فهو يشابهها في الكثير من الجوانب، يملك علاقة متوترة مع والده، يعمل في عمل بسيط، متشائم ومتهكم مثلها تمامًا، ويبحث عن ذاته.

2- الحبكة والأحداث
ينقسم الفيلم إلى مقدمة وخاتمة واثني عشر فصلًا ليشابه البنية السردية المألوفة في الروايات، يرجع ذلك إلى رغبة المخرج في تصميم فصول مختلفة في الطول وأساليب التصوير، يستطيع من خلالها تجربة طرق مختلفة وأفكار متميزة لعرض القصة، وبذلك يملك اتساعًا وحرية أكبر في سرد مجرياتها.

اشتملت مقدمة الفيلم على العديد من الأحداث المتسارعة والمليئة بأحداث قصة جولي بدءًا بدخولها الجامعة واختيارها تخصص الطب، فقط لأنها ذكية ولأن علاماتها المرتفعة عنت شيئًا، غير أنها ما تلبث أن غيرت تخصصها لعلم النفس بداعي أنه يتجه إلى الأفكار والمشاعر، ولكنها شعرت أنها محاصرة في الدراسة فاتجهت إلى التصوير لاعتقادها أنها تحب المؤثرات الحسية بلا شبكة أمان وبلا قيود. لم يمارس عليها أي نوع من أنواع الضغوط المجتمعية، بل كانت حرة في إرادتها تمامًا. المقدمة تحمل دلالات قوية حول القصة وشخصية جولي وطبيعتها التائهة؛ حيث أعطت المقدمة مختصرًا سريعًا لرحلتها، ليدل تبدل جولي بين مساراتها التعليمية والمهنية المختلفة على ترددها وارتباكها الوجودي في بحثها عن المعنى. وقد كانت جولي تبدل علاقاتها في كل مرحلة تغير فيها تخصصها، إلى أن تصل إلى علاقتها الأخيرة مع أكسيل، كاتب القصص الهزلية الذي يكبرها بعشر سنوات.

في كل فصل من هذه الفصول يتتبع الأحداث المحورية في شخصية جولي من عمر العشرينيات إلى منتصف الثلاثينيات، ومع تقدم الفصول والزمن تتغير هويتها ووجهات نظرها وتعكس بذلك تطورها الشخصي والنفسي.

تبدأ الفصول بتناول ومضات من حياة جولي ولقائها بأكسيل الرجل الذي يكبرها بعشر سنوات، وعدم رغبتها في الإنجاب بحجة تحقيق ذاتها، ولكن إحباطاتها العملية وعدم وضوح أهدافها جعلها تشعر بعدم القيمة أمام إنجازات أكسيل، وفي خضم تلك الإحباطات والشتات تدخل مصادفة إلى حفلة لتتعرف على إيفيند الشاب الذي يقاربها في كل شيء، كعلاقته في والده ونظرته المتشائمة للحياة وعمله البسيط، لتترك أكسيل وتنتقل للعيش معه. يتصادف لاحقًا أن تعرف بحملها في الوقت نفسه الذي تعلم فيه أن أكسيل يعاني من مرض السرطان، وأنه سيموت قريبًا، فتعاود زيارته ومرافقته في لحظاته الأخيرة، في مفارقة تجتمع فيها إرادة الحياة والموت (الحمل والموت). لكن ذلك لا يكتمل، ففي اليوم نفسه الذي مات فيه أكسيل فقدت جولي جنينها، وكأنها كان لا بد أن تفقد كل شيء حتى تصل إلى مرحلة السلام النفسي والاستقرار، وهو المعنى الأهم الذي ستصل إليه أخيرًا، بأنه ليس هنالك اكتمال في الحياة.

النهاية في الفيلم مفتوحة تحمل دلالة مهمة أن الحياة مستمرة وغير مكتملة المعنى، وأن رحلة جولي في إيجاد ذاتها والمعنى ما هي إلا رحلة مضطربة، ولكنها مستمرة. لقد كان على جولي أن تتعلم أن تحب نفسها وتتقبل نفسها أكثر، وتتعلم الرضا وإيجاد السعادة في داخلها.

نجد أن البنية السردية هي عبارة عن حلقات متسلسلة لم تكتمل، كل فصل من القصة يمثل جانب أو مرحلة من حياة جولي، وبالرغم من تسلسلها الزمني المندفع إلى الأمام إلا أن الفجوات الموجودة في هذه الحلقات تعكس أن التجربة الإنسانية المتعلقة غير مكتملة، فكل شيء قابل للسقوط في لحظة ما، وكل شيء يكمل جزءًا من المعنى في حياتنا، دون أن يكون هو تمامها.

يمكن تصوير رحلة جولي وعلاقاتها أو تجربتها الإنسانية غير المكتملة بهذا الشكل:

image

- العلاقات: نلاحظ أن جولي لم تكمل أيًا من علاقاتها الإنسانية، سواء مع والدها الذي توقفت عن التواصل معه أو والدتها، أو مع أكسيل أو إيفيند.

- التعليم: حيث درست الطب وعلم النفس والتصوير ولم تكمل أيًا منها.

- العمل: تعمل كمساعدة في المكتبة وتبدو دائمًا غير راضية عن عملها، أما أعمالها الكتابية فلم يصدر لها إلا مقالًا واحدًا ولم تجرؤ على إصدار البقية، أما التصوير فعمل مستقل لم تحترفه إلا في نهاية الفيلم.

- الإنجاب: نجد أن جولي مترددة، لا تريد الإنجاب ومرة ترغب به، وحين حملت لم تكتمل تجربة حملها.

- الإنجاز: هو الرغبة التي تغمر جولي دائمًا، في أن تحقق شيئًا ما، ولكنها لا تفعل شيئًا تجاه ذلك. 3- الفضاء السردي (المكان)
تدور أحداث الفيلم في مدينة أوسلو عاصمة النرويج، التي تمثل فضاء معاصرًا يعاني فيه الفرد من الخيارات المتعددة، بعد تحقيق رفاه إنساني عال. إن توظيف مدينة أوسلو كفضاء سردي يمثل عنصرًا داعمًا وثابتًا في الفيلم، فحين تشعر جولي بالهزيمة والتعاسة في حفل أكسيل تبدو لها المدينة من الأعلى مليئة بالألوان والحياة والفرص، وحينما علمت أن أكسيل لن يعيش للصباح، تاهت في مدينة أوسلو حتى أشرق الصباح معلنًا يومًا جديدًا، فلا العالم توقف ولا المدينة أصبحت مختلفة، بل ما يختلف هو تجربة الإنسان ومشاعره تجاه الأماكن والفضاءات.

حاول الفيلم أن يجعل الأماكن والفضاءات تعكس الحالة النفسية للشخصيات كالأماكن المفتوحة في أوسلو التي قد تعكس لحظات القلق والتفكير في المعنى وصراعاتها الشخصية، والأماكن المغلقة كالبيت الذي قد يعكس الأمان والراحة.

4- الزمان السردي
تتسلسل الأحداث حسب الترتيب الزمني الخطي المتصاعد باتجاه الأمام، من دخول جولي إلى الجامعة إلى دخولها الثلاثين؛ حيث قُدّمت القصة بزمن متدفق ومتسارع، يجعل جولي تشعر أنه متفلت لا تستطيع التحكم به أو حتى اللحاق بركبه. كما تتسارع الأحداث حين اتخاذ جولي قرارات مفاجئة، كترك العلاقات أو تغير المهن، وتتباطأ حين تتسم المشاهد بالتأمل أو الخوض في حوارات عميقة.

ثانيًا: تحليل العناصر الفنية

1- الإخراج
حاول المخرج أن يقدم قصة جولي بأكثر من طريقة؛ حيث وظّف عددًا من الأساليب في التصوير أضافت إلى الفيلم أبعادًا مختلفة، فكانت فكرته في تقديم الفيلم كاثني عشر فصلًا يحكي فيه قصة جولي، حاول المخرج أن يجعل الانتقالات بين المشاهد تجري بسلاسة، بحيث تجعل كل فصل ينتقل بالزمن إلى مراحل مختلفة في قصة جولي، دون أن تكون تلك الفصول مترابطة تمامًا، وهو ما يتناسب مع فكرة الفيلم القائمة على عدم الاكتمال، ووجود الفجوات.

2- التصوير والإضاءة
كان التصوير مبتكرًا من الناحية الفنية، وقد ساعد على تعزيز أجواء الفيلم وإيصال المشاعر بأن يعكس التصوير والإضاءة الحالة النفسية للشخصية، فهي مشرقة في اللحظات السعيدة وباهتة في أوقات القلق أو الخوف، كما تدور أحداث العديد من المشاهد الرئيسة في الفيلم عند الفجر لتقديم مستويات تحقق إشباعًا أعمق للألوان، باستخدام الفيلم عدد من أساليب التصوير المختلفة، فقد كانت أغلب اللقطات باستخدام الكاميرات المحمولة أي لقطات متحركة وقريبة قد يكون ذلك لرغبة المخرج أن تكون اللقطات أكثر حميمية، وهذا التنوع في طرق التصوير يُسهم في تعزيز وجود الشخصيات ويبرر استجاباتها وحالاتها النفسية [2].

3- الموسيقى والمؤثرات الصوتية
حاول الفيلم توظيف الأصوات الملائمة مع نوع الفيلم، ليعيد تمثيل المشاعر بالموسيقى، كما أضافت لحظات وفترات السكون لتعكس المشاعر وتعزز الشعور بالواقعية والتأمل والاستغراق الذي يصاحب الحالة الإنسانية في فترات ضعفها وانكسارها.

4- عنوان الفيلم
بعد مشاهدة الفيلم يظهر لك التناقض الكبير بين جولي الرقيقة، وبين كونها أسوأ شخص في العالم، هل هو إحساسها الداخلي بذلك، أم هل هي أفعالها وأقوالها؟ نعم هي ليست بتلك البراءة، ولكنها ليست بذلك السوء أيضًا. وقد ذكر الاسم أو المعاني المرتبطة به (أسوأ إنسان في العالم) مرتين في الفيلم، الأولى حين تركت إيفيند، في علاقتها الأولى وشعر وقتها أنه أسوأ شخص في العالم، والثانية جاءت من أكسيل وهو على فراش الموت في لحظة صادقة قال لها: "أنت إنسانة صالحة يا جولي"، كمفارقة جميلة بين ما تشعر به وبين ما قاله لها.

ثالثًا: تحليل المضمون

ناقش الفيلم فكرة البحث عن المعنى وإيجاد الدافع الأساسي لحياة الإنسان، وهو المحور الأساسي في الفيلم، فجولي تستطيع أن تدرس أي تخصص وتعمل أي عمل، ولكنها اختارت العمل في المكتبة القريبة وأخذ دورات في التصوير، والكل يثني عليها في قرارتها التي رأوا أنها شجاعة، وأن هذا ما يمثله أن تكون في عشرينياتك، حرًا طليقًا وبلا قيود.

الفيلم يُصوّر في أوسلو عاصمة النرويج، إحدى الدول الإسكندنافية التي يتمتع فيها الفرد بالرفاهية والحرية والمساواة، يسيطر عليها الفكر الوجودي الذي يعلي شأن الفرد واستقلاليته، وتقل فيها أو تنعدم الخلفية الروحية أو الدينية، كل هذا يجعل الفرد يشعر بالقلق الوجودي الناتج عن غياب اليقين، ويضع ضغوطًا وأهداف غير حقيقية، الأمر الذي يشعرهم بالتعاسة والألم في حال عدم وصولهم أو تحقيقهم إياها.

كل الأشخاص في الفيلم يبحثون عن المعنى، حتى والدها الذي أهملها قد وجد المعنى في عائلته الأخرى على حساب علاقته بجولي، وأكسيل الذي وجد معناه في مجلاته الهزلية، ثم إيفيند في محاولته الانشغال بحماية البيئة وقضايا الاحتباس الحراري.

يلخص فيكتور فرانكل في كتابه (البحث عن المعنى) تجربته الإنسانية بكونها بحثًا عن المعنى، وأن الجميع قادر على إيجاده بغض النظر عن الحالة الاجتماعية والمادية، وذلك عن طريق ثلاث وسائل غالبًا: العمل الذي نجد فيه هدفًا نحقق فيه ذواتنا، والحب الذي نقدمه للآخرين ونتبادله معهم، وأخيرًا المعاناة التي نعيشها أو نتشاركها مع غيرنا، فهو يرى أن المعاناة أساس التجربة الإنسانية والأجدر بنا أن نتقبل مصيرنا ونتعلم كيف نستجيب لتلك المعاناة عن طريق إيجاد هدف أعظم وأسمى [3]. وقد عاشت جولي جميع تلك التجارب لكنها لم تتعايش وتتقبل أيًا منها، وأرادتها أن تكون كاملة خالية من النقص.

البحث عن المعنى المؤدي للسعادة ليس في العالم الموضوعي، بل في دواخلنا جولي كانت غير سعيدة، ولتحمي نفسها من الحزن والوحدة الذي صاحبها لفقدان المعنى غمرت نفسها بسعادة لحظية، ولكنها مدمرة كالخيانة والمخدرات، ربما كان لا بد لها أن تمر بالمعاناة وتتقبل ما حدث لها، حتى تصل إلى معنى أعمق لوجودها.

في كتاب مفارقة الاختيار للكاتب والطبيب النفسي باري شوارتيس ذكر أن عالمنا اليوم مليء بالخيارات اللانهائية التي من المفترض أن تسعدنا وتشعرنا بالوفرة، ولكننا وجدنا أنفسنا أكثر قلقًا واضطرابًا وقد تصيبنا بالشلل، لأننا حين نختار مسارًا ما فهذا يعني أننا قد نرفض مسارًا آخر قد يكون هو الأفضل والأجدى [4].

كانت العادات والتقاليد في السابق هي التي تشكل مسار الحياة، فتمنح الإنسان معنى واضحًا لحياته ودافعًا يساعده على المضي قدمًا، نرى ذلك في تصوير الفيلم لحياة والدة جولي وجدتها والنساء اللائي سبقنهم، حتى إنهن في عمر الثلاثين كنَّ قد نجن في حياتهن المهنية والزوجية والإنجاب، لكن جولي تخشى أن تعيش حياة نمطية تعيسة وترى ذلك في الإنجاب وتكوين أسرة. هي لا ترفض الإنجاب بالمجمل، ولكنها تراه عائقًا عن تحقيق ذاتها والنجاح العملي، جولي تعتز بقيمة الحرية، ولكن الحرية لا تعني دائمًا السعادة، بل تعني المزيد من الخيارات وبالتالي المزيد من القلق والضغوط. إن كثرة الخيارات في الحياة تجعل الانسان أكثر قلقًا وبحثًا عن الأفضل، بينما كانت الماضي كانت قلة الخيارات تجعل الإنسان راضيًا إلى حد ما حول ما اختاره، وينطبق ذلك على الأشياء المادية والعلاقات العاطفية والزواج. وقد عبر سارتر عن ذلك القلق الوجودي بقوله: "إن القلق هو الإقرار بإمكانية بوصفها إمكانية"، بمعنى أن الإنسان المعاصر يدرك أن لا سلطة عليه وأنه حر في اختياراته، والقلق الوجودي الناتج عن مسؤولية تحمل الإنسان لاختياراته هو حتمية مرتبطة بهذه الحرية. ولكن فلسفة ساتر تعظم من شأن المسؤولية الأخلاقية التي تحث على العدالة والقيم العليا [5].

فمعنى أن نختار شيئًا هو استبعاد للفرص الأخرى فنقع في فخ التساؤل والتشكيك، هل نحن نختار الأفضل؟ وفي خضم كل هذا نحن نفقد إحساسنا بالمعنى والسعادة، فهذه الحرية المطلقة قد تتركنا في مواجهة ذلك القلق الوجودي.

نجد أيضًا أن عامل الوقت قد لعب دورًا رئيسًا في أحداث الفيلم، في إحساس جولي بمرور الوقت بدون تحقيق إنجازات، وإحساسها بالضياع وتسرب الزمن، وتوقف الوقت وجريها في أنحاء مدينة أوسلو للوصول إلى العلاقة الأخرى بالصدفة، وندمها الأخير على تضييع الوقت وقضائه مع أكسيل في لحظاته الأخيرة.

إن رسالة الفيلم تتعلق باتخاذ القرار والبدء في الإمساك بزمام الأمور وليس انتظار الحلول، وإدراك أن الأمر الأهم هو البدء بالعيش واستشعار الحياة من حولنا بحلوها ومرها لأنه عندما ينتهي اليوم، لن نستعيده مجددًا. فجولي كانت تحس أنها عالقة في حياتها، ولكنها لا تدرك أنها من اختارت ذلك. في عصرنا الحالي نحن مؤلفي قصصنا، نحن من نكتب فصولنا بأنفسنا واختياراتنا، لذا علينا أن نلعب الأدوار الرئيسة فيها ونتوقف عن كوننا على دكة الاحتياط.

رابعًا: نقد الأسلوب

استخدام الفيلم السرد المقسّم إلى فصول، إذ يتيح هذا التقسيم سردًا غير تقليدي يعكس مراحل تطور الشخصية ونموها، ويساعد على فهم نفسية جولي وتطورها. ويمكن الوقوف على أبرز الأساليب المستخدمة في الفيلم من خلال الآتي:

1- أبرز اللقطات الموجودة في الفيلم

أضافت الصور الجمالية في الفيلم بعدًا آخر يعمق الإحساس بالمشاهد ويمنحه روحًا، كالفصل (مسرح جولي التهكم)؛ حيث استطاع المخرج أن يصور طبقات إضافية من شخصية جولي، كعلاقتها بوالدها، مخاوفها المتعلقة بالشكل والتقدم في العمر.

إضافة إلى لقطة توقف الزمن لتتحرر من علاقتها مع أكسيل، ويتوقف الزمن في مدينة أوسلو لتصل إلى إيفيند وتقضي معه اليوم، ثم ترجع إلى أكسيل وتطلب الانفصال. فالمشهد يعكس الرغبة في التحرر وهروبها من الواقع وإيجاد لحظات يكون فيه الكون كله متوقفًا لتستطيع أن تقضي اليوم مع العلاقة الأخرى بمعزل عن واقعها والناس والمجتمع.

2- السيناريو والحوار

ما يميز الفيلم ليس الأحداث المثيرة والصراعات العنيفة، بل الحوارات الموجودة فيه، ويمكن اختصارها بأنها بسيطة وعميقة وواقعية. فقد كان الحوار في الفيلم ينتقل بين الراوي والحوارات بين الشخصيات، بحيث جاء دور الراوي في مقدمة الفيلم لإيصال المشاهد بسرعة حول الوضع العام لجولي، من هي وماذا درست، إضافة إلى سرد جاف للحقائق وكأنها تحكم على الآخرين.

غالبية الحوارات كانت سطحية وسريعة إلا الحوارات التي دارت بينها وبين أكسيل، كانت حوارات ممتدة ومتعددة الطبقات، ونجد أنها أهم الحوارات التي كانت موجودة في الفيلم وتحمل دلالات نفسية مهمة، ووجودية معمقة.

من أهم الأسطر في الحوار:

الحوار بينها وبين أكسيل وقت الانفصال: في الفصل السادس بعنوان (توقيت سيئ) يُعدّ أبرز لحظات الفيلم ويحمل عمقًا دراميًا وفنيًا. كانت جولي قد قررت ترك أكسيل، "أكسيل، نحن بحاجة إلى التحدث"، معلنة بذلك عن أنها تريد الانفصال عنه، وقد كان دور الراوي في الفصل مختلفًا، فهو يعيد ما تقوله أو يؤكد على ما تشعر به، أما أكسيل فكانت ردوده عبارة عن محاولات لإقناعها بالعدول عن قراراها، فهو شخصية لديها رؤية ثابتة عن المستقبل ومستقر نفسيًا على عكس جولي التي تعيش حالة من الارتباك والضياع وفقدان للمعنى.

تتغير الحالة المزاجية والنفسية للشخصيات ويحتد الحوار ثم يهدأ، نجد أن الكاتب حاول استخدام مستويات الصدمة أو نموذج كيوبلر روس المعروف باسم (مراحل الحزن الخمس): الإنكار (عدم التصديق)، الغضب، المساومة، الاكتئاب والتقبل.

1. الإنكار: على حوار أكسيل: في قوله: هل ستتركينني؟ هل أنت على طبيعتك؟ ويبدو عليه التعجب وعدم التصديق.

2. ثم الغضب منها وطلبه منها الرحيل وحزم أمتعتها. وقد كانت ردود جولي مليئة بالأعذار "إنه يستحق امرأة أكثر استقرارًا. ومستعدة لإنجاب الأطفال".

3. لكنه عاد إلى المساومة وأنه يحتاج امرأة مثلها وأنه لا يرغب بالإنجاب إذا لم تكن هي راغبة، ولكن جولي كانت مصرة على الانفصال فأخبرته بأنها تحبه ولا تحبه (الذي يأتي ولا يأتي)، في دلالة على شعورها بأنها عالقة بين حبها له ورغبتها في التحرر والتحكم في حياتها.

4. يدخل أكسيل مرحلة الاكتئاب ويعبر عن إحباطه حول الانفصال بطريقة مباشرة وصادقة، تعبر عن رؤيته المختلفة للحياة التي تميل إلى الاستقرار والرؤية التقليدية عن جولي التي تعبر عن نفسها بتردد وتناقض الذي يعكس رؤيتها المتزعزعة عن الحياة.

5. يتغير المشهد وتتغير الحالة المزاجية إلى الهدوء والتقبل وهي آخر مراحل الصدمة، فيبدآن بالاعتذار من بعضهما، قال لها إنها ستندم وإن ما بينهم كان مميزًا، وأخبرته أنها متأكدة من ذلك وأنها من الممكن أن تعود.

يدور الحوار في منزل أكسيل الذي تشاركته معه، في فضاء مغلق، بين مفهومي الفوضى والحرية، فخروجها من المنزل في آخر المشهد قد يدل على تحررها من علاقتهما، والفضاء المكاني الذي كان يجمعهم، ولكنه يعني عودتها إلى فوضى الخيارات والضياع النفسي.

الحوار بينها وبين أكسيل في المستشفى: في الفصل العاشر (المتكلم المفرد)، يمثل المشهد ذروة التوتر العاطفي والتأثير في الفيلم، يتناول مفاهيم الندم، والحب بين الشخصيتين والبحث عن المعنى؛ حيث تذهب جولي لزيارة أكسيل في المستشفى ويبدأ الحوار بينهما بشكل صادق، قد يمثل الاعترافات الأخيرة بين الطرفين وتصفية الحسابات بينهما فلا وجود لدور راوي وسيط بينهم، بل كان حوارًا حرًا مباشرًا. وقد حاول أكسيل أن يضيف على حواره مع جولي بعض الفكاهة، بجكم أنه كاتب مجلات هزلية، وذلك لإضفاء بعض المرح في حواره الأخير معها، وربما لتهوين ذلك الحزن الذي اعترى ملامح جولي تجاهه.

أخبرها أنه كان يتوقع أن يصاب بالمرض وأنه استسلم منذ وقت طويل، وبدأ بمتابعة أفلامه القديمة والموسيقى والقصص المصورة، والمنتجات الثقافية التي نشأ فيها بوصفها كل ما يملك، وكل ما قضى حياته من أجله، وبالرغم من أنها لم تعطه نفس الأثر النفسي والعاطفي السابق إلا أنه استمر بذلك، فليس لذلك علاقة بالحنين إلى الذكريات أو الفن، بل خوفا من عدم امتلاك مستقبل، وتأكيدًا لوجود المعنى الذي يبحث عنه الإنسان حتى في أشد لحظات حياته حرجًا، وهو يواجه الموت.

إن ندمه الوحيد أنه لم يجعلها ترى مدى روعتها وأنها شخص صالح جدًا بعكس ما تشعر به تجاه نفسها، بسبب قضائها جل وقته في القلق حول المستقبل. فأكسيل هنا يظهر مزيجًا بين الحنين إلى الذكريات والحزن على المستقبل وعدم امتلاكه لإرث شخصي بعد رحيله. هو يعرف أن حياته ستنتهي فيحاول الاعتراف بكل شيء لجولي بأنها حب حياته كجزء من إرثه العاطفي، ومعناه الوجودي.

حين أخبرته أنها حامل، بعد تردد من الإفصاح له، كانت ترغب أن تجد لدى أكسيل بعض العزاء، ولكنها طلبته من رجل سيموت قريبًا، فقد أخبرها أنها ستصبح أمًا جيدة وسألها هل أنت متأكدة، كونها لم تخبر إيفيند عنه.

يتمثل الحوار بين نظرتين مختلفتين للحياة بين أكسيل الذي كان متقبلًا أن الحياة قصيرة، وقرر أن يختار عمله وما يريد القيام به، وبين جولي التي كانت ترى أن الحياة مليئة بالفرص التي لا تنتهي، ولكنها تدرك متأخرًا أن خياراتها لم تكن صائبة، وأن سعيها الدائم للبحث عن المعنى يأتي على حساب علاقات وأشخاص قد لا يعودوا، بعد أن فرطت فيهم.

تعود إلى إيفيند وتخبره عن حملها وأنها تعرف عدم رغبته في الإنجاب، بخلاف أكسيل سابقًا، ولا تعرف إذا كانت تريده هي أم لا، وأنها تشعر بأنها غير قادرة على إكمال أي شيء، وأنها تنتقل إلى شيء جديد طيلة الوقت.

لقد جعلها حوارها مع أكسيل تدرك أن عليها أن تبدأ بتحمل مسؤولية قراراتها والإمساك بزمام حياتها والمضي قدمًا. وفي حديثها إشارة إلى وصولها لحقيقة أنها كانت دومًا مترددة في اختياراتها، متزعزعة الرأي، فاقدة لذلك المعنى، ولكن إدراكها لذلك يمثل بداية الإمساك بالمعنى، فالحرية التي تنشدها لا تعني عدم تحمل مسؤولية حياتها واختياراتها.

حين يدور الحوار بينها وبين أكسيل ويقدمه الفيلم متدرجًا على عدة مستويات، نجد أن الفضاء المكاني كلما صغر زاد صدقًا وعمقًا في الأحاديث، جلس أكسيل وجولي في حديقة المستشفى في فضاء مفتوح، تناولا موضوعات عامة حول الثقافة المحلية والإرث الفني، ثم يليه فضاء مغلق في غرفة المستشفى فكان الحديث أكثر حميمية؛ حيث عبّر عن حبه لها وأنها ستصبح أمًا جيدة، يليه فضاء أكثر ضيقًا في سيارة جولي التي كانت تجوب بها أرجاء أوسلو؛ حيث باح لهها بخوفه من الألم والموت، وأنه لا يرغب أن يكون مجرد ذكرى أو أن يعيش من خلال فنه بل في شقته معها.

على عتبات الموت يجد أكسيل نفسه راغبًا في البوح بما في داخله من حزن وأسى على حبه الضائع ومستقبله، تاركًا جولي في صمت عميق وندم بالغ، يشاركها في ذلك مشاهد الفيلم وهو يتأمل حياته ومستقبله ومعناه الخاص في الحياة.

الخاتمة

بين فوضى الاختيارات في عالم مليء بالفرص، تجد جولي نفسها عاجزة عن الاختيار أو إكمال ما تبدأه، في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، جاء فيلم (أسوأ شخص في العالم) ليعيد لنا النظر حول معضلة الاختيارات، في رحلة بين اثني عشر فصلًا تحمل تجارب عدة تمر بها حياة البطلة في بحثها عن المعنى.

تجربة الفقد في الفيلم تجعلها تتعلم أن الانتظار لا طائل منه، وأنه لا بد للفرد أن يعي المسؤوليات التي تقع على عاتقه ويبحث عن السعادة في داخله لا في العالم المادي الخارجي، فالسعادة ليست هدفًا نسعى إليه ونحققه، بل هي رحلة الحياة بمشقاتها وصعابها، وتعلم الرضا بما حققه سعينا فيها.


    المصادر و المراجع
    ● كتابة النقد السينمائي، تيموئي كوريقان، المجلس الأعلى للثقافة، صفحة 89.
    ● أزمة القلق الوجودي في الرواية الحديثة، سامية بن طلحة، عمرو عيالن، حوليات جامعة قالمة للعلوم الاجتماعية والإنسانية المجلد /71العــدد 20 ديسمبر 0202، ص-924 9، ص 412.
    ● The paradox of choice, Barry Schwartz,99
    ● 5 Lessons from Viktor Frankl’s book “Man’s Search for Meaning”By Sean P. Murray May 17, 2018, https://www.realtimeperformance.com/5-lessons-from-viktor-frankls-book-mans-search-for-meaning/
    ● The Worst Person in the World (Joachim Trier, 2021) https://resource.download.wjec.co.uk/vtc/2022-23/wjec22-23_8-10/The-worst-person-in-the-world_factsheet.pdf
    ● One of the year’s best movies is about the worst person in the world (kind of), Alissa Wilkinson, Feb 3, 2022, 5:30 PM GMT+3, https://www.vox.com/22911380/worst-person-in-world-review
    ● GFF2022 Review: The Worst Person in the World, Calum Cooper, March 9, 2022, https://intheirownleague.com/2022/03/09/gff2022-review-the-worst-person-in-the-world/
    ● The worst person in the world" Review :Oslo, Her way,A.O.Scott, Feb. 3, 2022 https://www.nytimes.com/2022/02/03/movies/the-worst-person-in-the-world-review.html

  • [1] وُلد إبراهيم أحمد ناجي في القاهرة يوم 31 ديسمبر عام 1898م لأسرة مصرية مثقفة. نشأ في بيئة تفيض بالعلم والأدب، ممّا ساعده على تكوين خلفية ثقافية واسعة، حيث أتقن اللغة الإنجليزية والفرنسية، واطّلع على آدابهما. قد بدأ ناجي نظم الشعر في سن مبكرة، وأصدر عدة دواوين شملت مختلف أغراض الشعر، غير أن شعر الحب والعاطفة يكاد يهيمن على معظم قصائده. ومن أهم دواوينه: "وراء الغمام"، و"ليالي القاهرة"، و"الطائر الجريح"، و"أزهار الشر". وقد عدّه الأستاذ العقاد "شاعر الرقة والعاطفة"، إذ يُعدّ من أبرز شعراء العاطفة في عصره. لمزيد من المعلومات عن إبراهيم ناجي ينظر المراجع الآتية: - صالح جودت، "ناجي: حياته وشعره"، دار العودة، بيروت،1997م. - عبد الهادي عبد النبي علي، "إبراهيم ناجي: شاعر العاطفة والوجدان"، جامعة الأزهر- كلية اللغة العربية بالمنصورة، ع7، 1987م.
  • [2]إنريكي أندرسون إمبرت، القصة القصيرة، ترجمة: علي إبراهيم منوفي. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2000م، ص73.
  • [3] عبد السلام مسدى، "الأسلوبية والأسلوب نحو بديل ألسني في نقد الأدب"، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، ص 33.
  • [4]المصدر نفسه، ص17.
  • [5] محمد عبد المطلب، "البلاغة والأسلوبية"، الشركة المصرية العالمية للنشر، بيروت، ط1، ص 186.
  • [6] حسام أيوب، "أسلوبية الضمائر في ديوان" وراء الغمام" لإبراهيم ناجي"، مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الآداب والعلوم الإنسانية، مج25، ع1، ص146، بتصرف.
  • [7]محمد فتوح، "جدليات النص، مجلة عالم الفكر"، الكويت، مجلد22، ص 41.
  • [8] نور الدين دريم، "فاعلية الضمير في إنتاج الدلالة: دراسة أسلوبية في قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب"، جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف، ص31، بتصرف.