ندى سالم الشهري
التوجُّه والانطلاق نحو مجال الأدب المسرحي السعودي بالدراسة والنقد داخل المملكة وخارجها يُعَدّ ضمن توجهات رؤية المملكة الحديثة، التي جعلت من المسرح السعودي جزءًا من المنظومة الثقافية، فلقي الأدب المسرحي السعودي حضورًا مميزًا في الساحة النقدية، ولمعت عدة أسماء من المؤلفين المسرحيين السعوديين في هذا المجال، من بينهم: سامي الجمعان، وياسر مدخلي اللذان حازا جائزةَ وزارةِ الثقافة للمسرح والفنون الأدائيّة في دورتها الأولى عام 2021م، وعباس الحايك الذي حاز جوائز عديدة داخل المملكة وخارجها، مما جعل نِتاجهم الإبداعي مادةً خصبة للنقد، تستحق الوقوف الجاد عليها.
ومن جهة أخرى، تُعد (الدهْشة الدراميَّة) عنصرًا جوهريًا في الفن المسرحي، مُمثلةً أحد أهم ركائز التجربة المسرحية، من خلال قدرتها على جذب انتباه الجمهور، وتحفيز خياله، وإثارة فضوله وتساؤلاته، وفتح آفاق التأويل لديه، مما يُعمق تجربته. ويُعدّ توظيف إمكانات اللغة في النص المسرحي ركيزة أساسية لتحقيق هذا الهدف، من خلال مجموعة من الآليات الإبداعية التي تُعزز من بناء عنصر المُفاجأة، فتتجاوز اللغة اقتصارها على التواصل فحسب، لتصبح مُحركًا رئيسًا لإثارة مشاهد الدهشة الدراميَّة.
ويأتي الاهتمام بعنصر (الدهشة الدرامي) بوصفه دائم الحضور في المسرح، ويُمكن تعريفه بأنه حالة من الذهول التي تنتاب الشخص نتيجةَ تلقيه مواقف تُخالف توقعاته أو غير مألوفة عليه، ويتمازج معها بعضًا من المشاعر كالخوف والارتباك والتوتر، التي تُحيل إلى الصمت وتوقف الحركة أحيانًا.
ويمكنُ الإشارةُ إلى مجموعةٍ من الأسباب التي دفعت للبحثِ في هذا الموضوع، التي تمثلت في أن الصور الدراميَّة في النص المسرحي مادة خصبة للنقد؛ لأهميتها، ووظائفها، وأثرها في الجمهور، إضافةً إلى تنوع مقاصد عنصر (الدهشة) في الأعمال المسرحية السعودية وغِناها، وتوظيفها بصورة واعية أسهمت في إثراء العمل المسرحي وتعميق دلالاته.
ومِنْ ثَمَّ، فقد تمثَّلتْ مشكلةُ البحث في ظهورِ مجموعةٍ متنوِّعةٍ من النصوص المسرحية التي زخرتْ بها (مشاهد الدهشة الدراميَّة) فتوجه البحث للكشف عن مدى فاعلية استخدام التِّقنياتِ اللُّغويـَّة وتفاعلها مع آليات المسرح وعناصره لتجسيد (مشاهد الدهشة الدراميَّة) وتحقيق إيصالها للمتلقي، من خلال البحث عن إجابة مجموعةٍ من التساؤلات النَّاتِجةِ عن تلكَ المشكلةِ، وهي:
- ما التِّقنياتِ اللُّغويـَّة التي يمكن توظيفها لتجسيد مشاهد الدهشة الدراميَّة؟
- كيف تتفاعل اللغة مع تقنيات المسرح وعناصره لإنتاج مشاهد الدهشة الدراميَّة؟
ويهدف البحث إلى دراسة النصوص المسرحية من خلالِ تحليل التقنيات اللُّغويـَّة المستخدمة في النصوص المسرحية، والتعرف على كيفية إسهامها في تحقيق مشاهد الدهشة واللحظات الحاسمة في العمل المسرحي، إضافةً إلى فحص تفاعل اللغة مع تقنياتِ المسرح وعناصره، كالأصوات والإضاءة والديكور وغيرها من العوامل المتضافرة لتوليد مشاهد مُدهشة للجمهور.
وبما أنَّ التقنيات اللُّغويـَّة هي مدخل البحث الرئيس فإنَّ أهمِّيةَ البحث نبعت من الكشف عن إمكاناتِ اللُّغة وتكاملها مع أدوات المسرح وعناصره لإنتاج (مشاهد دهشة دراميَّة) تجذب المتلقي وتُثير تساؤلاته.
اعتمد البحث على المنهج البنيوي ونظرية التلقي لتحقيق أهدافه؛ حيث تُركز البنيوية على تحليل البنية اللغوية للنص المسرحي وتبيان دورها في إحداث مشاهد الدهشة الدرامية، بينما تهتم نظرية التلقي بدراسة استجابة المتلقي وتفاعله مع تلك المشاهد، ويُعدّ الجمع بين هذين المنهجين مُناسبًا لطبيعة البحث؛ لأن عنصر الدهشة بطبيعته يستلزم تفاعلًا متنوعًا بين النص والمتلقي.
وتمثلت عينة البحث في ثلاثة نصوص مسرحية سعودية مُنتقاة بحسب ثراء عنصر الدهشة بها، وهي: نص (جراح بن ساطي) لسامي الجمعان، ونص (الحرب حُبًّا) لياسر مدخلي، ونص (محطة الأرواح الضالة) لعباس الحايك.
وتُشير نتائج استعراض ما أُنجزَ من دراساتٍ سابقة للبحث، إلى وجود دراسات تناولت موضوعات قريبة من مجاله، إلا أنها لم تتطرق بشكل مباشر إلى مشاهد الدهشة الدرامية -تحديدًا- في النصوص المسرحية السعودية.
وعلى ذلكَ، تكوَّنَ البحثُ النقدي منْ مقدِّمةٍ وتمهيدٍ ومبحثين، وخاتمةٍ أُتبِعَتْ بقائمةِ المصادرِ والمراجعِ، فهي على النَّحوِ الآتي: استهل البحث بتَّمهيدِ عُرف فيه عن الدهشة الدرامية، والنص المسرحي السعودي، وعُنوَنْ المبحث الأوَّلَ بالتقنياتِ اللغوية لتجسيدِ مشاهدِ الدهشة الدراميَّة، تناولتُ فيه أبرز التقنيات كالحوار الداخلي (المونولوج)، والتناقض بين التوقع والواقع، والمجاز اللغوي، والنهايات المفتوحة. وجاءَ المبحث الثاني موسومًا بـعنوانِ: "تفاعلُ اللغة مع تقنياتَ المسرح وعناصره لتجسيد مشاهد الدهشة الدراميَّة"، تناولتُ فيه التباين والرمزية في المنظر المسرحي، وكسر الحائط الرابع، والتلاعب الصوتي، وشخصنة الجمادات، ثمَّ جمعتُ في الخاتمةِ أهمَّ ما توصَّلَ إليهِ البحث من نتائجَ وتوصياتٍ.
التمهيد
- مَاهيَّة الدهشة الدَّرامية
تُعَدّ الدهشة الدَّرامية أحد أبرز العناصر التي تُسهم في تكوين التجربة المسرحية وإثرائها، ويُعرف هذا المفهوم بأنه "حيرة، وذهول، يعتري الإنسانَ من حالة ناشئة عن حدوث أمر غير متوقَّع ومفاجئ"[1] ، فهي في جوهرها "إفراط في التعجب"[2] ، وتبرز الدهشة في المسرح بوصفها تقنية متأصلة في الإبداع الدرامي، إذ توصف بأنها "حالة من الانفعال الوجداني الشديد والذهول والعجز عن استيعاب حدث ما مفاجئ وغير متوقع ... مع ما يصاحبها من تغيرات نفسية كالشعور بالتوتر والحيرة والألم كذلك" [3]، وتتجلى الدهشة الدراميَّة في النص المسرحي السعودي عبر توظيف عدة تقنيات من خلال لغة النص وإمكانية تفاعلها مع عناصر المسرح وتقنياته.
- التعريف بالنَّص المسرحي السعودي
تجدُر الإشارة إلى أسبقية النص المسرحي على وجود المسرح في المملكة العربية السعودية، إذ نشرت المطابع السعودية نصوصًا مسرحية عدة، كنص (الظالم نفسَه) ١٩٣٢م، و(جميل بثينة) ١٩٤٢م، و(غرام ولادة) ١٩٥٢م لحسين عبد الله السراج، و(الهجرة) لأحمد عبد الغفور عطار ١٩٤٦م، و(العم سحنون)، و(الشياطين الخرس) لعبد الله عبد الجبار 1954م [4]، فتلك النصوص المسرحية المنشورة مؤشِّر واضح يُدلِّل على وعي الكُتّاب المسرحيين السعوديين بضرورة نشوء مسرح في بلادهم يضم نشاطهم الإبداعي في هذا المجال.
تنوَّعت اتجاهاتُ النصوص المسرحية السعودية؛ حيث اتجه بعضها إلى التاريخ من خلال الاستلهام من الموروث التاريخي، فيعتمد النص على المادة التاريخية الجاهزة ويبُثها من خلال رؤية جديدة، كتحريكها من الماضي إلى الحاضر، كما في: (فتح مكة) لمحمد مليباري، و(مسيلمة الكذاب) لعبد الله العباسي، و(وامتعصماه) لأحمد الدبيخي. وفي المقابل، اتجه بعض الكُتّاب إلى انتزاع فكرة النص المسرحي من صميم الأوضاع الاجتماعية والمشكلات الحقيقية المحيطة به، وهو ما يُمثل اتجاه النص الاجتماعي، كنص (آخر المشوار) لعبد الرحمن الشاعر، ونص (بيت من ليف) لناصر المبارك، وغيرهم. وإلى جانب ذلك، تميزت بعض النصوص المسرحية بالحس الكوميدي (كطبيب بالمشعاب)، و(المهابيل)، و(مونوكيليا) لإبراهيم الحمدان، بينما اتسمت نصوصٌ أخرى بالطابع الشعري، كالمسرحية الشعرية (غرام ولادة)، و(الشوق إليك) لحسين عبد الله السراج، الذي اعتمد على النثر في سردِه، وعلى الشعر بين حوار شخصياته[5].
وفي اتجاه آخر لجأ بعض الكُتّاب إلى الرمزية بدلًا من المباشرة في طرح الأفكار، وهو اتجاه دراما الذات والأقنعة، كمسرحيات (مع الخيل يا عربان، وعويس التاسع عشر، وشدد بن عنتار) لراشد الشمراني، و(البطيخ الأزرق، والسنين العجاف) لمحمد العثيم، ومسرحية (الموت الأخير للممثل) لرجاء عالم[6] . وعلى جانب آخر اتجهت بعض النصوص المسرحية الأخرى نحو التجريب، من خلال التحرر من القوالب السائدة والخروج عنها لتجربةِ وطَرقِ أشكالٍ جديدة، وذلك من خلال صياغة وابتداع أساليب وأفكار وشخصيات حديثة، كمسرحية (البابور، بيت العز، شدت القافلة، النبع) لفهد ردة الحارثي، و(الأقنعة) لعبد الله باخشوين التي شكَّلت الجريمة والقتل أساسَه، فهو نص بوليسي امتزج بين الحقيقة والوهم فحقق المتعة والدهشة[7].
ولا بد من الإشارة إلى أن مسرح الطفل كان له حضورًا بارزًا في المسرح السعودي، فللأطفال نصيب من النصوص المسرحية السعودية، وقد عُدّ عبد الرحمن المريخي رائدًا لهذا الاتجاه من خلال مسرحياته (يوميات بناي) التي مزج بها بين التمثيل والغناء، وأيضًا (ابن آدم قادم)، وغيرها [8].
وخُلاصة القول، طرقتْ النصوص المسرحية السعودية معظم الاتجاهات، وهذا إن دل على شيءٍ فيدل على وعي الكُتّاب المسرحيين وعدم الارتجال في هذا الجنس الأدبي، فلم يكن هذا التميز الكتابي بمحض الصدفة، وعليه اُختِير لعيّنة البحث نصوصٌ مسرحية سعودية حفلت بها مشاهد الدهشة الدراميَّة، وفيما يلي تلخيصًا موجزًا لهذه المسرحيات:
- ملخص النص المسرحي (جراح بن ساطي) لسامي الجمعان:
كُتب النص المسرحي عام ٢٠٠٣م، من الكاتب المسرحي السعودي سامي عبد اللطيف الجمعان، الذي لم يقتصر إبداعه على التأليف المسرحي فحسب، بل امتد إلى مجالات متعددة، فهو شاعر غنائي، وممثل، وباحث، وناقد، وأكاديمي، ومُخرج مسرحيّ، وله مسيرة ثرية ومميزة في المجال المسرحي. صدر له عدد من الكتب المسرحية والنقدية، وحازت نصوصه المسرحية العديد من الجوائز بين أبرز الإبداعات العربية.
دارت أحداث نصه حول شخصية الشيّال (جراح) الذي ظل متمسكًا بفكرة البقاء في الميناء المهجور، وعدم مغادرته والانتقال مع بقية رفقائه الشيّالين إلى الميناء الجديد، الذين ذهبوا مُتتَبِّعين رزقهم أينما كان، فقبع (جراح) وحيدًا في الميناء محاولًا إصلاح الفنار وتعليق القنديل به، آمِلًا أن تستدل عليه أي سُفُن تقصد الشواطئ، إلى أن وصل مسافرون -أربع شخصيات وطفل- قد تحطمتْ سفينتهم بالقرب من الميناء، فاستقبلهم (جراح) بوافر الحفاوة والكرم وظلوا في ضيافته قرابة الثلاث أشهر، إلا أنهم قابلوا تلك الحفاوة بالاستغلال والغدر واللؤم؛ حيث بنوا لهم قصورًا مكان بيت (جراح) وهدموا الفنار وطردوه، وظل (جراح) في صراعٍ معهم إلى آخر حدث مسرحي.
- ملخص النص المسرحي (الحرب حُبًّا) لياسر مدخلي:
كُتب النص المسرحي عام ٢٠٠٣م، من الكاتب المسرحي السعودي ياسر بن يحيى مدخلي، وهو كاتب وباحث ومدرب مسرح، حازت نصوصه المسرحية على الكثير من الجوائز.
تجري أحداثُ نصِّه في قرية تُدمر بفعل الحرب، وتبدأ المسرحية بصوتِ صرخات مولودٍ جديد، انبثق صوته من وسط أصوات القنابل والطائرات الحربية، وهي إشارةٌ إلى ولادةِ حياة جديدة من رحم الدمار، يعمل والد الطفل ضابط مُدافع عن شرف البلاد، منشغلًا بمهامه العسكرية عن أسرته الصغيرة، ذلك الانشغال الذي يُعمق إحساس الزوجة باليأس من عودة زوجها سالمًا، خاصةً مع تتابع أصوات الانفجارات، وتلتقي صدفةً برجل عطوف يساعدها وابنها على النجاة، إلى أن تعثر الأم مصادفةً على زوجها لتعود العائلة وتجتمع -مؤقتًا- لأن الحروب تأبى إلا أن تفرقهم مُجددًا، فتتمكن من سلب الأم، وترك المولود مع أبيه الضابط والرجل المواطن، فتظهر (سُعاد) وهي امرأة شابة تُسهم في رعاية الطفل وصنع الطعام، فينشأ صراعًا جديدًا حين يكتشف (الرجل) نوايا (الضابط) الشهوانية تجاهها، ويتطور الصراع إلى أن ينتهي باتفاق سريع بين (الرجل) و(سُعاد) أدى إلى طعن الضابط، ومغادرتهما المكان حاملين (الطفل) معهم نحو مستقبل مجهول.
- ملخص النص المسرحي (محطة الأرواح الضالة) لعباس الحايك:
كُتب النص المسرحي عام ٢٠٢٢م، من الكاتب المسرحي السعودي عباس أحمد الحايك، وهو كاتب نصوص مسرحية وكاتب سيناريو أفلام، صدر له عدد من الكتب المسرحية والنقدية، وحازت نصوصه المسرحية ومشاركاته على الكثير من الجوائز.
دارت أحداث نصِّه في غرفة انتظار محطة القطار التي احتجز بها مجموعة من الشخصيات العالقة في مرحلة البرزخ -مرحلة ما بعد الموت- فيدور في هذه الغرفة العديد من الحوارات بين الشخصيات حول ماضيهم المؤلم وخساراتهم الفادحة في الحياة الدنيا، وغيرها من الأحاديث الأخرى، كإظهار استنكارهم الشديد من وجودهم في هذا المكان، وأنهم لم ينتقلوا مباشرةً إلى الحرية والخلاص كما توقعوا، مع التأفف والغضب الشديد من سُلطة الحارس التي أجبرتهم على الانتظار الطويل لحين موعد إشارة الصعود على متن القطار والتحرر من هذه المرحلة والمضي قدمًا، إلى أن ينتهي النص دون أن يعطي الحارس أي إشارة لأحدهم، وهو ما يعني بقاء حالهم كما هو عليه.
وبعد استعراض ما سبق، يتجه البحثُ النقدي في صفحاته القادمة إلى استكشاف التِّقنياتِ اللُّغويـَّة وتفاعل اللغة مع عناصر المسرح وتقنياتهِ لتجسيدِ مشاهد الدهشة الدرامية في النُّصوص المسرحيَّة السعُودية الثّلاثة.
أولًا: التقنياتُ اللغوية لتجسيدِ مشاهدِ الدهشة الدراميَّة
تُعدّ الدهشة عنصرًا أساسيًا في العمل الدرامي؛ لكونها قادرة على جذب انتباه المتلقي وإثارته، ومع ذلك فإن تحقيق هذه الدهشة يعتمد على اللغة بالدرجة الأولى، فهي الأداة الفاعلة التي يوظفها الكاتب المسرحي عبر تقنيات متعددة، كالاستعارة، والحوار الداخلي، والحوار الغامض، والمفارقة، والتلاعب بالألفاظ، والتكرار، وترك نهاية النص مفتوحة وغيرها من التقنيات اللغوية التي تجسد المشاهد الدرامية بفاعلية. وفيما يأتي تحليل تفصيلي عن أبرز تلك التقنيات اللغوية التي برزت في النصوص المسرحية السعودية، مع التركيز على دورها في إحداث مشاهد (الدهشة الدراميَّة): الحوار الداخلي (المونولوج):