رفعة محمد الغامدي
المقدمة
تلعب الترجمة دورًا أساسيًا في تعزيز التواصل والتفاعل والانصهار بين الثقافات والشعوب؛ حيث تُسهم في تجاوز الحواجز اللغوية، مما يتيح تبادل الأفكار والمعارف والثقافات، وتُسهم في بناء روابط ودية ونفعية بين الأمم.
وعندما تقوم الترجمة بهذا الدور المؤثر؛ فإن ذلك يسلط الضوء على المسؤولية التي تقع على كاهل المترجم، ففي عالم الترجمة الأدبية يتعين على المترجم أن يكون فنانًا وساحرًا في آن واحد، حساسًا للتفاصيل والتراكيب اللغوية، محافظًا في الوقت ذاته على جوهر النص وسحره الأدبي المتمثل في الثيمات بكل أشكالها وتفرعاتها.
فعندما يقوم المترجم الأدبي بإعادة إنتاج لنص مماثل إلى حد ما للنسخة الأصل؛ فإن ذلك يتعلق بكيفية إدراكه لأفكار النص وثيماته من بدايته إلى نهايته، متسلحًا بالقراءة والاطلاع، متعرفًا على ظروف نشأة النص الأصلي وأبعاده الثقافية العامة والخاصة، مع احترام الروح الأصلية للنص الأصل.
يشير بيتر نيومارك إلى أن الترجمة قد يكون لها أهداف لدى المترجم، فعملية ترجمة معنى النص الأصلي إلى معنى مختلف وفقًا لنية المؤلف، وعدّ الترجمة ليست مجرد استبدال كلمات، بل هي نقل للمعاني بما يتناسب مع الخلفية الثقافية للقارئ[1] يقودنا هذا التلميح (بنية المترجم وهدفه من الترجمة) إلى ما يجب أن يتخذه كطريقٍ يقوده إلى ترجمة فنية تتحرى الصدق والأمانة، ولكن تتمتع بحرية ومرونة تفرضها الجماليات في النصوص الأدبية.
إن دور الكاتب أن يتبنى ثيماته الخاصة، لا يعبر عنها بصراحة، ولكنه يرتبط بها ويخلص في دسها بين السطور والمتلقي يستشعر وجودها ويكتشفها تدريجيًا من خلال قراءة النص ومعرفة شخوصه وأحداثه، بينما ينقل المترجم الثيمات من خلال الترجمة حسب هدفه، وبما يتناسب مع أفكاره وثقافته.
موضوع الدراسة
ستتناول الدراسة الثيمات الأساسية وتشكلاتها في القصة المترجمة إلى اللغة العربية (قطار الرابعة وثمان دقائق) للكاتب رونالد لارسن[2] من مجموعة الرجل الذي يحب العناق للمترجم السعودي عبد الله الطيب[3] أنموذجًا.
منهج الدراسة
تحليل الثيمات الأساسية في النص المترجم إلى اللغة العربية بالمنهج الموضوعاتي ومقارنتها بالثيمات في النص الأصلي (الإنجليزي).
أسئلة الدراسة
● ما الثيمات الأساسية في النص الأصلي (الإنجليزي)؟
● هل حافظ المترجم على شكل الثيمات في النص المترجم (العربي)؟
● ما الأسباب التي قد تدفعه للتغيير أو الحذف أو الإبداع في نقل الثيمات أثناء الترجمة؟
خطة الدراسة
أهدف في هذا البحث إلى استقراء الثيمات في العمل المترجم إلى اللغة العربية ومقارنتها بالثيمات الأصل في العمل المكتوب باللغة الإنجليزية؛ وذلك باستخدام المنهج الموضوعاتي من خلال تحليل الشواهد في مقاربة دلالية وتفسير مواضع الحذف والتغيير والإضافة والنقل اللغوي الحرفي.
ومن خلال هذه الدراسة سنتعرف على معنى مصطلح (الثيمة)، الثيمات هي الفكرة الأساسية وتفرعاتها في القصة، وتجدر الإشارة إلى أنه مصطلح يتقاطع مع مصطلح الموتيف Motive؛ حيث يعتقد البعض أنهما مصطلحان للمعنى نفسه.
ويميز محمد عناني[4] -اعتمادًا على جيرالد برنس[5] - بين الفكرة (Thème) والموضوع (Motif) (أو الموضوع الرئيس– Leimotif) على أن الفكرة مجردة والموضوع مجسد.
الثيمة هي التي تعطي للقصة معنى ومغزى، قد تكون الفكرة الأساسية، أو وجهة النظر، أو فرضية، أو شعورًا موحيًا بالحزن أو الشفقة أو التفاؤل وغيرها. إنها ما يكتشفه القارئ ويبقى عالقًا في نفسه بعد قراءة العمل الأدبي أو مشاهدة الفيلم أو المسرحية.
ليس من الضروري أن تكون الثيمة مثالية فقد تكون متشائمة أو ساخرة أو شريرة.
وأفضل الثيمات هي التي تكون أكثر تحديدًا وأشد ارتباطًا بالجمهور المستهدف، ويجب أن تكون حاضرة في السطور، لا يفقد القارئ الصلة بها في فترة ما أثناء قراءة النص. ستُقسم الدراسة إلى أربعة مباحث:
المباحث الأربعة
● المبحث الأول: ثيمة الحب والوفاء.
● المبحث الثاني: ثيمة الوقت والذاكرة.
● المبحث الثالث: ثيمة الموت والحياة الآخرة.
● المبحث الرابع: ثيمة آثار الحرب.
حبكة القصة
تدور حول فتاة أمريكية مسيحية تقع في غرام شاب أثناء حفل راقص، ولكنه لا يلبث أن يغادر إلى المعركة بسبب الحرب الأهلية بين الولايات الأمريكية ويغيب عنها تقريبًا ثلاث سنوات برغم وعده المتشدد في العودة، وبالذات على قطار يصل في الساعة الرابعة وثمان دقائق، يتكرر مشهد انتظار الفتاة في محطة القطار، ولكنها لا تجد حبيبها وتستمر بالذهاب موفية بعهدها موقنة بوفائه هو الآخر بعهده، حتى بعد أن أصبحت عجوزًا، وبعد نهاية الحرب تجده في النهاية ينزل من القطار ويلتقيان ويرى كل منهما الآخر لتتفاجأ الفتاة بأنها ميتة وروحها هي التي ترى حبيبها الذي صار روحًا بلا جسد منذ سنوات طويلة، وكان يحوم حولها ولكنها لا تراه.
المبحث الأول:
ثيمة الحب والوفاء
تعرض القصة حب دلتا الذي لا يتزعزع والتزامها بالوفاء لجوشو؛ حيث تنتظره لسنوات طويلة برغم وجود الفرص الكثيرة للاقتران بشاب آخر لما تتمتع به من جمال، مؤمنة بوعده بالعودة، كما آمن هو بحبها لها ووفائها بانتظاره. يستكشف هذا الموضوع عمق التفاني، وكيف يمكن للحب أن يتجاوز الزمن وحتى الموت، إذا وفى الحبيبان بالوعود بينهما.
أنواع الحب والوفاء في القصة:
أول أنواع الحب في القصة هو حب الوالد لابنته، وحرصه على نشأتها وتربيتها تربية صالحة حسب التعاليم المسيحية، ودلاله لها عندما سماها (أميرة الدلتا)، والمقصود بها الفتاة الجميلة صاحبة الشخصية المميزة والذكاء العالي، ودلتا تعود نسبة إلى آلهة الحكمة الإغريقية أثينا. بل وأقام لابنته المدللة حفلًا خاصًا (Cotillion[6]) ليتسنى لها أن تجد زوجًا مناسبًا.
“Her daddy called her his Delta Princess.”
وحيث إن المؤلف لم يذكر شيئًا عن الأم، فإن وجود الأب كان قويًا ومؤثرًا في حياة ابنته؛ فقد حرص هذا الأب لشدة حبه لابنته أن يترك لها منزلًا ومالًا وفيرًا استطاعت به أن تعيش جل حياتها
“Her daddy died, leaving her the house and money”
لقد تناول المترجم هذه الجمل بنقل حرفيّ لا يتجاوز النقل المحايد الذي لا يهتم بما يخالف العقيدة الإسلامية من الأديان الأخرى المشركة؛ فاسم الفتاة الثلاثي (إليزابيث كاترين هولت) هو من تعاليم عقيدة الثالوث والتعميد أيضًا الذي يجهز الإنسان للتوبة المستمرة وتفريغه من الخطايا.
“She had been christened…”
أما في ترجمة (daddy) إلى "والدها" فقد قللت من ذلك الدلال الذي كانت تعيشه دلتا تحت كنف أب محب حنون إلى علاقة تبدو والدية رسمية. كما تعمد أن يحذف مفردة (cotillion) ربما لذات السبب الذي تجاهل لأجله المفردات المسيحية. فوصفه بقوله “حفلًا خاصًا لها" فأظهر ذلك جانبًا من رغد العيش الذي عاشته مع والدها المحب.
الحب الثاني الذي غيّر حياة دلتا هو حبها لجوشو الشاب الوسيم الذي التقت به في حفل موسيقي وقد قررا الزواج.
“They fell in love and would have married”
وعندما تطوع جوشو للحرب ودعته في محطة القطار وقد تشبث كل منهما بالآخر وتشاركا قبلة طويلة.
“Delta and Joshua clung tightly to each other and shared a long, lingering kiss”
تجنب المترجم وصف الحبيبين أثناء العناق كما ورد في النص الأصلي بأنهما تشبثا ببعضهما بإحكام ربما باليدين فقط، مراعاة لنظرات المارة وعادات المجتمع، ولكن المترجم استعان بوصف العناق بأنه حار ذاب فيه العاشقان مما أضاف لمسة رومانسية وجعل المعنى يتماشى بين حرارة القبلة وحرارة الجو في المحطة، وبرغم أن المترجم يعمد إلى التغيير والحذف أحيانًا لكن تغييره هنا جاء واصفًا الحب ولحظات الوداع بين العاشقين بشاعرية وحميمية تفوق ما جاء في النص الأصلي؛ تماشيًا مع اندفاع الشابين وحماسهما وافتتان كل منهما بالآخر.
وها هي تودعه وتصيح عاليًا بوعد أن تنتظره في المحطة عندما يعود
"Goodbye, Joshua,”she cried. “I’ll be here when you come back”
لم يذكر المترجم ذلك الصياح والبكاء؛ سواء أكان بكاء حارًا أم صاحت بصوت عال؛ مما أعطى دلالة البرود والهدوء على الفتاة في وداعها، وهذا ناسب الأسلوب المحافظ المتشدد الذي تعيشه المنطقة ولكثرة الحشود في المحطة آنذاك.