الأنساق الثقافية المضمرة في قصيدة (عباءة كوشية) للشَّاعرةِ ابتهَال تريتر (دراسة نقدية تحليلية)

أمجاد معيض الغامدي

يُعدُّ النَّقدُ الثقافيُّ نقدًا ما بعدَ حداثيٍّا ينظرُ إلى الأدب في اتِّصاله مع الحياة بمختلف مناحيها، ويمسُّ كثيرًا من القضايا الاجتماعيَّة والتَّاريخية والسِّياسية والفلسفيَّة وغيرها، وكثيرًا من المفاهيمِ كمفهوم الطَّبيعة والثَّقافة، واللَّاوعي، والهيْمنة، والأيديُولوجيا؛ مما يجعلُ التحليل الثَّقافيَّ هنا ينحو إلى تعريةِ الخطاب الاستعماريِّ المتسلِّلِ دون وعيٍّ إلى القصيدة.

إذا كانت اللُّغة بطبيعتها ترتبط بالثَّقافة من جهة التَّأثير والتأثُّر بينهُما، فما تُنتجه الثَّقافة الإنسانيَّة يحتاج إلى دالٍّ لغويِّ يدل عليه، ويتألفُ نظام العلامات اللُّغوية، الذي تنتجه الثقافة، من الأفعالِ التَّلفُظيَّة التي يؤدِّيها منتجو العلامةِ -البشر- في خِضم التَّفاعل بينَهم.

ونتيجةً لأفعالِ المتكلمين اللَّفظيّة في سياقِ الموقفِ أو الحالِ والتفاعلِ فيما بينهم في السِّياقات الاجتماعيةِ يظهرُ مسارُ (المعنى الثَّقافي) موازيًا لمعنى الملْفوظ. وعليه، يكون (السِّياقُ الثَّقافي) [1]نتيجةً لخبرتهم الحياتيَّة التي يسْتقونَ منها فهْمهَم وتفسيرَهم للعالم ، وتستطيعُ الثَّقافة -كما يعتقد أصحاب النَّقدِ الثَّقافي- أن تتحدثَ في النَّص ومن خلالِ اللُّغة عن نفسِها، فتكون مبدعًا آخرَ للعمل إلى جانبِ المبدعِ المؤلِّف؛ لأن اللُّغة مادةُ الأدبِ، والأدبُ بدوره تعبيرٌ عن الثَّقافة؛ مع مراعاةِ طبيعةِ الأدبِ، يشير ليتش إلى أنه "يمكنُ لمثقَّفي الأدب أن يقوموا بالنَّقد الثَّقافي دون أن يتخلَّوا عن اهتماماتِهم الأدبيَّة"[2] ، كما أنَّ النَّقد الثَّقافي نوعٌ من نقدِ التَّلقي والاسْتقبال الجماهيريِّ، ويعتمدُ المناهجَ النقديَّةَ التقليديَّةَ إضافة لمناهجِ ما بعد البُنيويَّة [3]؛ فيُفيد المنهجُ أدواته من عدِّة مناهجَ، ويسعى إلى تحريرِ النُّصوصِ من الانغلاق البُنيويِّ، ويقترحُ قراءةً تعي العلاقاتِ التي تربِطُ النُّصوصَ بواقعها وبما يتَّصلُ بها من ثقافةٍ وتاريخ، ويهتمُّ بالهامشِ وما يتعلَّقُ به[4] ؛ ما يجعلُ منهج البحثِ وصفيًا تحليليًّا مستعينًا بأدوات النَّقد الثقافيِّ.

عليهِ، يسعى البحثُ إلى الكشفِ عن المخبوءِ تحت جماليَّة اللُّغةِ والصُّورة الشِّعرية من الأنساقِ الثَّقافيَّة المُضمرةِ وآثارِ الخطابِ الاستعماري فيها، وذلك في قصيدةِ (عَباءة كوشيَّة) للشَّاعرة ابتهال تريتر [5]، ويعود سبب اختيارُ هذه القصيدةِ إلى حُمولتها الثقافيَّة الكثيفةِ وتناصَّاتها المتراكبةِ؛ إضافةً إلى جماليَّتها العالية، ويحاول البحثُ إبرازَ الطَّبيعةِ السَّرديةِ التي تجعلُ من النَّص قابلًا للاستهلاكِ من مختلفِ طبقاتِ المجتمعِ وما بينهم من تفاوت، فالنَّسقَ من جهةِ دلالتِه مصنوعٌ من قِبل الثَّقافة، ومستهلكوها جماهيرٌ يتساوى فيهم الصَّغير والكبير والمهمَّش والمركزيُّ؛ وبذلك يحملُ النَّسقُ طبيعةً سرديَّةً يتحرُّك وفقها في حبكةٍ متقنة تمكِّنُه من الاختفاءِ تحت قناعِ الجماليَّة اللُّغويَّة.

التمهيد

يدرسُ النَّقدُ الثَّقافيُّ الأدبَ بوصفهِ ظاهرةً ثقافيَّةً ذات حمولةٍ مُضمرة، فيربطُ الأدبَ بسياقِه الثَّقافي غيرِ المُعلنِ، ويتعاملُ مع النُّصوصِ بوصفها أنساقًا ثقافيةً مضمرةً تعكسُ مجموعةً من السِّياقاتِ -الاجتماعية والتاريخية والسياسية والإيديولوجية والاستعماريَّة وغيرها- فالأدبُ ليسَ نصًّا جماليًّا، بل نسقًا ثقافيًّا يؤدِّي وظيفةً ثقافيةً تُضمر أكثر مما تُعلن [6]، ولهُ -كأي منهج نقديٍّ- إرهاصاتُه وروَّاده واتجاهاتُه الفكريَّة الحاضنةِ له.

وممَّن أسهمَ في هذا المجال النَّاقد السُّعودي عبد الله الغذَّامي، وذلك بعدَّةِ دراساتٍ له لعلَّ أشهرهَا كتابه الموسوم بـ(النَّقد الثَّقافي قراءة في الأنساقِ الثقافيَّة العربيَّة)، وطرح في التَّمهيد سؤالَ: "هل الأدب شيءٌ آخر غير الأدبية؟" مُطلِقا به مشروعَه النَّقدي الذي دعا فيهِ إلى النَّظر للأدبِ بوصفهِ منتجا أبدعتهُ

-إلى جانبِ الإنسانِ- الثقافةُ، ويقترح مجموعةَ مقترحاتٍ لتفعيلِ أدواتِ النَّقدِ الثَّقافي ولبناءِ نموذجٍ خاصٍ به يوازي نموذجَ "جاكبسون" التَّواصلي في بحثه عن الأدبيَّة والجماليَّة، هادفًا منه إلى إقامةِ نظريَّةٍ تبحثُ في عيوبِ الجماليِّ وتكشفُ عن قُبحيَّاته [7].

يُضيف الغذَّامي على نموذجِ "جاكبسون" الاتصاليّ عنصرًا سابعًا هو "النّسق" ووظيفته النسقيّة؛ التي ستسْتَوجِبُ نوعًا ثالثًا من الجملِ إضافةَ إلى الجُملة النَّحويَّة والجملة الأدبيَّة، وهي "الجملةُ الثقافيَّة"، المتضمِّنة لدلالةٍ نسقيّة، بينما تكونُ دلالةُ الجملةِ النحويَّة صريحةً والجملةُ الأدبيَّةُ ضمنيَّةً، كما لا يكتملُ النَّموذج إلا بتوسيعِ مفهومَي "المجاز البلاغيِّ" و"التَّورية البلاغيَّة" بمفهومي "المجاز الكُلِي" و"التَّورية الثقافيَّة" [8].

ويوضِّح المصطلحاتِ الموضوعةَ اعتمادًا على العنصرِ المضافِ فيقول: إن "الدِّلالةَ النسقيَّة" قيمةٌ نحويَّة ونصوصيَّة مخبوءةٌ في المضمرِ النصِّي في الخطاب اللُّغوي، والدِّلالتَين الصَّريحة والضمنيَّة موجودتَين ضمن حدودِ الوعيِ المُباشر، أمَّا النسقيَّة فليست في الوَعي، بل في المُضمر، و"الجملةُ الثَّقافيَّة" حصيلةُ النَّاتجِ الدِّلالي للمُعطى النَّسقِي، وتمثِّل دلالةً اكتنازيَّة وتعبيرًا مكثَّفًا، ثم يتحول المجازُ البلاغيُّ الفرديُّ إلى "المجازِ الكلِّي" الذي يمثِّل قناعًا تمرِّرُ اللغةُ من خلفِه أنساقَها فتصيبُنا بـ"العَمى الثَّقافي"، وتبعًا له فـ "التَّورية الثقافيَّة" تعني وجودَ نسقيْن -وليس معنيَين- في الخِطاب، الأول واعٍ غير مقصودٍ والآخرُ مضمَر وهو المقصودُ في النَّقد الثَّقافي، و"النَّسق المضمرُ" يتطلب وجودَ نسقَين أحدهما ظاهِر والآخَر مُضمر في نصٍ جماليٍّ واحد ذي قبولٍ جماهيريٍّ، وبعد هذه المنظومة الاصطلاحيَّة يظهرُ إزاء المؤلِّفِ المعهودِ "المؤلفُ المزدوَج" مجسِّدًا الثَّقافةَ بوصفها مؤلِّفًا خفيًّا يُصاحب المؤلِّف الظاهر، ويُنشئ نسقًا كامنًا وفاعِلًا ليس في وعي صاحبِ النَّص؛ فيكونُ النسقُ المضمرُ إذًا من إبداعِ الثَّقافة [9].

ويعني ذلك اهتمام النَّقد الثقافيِّ بالمُضمرِ الذي تؤلِّفه الثَّقافة في النُّصوص ولا يشعرُ المبدعُ بوجودِها، ولاكتشافِ المُضمر داخلَ النَّسق المُضمر الموازي لنسَق المبدعِ الظَّاهر؛ ينبغي تحديدُ سماتِ "الأنساق الثَّقافية".

"الأنساق الثَّقافية" تاريخيَّةٌ أزليَّة راسِخة وغالِبة، تفتحُ شهيَّةَ الجمهورِ لاستهلاكِ أي منتجٍ ينطوي عليها، فالاستجابة السَّريعة والواسِعة تنبِّئ عن محرِّكٍ مُضمر يشبُك الأطرافَ ويؤسِّس للحبْكةِ النَّسقية، وهذه الاستجابةُ تكون وِفقًا لتوافقٍ سريٍّ خفيٍّ بين النَّسقِ الثَّقافي المُضمرِ للمنتَجِ والنسقِ المضمرِ المُنغرسِ فينا منذُ القِدم؛ فيُفضي ذلك إلى "الجبروتِ الرَّمزي" المحرِّكِ والمكوِّنِ لذائقةِ الأمةِ وأنماطِ تفكيرها ويصوغُ أنساقَها المُهيمنة [10]؛ لذلك يُعدُّ نوعًا من نقد التَّلقي والاستقبالِ الجماهيريِّ كما ذُكر سابقًا.

ويتحدَّدُ النَّسقُ بوظيفتِه عبر تعارُض نسقَين أحدُهما ظاهرٌ والآخرُ مضمَر ينقُضه، ويشترطُ أن يكون في نصٍّ واحدٍ جماهيريٍّ وجماليٍّ بالمعيارِ الجمَاهيري؛ لكشفِ حيل الثَّقافة في تمريرِ أنساقِها، وأهمُّ تلكَ الحيلِ (الحيلةُ الجماليَّة)، والنَّسقُ من حيث هو دلالةٌ ليس مصنوعًا من المؤلِّف وإنما من الثَّقافةِ التي يستهلكُها جماهيرٌ يتساوى فيهم الصَّغير والكبير والمهمَّش والمركزي؛ فيحمل بذلك طبيعةً سرديَّةً كونه يتحرَّكُ في حبكةٍ متقنةٍ تجعله قادرًا على الاختفاء تحت قناع الجماليَّة اللغوية [11]؛ فيُعرِّي بذلك الخطاباتِ من الأفكارِ المُهيمنةِ الخفيَّة التي لم يتواجَه معها الإنسانُ من جهةِ كونها "فكرةً" تقبلُ إعادة النَّظر فيها؛ وسلَّم بها دونَ وعيٍ فتغلغلت في لغتِه وأثَّرت بذلك في تصوُّراتِه، وسيظهرُ ذلك من خلال التَّحليل.

الأنساقُ الثَّقافيَّةُ المُضمَرةُ

يمثِّل العنوانُ أولى عتباتِ النصِّ (عباءةٌ كوشيَّة)[12] ويحيل إلى معنى التخفِّي والاستتار وإلى وضعيةٍ من الوجودِ خلفَ شيء ما، فالعباءةُ لباس فضفاض يتَّخذونه الرِّجال فوق ثيابهم وتستترُ به المرأةُ، فيدور المعنى التداولي للفظةِ حول الحَجب والإخفاء، ويرد في لسان العرب أن لفظة العباءة مشتقةٌ من عبأ بمعنى العِبء والثِّقل، وتحمل داخلها معنى آخر هو ضوء الشَّمس [13]؛ فيتضح التناقض بين المعنى الأول والثاني، ففي الأول ثِقل وفي الثاني انفراج، ويرتبطُ المعنى الثَّاني بالكلمةِ الثَّانية في العنوان "كوشيَّة"؛ بالحضارة الكوشيَّة السُّودانيَّة، وكل حضارةٍ تشكِّل هويَّة أفرادها، فيحمل العنوان دلالة انفراج العبء بانجلاء الهويَّةِ والاتصال بها.

فالنَّصُّ من عتبتِه الأولى يشيرُ إلى الثنائيَّة الضِّديَّة (الخفيِّ/ الجليِّ) الذي تعاني منه الحضارةُ الكوشيِّة المتمثِّلةِ في الإنسان الأسوَد، لكنَّها حضارةٌ موجودةٌ رَغم ما تعرَّضت له من حجْبٍ وعدمِ احتفاء، لذلك ترتَدي عباءةً فهي واضحة كالشَّمس ويعمل على إجلائها علماء الآثار والتاريخ وكذلك الأدباء وغيرهم، ولكنها بالمجملِ محجوبة نتيجة للتهميش الذي تعرَّضت له إفريقيا.

تعلن الشَّاعرةُ في المطلعِ أن القصيدة لبلادها، وأذان الميلادُ تجسيد مجازيٌّ لإلحاحِ الذّات الشَّاعرة في كتابةِ وطنها لبعثِه وتخليدِه بفعلِ الكتابة، فالوطنُ مكانُ الميلاد الفعلي، والقصيدة مكانُ ميلادِ المعنى وتوالده، وتمزج الصُّورة بين الرُّموزِ الدِّينية: السِّجادة، المئذَنة، آدم، والرُّموز الوطنيَّة: البلاد، كوش، والرّماح، والدِّين والوطن عنصرانِ أساسيَّان في تكوين الهويَّة ويوحي اجتماع هذه الرُّموز بلحظةِ خشوعٍ يودُّ الشِّعر فيها أن يحكي قصةَ هذا الوطن، تقول:

سجادتان قصــــــــيدتي وبلادي
ومؤذّنــــــان بصرخةِ الميــــــــــــلادِ
ومعارجٌ لم تُبتكـــــــر أسمـــاؤها
جاءت وآدم باسم "كوش" يُنادي
أرتال أسرارٍ ... رمــــــاحٌ حرةٌ
ورؤى تقض مجامع الأضــــدادِ

فهي تفخر بوطنها، وحضارته الكوشيَّة المنتميةِ إلى أقدم الحضارات في العالم، وبِلونها؛ فـ"آدم" عليه السَّلام يمثل أصلَ البشريَّة جمعاء واسمه مأخوذ من الأدَمة التي من معانيها الميل للسُمرة، و"كوش" أقوى إمبراطورية مرت على تاريخ السُّودان، بلغت فيها السُّودانُ أقصى اتساعٍ فضمَّت مِصر وأجزاءَ من ليبيا ومدن البحر المتوسِّط، وخلّفت آثارًا ومعابد

وأهرامات وقصور [14]، وكانت الأُسرة الخامسة والعشرون من الفراعنةِ سودًا كوشيِّين، فيشترك الرَّمزين "آدم" و"كوش" في دلالةِ السُّلطةِ والسُّمرةِ، راسمةً بذلك نسقًا مُعلنًا ظاهرًا هو نسقُ (السُلطة التاريخيَّة).

ومؤائــــدٌ للشـــــــــمس تفرِشُ آيةً
للآدميـــــــةِ من يدِ الزُّهــــــــادِ
مدّت لنا أرحامها فتخــــــــلّقت
نطفُ الزّمان وأضلعُ الأوتــــــادِ

وتشير الثُّنائية المتضادَّة (زهَّاد/موائِد) إلى نسقٍ مضمرٍ تُخفيه التَّورية الثَّقافية، فليس المقصود الاحتفالُ وتقديمُ الموائدِ والتغنِّي بسُمرة أبناء كوش، وإنِّما التُّخمة الاقتصاديَّة التي أحدثها نظامُ الرِّق تحديدًا هنا على المستوى الزِّراعي، بدلالةِ (موائد، شمس، أرحام) فالأرض رحم وعمليَّة الزراعة أشبه بالحمْل والولادة، كل ذلك على حساب هؤلاء الزُّهَّاد الذين لم يطمعوا في غيرهم كما طمع غيرهم فيهم؛ والزُّهد والتصوُّف شائعان في الثَّقافة السُّودانية، مما يُحيل إلى تفوِّقهم على المستعمِر، فهم الزهَّاد وهو الجشِع.

كما أن البعد السِّياسي والاقتصادي للثُّنائية (زهَّاد/موائد) يحيل إلى بداياتِ العُنصريَّة المتشكِّلةِ عبر التَّفكير السُّلالي وما يرتبطُ به، وهي أفكارٌ صنعت التَّسلسلَ الهرميَّ للاختلافِ والانتماءِ بين البَشر؛ فقد فتح تطوُّر الرأسماليَّة التجاريَّة المجالَ لتطوُّر العلاقاتِ الإنسانيَّة القائمةِ على العنصريَّة؛ حيث تتألَّفُ العنصريَّة من مكوِّنين أساسيَّين، الأولُ أن تفترضَ مسبقًا بعضَ المفاهيمِ عن سلالةٍ ما، والثَّاني إيعازُ صفاتٍ سلبيَّة تنتمي إليها[15] وتتيح تسويغَ استغلالِها، فما يظهرُ من التآزرِ والوحدةِ الإنسانيَّة في ذكرِ الموائدِ والزُّهد والأرحامِ والخَلق هو تعبيرٌ عن فصلِ الإنسانيَّة إلى أجناسٍ متصارِعة.

وتتفاعل ثنائيَّة (زهَّاد/موائد) مع ثنائيَّاتٍ أخرى في نفسِ المقطُوعةِ: (أذان/ صرخة): "ومؤذّنـــــان بصرخةِ الميـــــــلادِ" فلا يجتمعُ الأذانُ بسكينتِه والصُّراخ، (النُّمو/الثَّبات): "نطفُ الزّمان وأضلعُ الأوتـــــادِ" فالنطفةُ طورٌ يعقبُه نمو، ويشير بذلك إلى نموٍ وتصاعدٍ كحال المستعمِر والتَّاجر بينما الأوتادُ ثابتةٌ كثبات حال الإنسانِ الأسوَد الذي ظلَّ متأخرًا بسبب ما أحدثته العبوديَّةُ فيه، وكلها معانٍ تدور حول (الثَّورةِ والرَّفض).

يؤدِّى المكانُ في بداية القصيدة ِدورًا مهمًّا في رسمِ شعورِ الانتماءِ والفخرِ بالهُويَّة الوطنيَّة والدينيَّة والتاريخيَّة، كما يظهر الملمحُ السَّردي مع استدعاءِ شخصيَّات تُراثيَّة أخذت الشَّاعرة بوصفها راوٍ تحكي عنهم من الخلفِ، و بلغةٍ مجازيَّة تصويريَّة؛ حتى بدأت بخطابِ المُستعمر مباشرةً عبر النِّداء "يا سيَّد التزييف" وعبر تكرارِ فعل الأمر "أرّخ" ثلاث مراتٍ دون أن يحضر صوتُ المُستعمِر، وتظهرُ الهيْمنةُ للشَّاعرة/الرَّاوية؛ ما يؤدِّي إلى كسرِ النَّسق المعهودِ بين المستعمَر والمستعمِر الذي يكون الصوت فيه فقط للمستعمِر، وذلك ما يتيحُه الشِّعر بفضلِ طبيعَته الذَّاتيَّة للشَّاعر؛ حيث يكون هوَ مركزًا لنصِّه.

ثم تنحى تلك الرُّموز المرتبطة بالهُويَّة الوطنيَّة والدينيَّة بالقصيدةِ نحو توريةٍ ثقافيَّة يكون المعنى البعيد المقصُود منها الرَّغبة في العودةِ إلى الماضي، الذي عانى فِراقَه الإنسانُ الإفريقي تحت وطأةِ الاستعمار؛ حيث "سعَت التَّنظيرات الاستعماريَّةُ إلى محوِ كل تراثِ الشُّعوب المغلوبةِ وقطع الصِّلة بينها وبين ماضيها حتى تحتَفِظ بالأرضِ والرِّقابِ لأطول فترةٍ مُمكنة" [16]، فاجتُثَّ هذا الإنسانُ من ماضيهِ وتاريخهِ ومجدِ آبائه، اجتُثَّ من هويَّته؛ ليُشيَّأ فيُمكن تسلِيعُه، ويظهر هنا نسق مضادٌ لنسقِ (السُّلطة التاريخيَّة) يتمثَّل في (السَّلب والتَّهميش التَّاريخي) فتقولُ الشَّاعرة:

يا سيَّد التزييف مُدية خائـــــــنٍ
تكفي لتهزم دِقةَ الأبعــــادِ
أرّخ سينكفئُ الغمام ويعــــــــتلي
صدق السّحاب عباءَة الأعيادِ
أرّخ ستلتهم الأسود كباشــــــها
أرّخ ولي طُرقٌ من الآســــاد

فقد سُلب الإنسانُ الإفريقيُّ الأسوَد تاريخَه بسبب العُنصرية التي استباحَت استعبادَه ومثَّلت نسقًا مهيمنًا على الفكرِ الإنسانيِّ لقرونٍ طويلةٍ، ومعروفٌ أن التَّاريخَ يكتبُه المُنتصر، والمُنتصرُ صاحبُ حظوةٍ ومال يستطيع أن ينزعَ من التَّاريخِ ما يشاءُ ويزيِّف ويشوِّه ما يشاء، فلا نجدُ ذكرًا للفراعِنة السُّود الكوشيِّين عندَ ذكر الفراعِنة إلَّا قليلًا، والصِّراع قائمٌ إلى اليومِ بين المصريين والسودانيِّين حول هذه المسألة وما يتعلق بها وبالكتابةِ الهيروغليفيَّةِ وأصلها، فأعاقَت العبوديَّةُ التأريخَ عندَهم بدءًا من "لعنةِ حام" التي صنعَها اليهُود مرورًا بتجارةِ الرَّقيق وانتهاءً بالاستِعمار.

ويأتي ذكر الأسد "أرّخ ستلتهم الأسود كباشــــها" لما له في الثَّقافةِ السُّودانيَّةِ أهميَّة مرتبطةٌ بالدِّين وبمراسم تتويجِ الملوك؛ فوفرة الأسُود في المنطقةِ وما تحملُه من صفاتِ القوَّة والبَأس أحاطته بهالةِ القداسةِ ما جعلهُم يستأنسُونه ليعلبَ دورًا في شعائرِهم الدِّينيَّة كما يظهرُ في المصوَّرات الصَّفراء الأسدُ مولودٌ ومحمولٌ في موكب، يمثِّل الأسدُ "الإله أباد أماك" رمزًا للمعبود الشَّعبي للسُّودانيين وهو إنسانٌ برأس أسد، وانتشرت معابد الأسدِ في مناطق متفرِّقة من المملكة الكوشيَّة، ويظهر في بعض جدرانها يقدم تاجهُ وصولجانهُ للملوك، كما تمَّ تصويرُه حاملًا القوسَ والسَّهمَ يقضم رؤوس الأشقياء [17].

ويشير النَّص إلى "لعنةِ حام" من خلالِ لفظةِ "كرمَتي" التي ظاهرُها منطقةُ كرمة ومضمرُها البِذرة التي صنعتْ العُنصريَّة في الشَّرق الأوسطِ القديم:

خذ كرمتي يمّم نُقوشي واحــــــــترس
من لعنتي واقرأ صخور عتـــــــــــــادي
خذ ســـــــاعتي وارجع إلى فلـــــــكي
وضِف أزمانك الكبرى إلى تعدادي

تصوّر الشَّاعرة هنا ممارساتِ المعتدي على ثقافةِ وتاريخِ الإنسانِ الأسْود باستسلامٍ، وتكتفي بتحذيرهِ من لعنتِها مشيرةً في الظاهر لارتباطها بالفراعِنة، لكنَّ اللعنةَ تُضمِرُ نسقًا يعودُ لجذرِ الفِكر العنصريِّ، ومنه ينطلق (النَّسق العُنصري) وما يُبرر مرورَه ضمن أدبيَّات اليهُود وتغلغُلِه في تفكيرِ الأممِ القديمةِ كونَه نسقًا مغلَّفا بالخُرافة؛ فالعبرانيِّين ربطوا بين الأُمم السَّوداء وبين أفكار العبوديَّة وعبادةِ الأوثانِ واللَّعن، واستخدموا اللَّون الأسوَد كاستعارةٍ للشَّيطان في آدابهم [18].

ويحكي سِفر التَّكوين أن بنو نوحٍ الذين تفرَّعت منهم البشريَّة بعد الطُّوفان ثلاثةٌ: سام وحام ويافث، وحام هو أبو كنعان، وكان نوحٌ في التَّصوّر اليهوديِّ فلاحًا يغرس كرمًا، فشرِب من الخمر وسكِر وتعرَّى فنظرَ حام أبو كنعان لعورةَ أبيه وأخبر أخويه، اللذين قاما بتغطيةِ عورتهِ غاضِّين البصَر عنها، فلما أفاقَ وعلِم ما فعلهُ حام قال: "ملْعونٌ كنعَان. عبدُ العبيد يكون لإخوَته. وقال: "مبارك الرَّب إله سام. وليكن كنعانُ عبدًا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكُن في مساكِن سام، وليكن كنعان عبدًا له" فكانت هذه أوَّل بذرةٍ جعلت الساميَّة عرقًا يفوق بقيَّة البشرِ رغم كونهم إخوة، والحديث عن السَّاميَّة اليوم أصبحَ حديثًا عن مجموعةِ لغاتٍ [19]؛ لكن المهمَّ هنا ما غرستُه القصَّةُ -المخالفة لقصَّة نوحٍ عليه السَّلام في الإسلام- من عُنصرية.

ثم أخذَ المسيحيُّون فكرةَ اللَّعنة هذه لينتخبوا أنفسهم مخلِّصين للسُّود لأغراضٍ تبشيريَّة واستعماريَّة، فقد أصدرَ أحد الباباواتِ مرسومًا يُقرُّ باسترقاق الزُّنوج والهنُود الحمر، وصاحَبته لعدةِ قرونٍ دعايةٌ واسعةٌ أشرفَت عليها الكنيسةُ والأوساطُ المسيحيَّة، وتفيدُ بأنَّ الاسترقاقَ هو سبيلُ خلاصَ الرَّقيق من غضبِ الله عليهم، وأكَّدوا بعد اعتناقَ الرَّقيق للمسيحيَّة أن الخلاصَ لأرواحهِم بينما على أجسادِهم أن تبقَى في الرِّق [20]، فكل هذه السَّرديات التاريخيَّة والسياسيَّة والدينيَّة تكتنزُها اللُّغة الشعريَّة ومفرداتِها "كرمتي، لعنتي" وتفجِّرُها.

وتأخذ الثنائيَّة الضديَّة (نقُوش/صخُور) دورَ الدَّليل على حضارةِ الإنسانِ الأسوَد بدلالةِ النَّقش، فهو فعلٌ ثقافيٌّ مصنوعٌ من الإنسانِ ويدل على تحضُّره وفنيّته وارتقائه، بينما الصَّخر مادةُ طبيعيَّة وبدائيَّة لم تدخُل إليها الصِّناعةُ بعْد، ويُقاوم النَّصُّ فكرةَ عدمِ قدرةِ الإنسانِ الأسْود على صناعةِ حضارةٍ بتكرار ياء المتكلم فيهِ مُنذ أوَّلِه، فنُسِبتِ اللَّعنة والنُّقوش والكَرمة والعَتاد وما يتعلُّقُ بها إليها وبني جنسِها، وتُرِكت الصُّخور المعبِّرة عن القسوةِ والجمودِ وعدمِ التقبُّل للآخَر المُقصي، كما تَظهر المقاومةُ بأن تجعلَ الحضارةَ السَّوداءَ الأصلُ وبقيَّة الحضاراتِ فروعٌ عنها.

وفي قولها:

لي برزخي إن شــــئت زمّل مقرني
قطّر سؤالك في فم الآمــــــــادِ
واسكب على أذن الأنــــــا أنشودتي
واترك لحــــونَ القيد والأصفاد

يتجلّى الألم في هذه المقطوعة ويُسيطر التَّاريخُ على لغةِ القصيدةِ، فتشير إلى حالةِ الموتِ المُعاشة "لي برزخي" التي فصَلت الإنسانَ الأسودَ عن إنسانيَّتِه، وتطلبُ من الآخِر إخفاءَ آثارِ العَناء "زمّل مقرني"، وتأتي كلمةُ "الآماد" بدلالاتِ البُعد والمسافَة التي فرضها الرِّق بين الإنسانِ الأسودِ وأرضه وهويَّته، فتظل القصيدةُ تحتَ وطأةِ (النَّسق العُنصريِّ) المضمَر.

كما تشير هذه المقطوعةُ إلى النَّسق الذي يُمركِز الأبيض ويُهمّش الأسود عبر الثنائيَّة المتضادَّة (الغِناء/الأصفَاد) في ذكرها للأنا مع الغنائيَّة "واسكب على أُذن الأنا أنشودَتي"، والغناءُ حريَّة للروح كما أن له علاقَة تاريخيَّة ثقافيَّة بموسيقَى الحقُول التي أبدعها العَبيدُ من أصحابُ البشرة السَّوداء، وتطوَّرت بعد ذلكَ من مُوسيقى "البُلوز Blues " إلى مُوسيقى "الجاز Jazz" التي حُرّمت من الكنِسية واتُّهمت بالشَّيطنة.

يرتبط (نسق الأبيَض المتفوِّق) بفكرة العِرق المُسيطرةِ على التَّفكيرِ العُنصريِّ، التي أدَّت بعد ذلك إلى أسطورةٍ نسجَها وتبنَّاها الفِكر الاستعماريُّ لتأسيس قوّته؛ حيث عدَّ نفسهُ مركز العالَم وأرضهُ أرضُ ميلادِ العقلِ والحياةِ الحضاريَّة، مُشكِّلًا الآخر عبر أسطورتِه العرقيَّة لا بوصفهِ شبيهًا بالذَّات وإنما مهددًا لها ينبغي التخلُّصَ منه في غياب ما يضمَنُ التحكُّم فيه كليةً، ومن ذلك غيابُ التَّاريخ، فرسمَ للإنسانِ الإفريقي الأسوَد صورةَ كائنٍ تترنّح إنسانيَّتُه وتُخلط بين صيرورة بشريَّة وصيرورة وحشيَّة، وحاول في صورةٍ أخرى تلطيفَ الأمر بوصفه كائنًا لم يدخُل الإنسانيَّة بعد، فليس مجرَّدًا منها وإنما يحتاجُ إلى الرَّجل الأبيضِ المتفوِّق ليدخلَه عالم الإنسانيَّة؛ مبررًا بذلك كل العُنف الذي مارَسه تجاهَه [21].

وبذلك يُناهض النصُّ هذه الصُّورة حين أشارَ للجانب الفنِّي لهذا الإنسان المقصيِّ المتمثِّل في الإنشادِ والغِناء، مما يعني أن حسَّه الإنسانيَّ قد وصل أعلى مراحل سُموِّه لارتباطِه بالفن، إلا أن الرجل الأبيض مصابٌ بـ"العَمى الثقافيّ" فلن يسمعَ غير لحنِ الأصفاد.

ثم يظهر (نسقُ المقاومَة) حين تُنادي رماحَ "كوشٍ" التي ذكرتها ابتداءً، مستعينةً بالحِقد في تأجِيج المقاومةِ، تقول:

يا بارئ الأقواس أين رمـــــــــــاتها؟
أين الأنوفُ وكفّــــــة الأحقـــــادِ

خَيطـــــي على كيف النَّجابة نسِّجت
أقمـــــــــــاشُهُ في إبرة النَّجَّــــــادِ
فلتمنحي هِند الكــــلام فعــــــــجزُها
وعَـــدَ السَّمــــاءَ بغيمة استبــــدادِ

عُرف الكوشيُّين بمهاراتهم في رمي السِّهام "يا بارئ الأقواس أين رمــــاتها؟" فالقوس الرَّمزُ التقليديُّ للنوبةِ السفلى، وكانت تسمى أرض السودان قديمًا "تاسيتي" بمعنى أرض الأقواس، فلم يُخطئوا أهدافهم، وسمَّاهم العرب "رُماةَ الحدق" [22]، وتذكر الغيمة في سياق سلبي للمرة الأولى في " أرّخ سينكفئُ الغمام ويعــتلي .. صدق السّحاب عباءَة الأعيادِ" وهنا في "غيمة استبــــدادِ" والغيومُ لا يطُول بقاؤها في السَّماء فيدل ربط الاستبداد بالغيمة على انقِشاعه وهي نظرةٌ إيجابيَّة، إلا أن اختيارَ الغيمة بدلًا من السَّحابة يُلمح إلى دِلالةٍ أخرى تتعلَّق باللَّون، فالغيومُ تحمِل المطرَ فيتحوَّل لونُها للسَّوادِ كإشارةٍ لامتلائِها به، كما أن الغيم وفقًا لمعجمِ لسانِ العربِ هو أن لا تَرى الشَّمسَ من شدَّة الدَّجن والغيمةُ شدَّة العطش[22] الذي سيرويه الكلام "فلتمنحي هِند الكــــلام"، فقد حَجب الاستبدادُ كثيرًا من الحقائقِ التاريخيَّة والحضاريَّة وحجبَ عن المستبَدِّ بهِم الحياةَ الإنسانيَّة الطبيعيَّة لقرونٍ؛ فتتكثّف دلالةُ الحرْمانِ في هذه المقطوعةِ، فالاستبدادُ أدى إلى شدَّة العطشِ للوجودِ وللحياةِ وللإنسانية المسلُوبةِ.

ويظهر نسق آخرٌ مضادٌ يهيئُ المتلقي للحظة انقشاعِ الغَيمة وسطوع النُّور حين يدعو لبدءِ صفحةٍ جديدةٍ مع التَّاريخِ لكن دون أن تُنسى علاماتُه على ظهر إنسانيةِ السُّود:

أنى تفرعنت المسافةُ جئتُــــــــها
بعصى تلقَّف صــــــيحة الأعوادِ
يا كل ألسنةِ الهياج تأدَّبـــي
في حضرة المـــــحجوب والعقاد
يا كل ما ذهـــــــبوا لجبٍ قلت لا
هم لُحمتي ودمــــــي وكل عتادي
فدعوا الصّواع وعطّروا أبوابكم
وخذوا قميـــــص الحب للأحفاد
لا تعبثوا بدمِ القصيدةِ إن لـــــــي
جَلَدًا يُعلّــــــــمُ غضـــبةَ الجلاد

يستجلبُ النَّص كثيرًا من الشَّخصيَّات التاريخيَّة (آدم، كوش، إدريس، هاجر، حام، موسى، يوسف) ويتناصُّ معها فيجعلُ القصيدةَ وأنساقها قابلةً للقراءةِ والفهْم، لأن "فكرة التَّناص تركزُ على المفهوميَّة أو الإدراكيَّة، أو بعبارة أخرى: إن أي عملٍ أدبي... قد لا يتم إدراكُه وفهمُه بطريقة بسيطةٍ بدون التَّناص" [24].

ولعل أبرز ما يتناصُّ معه النَّص قصة النبيِّ يوسفَ -عليه السَّلام- في ذكرهِ للجبِّ والقمِيص، وهما مرتبطان تحديدًا بفراقِ يوسفَ عن والِده ثم عودتِه إليه، فالتَّركيزُ على جانبِ الأبوَّة في القصَّة يُحيل إلى رغبةٍ لبناءِ صورة أبويَّة تربط الإنسان الأسوَد بأصلِه؛ بإفريقيا، وهي صورةٌ متجانسةٌ مع نسيجِ النَّص منذ ذِكر آدم -عليه السَّلام- في أوله، وتدعوا إلى القوَّة والفَخر والتَّآخي والتَّواصل؛ مشترطًا في التَّواصل التأدُّب والحِفاظ على حدود الذَّات أمام الآخر: "في حضرة المـحجوب والعقاد" فالعقاد من أسوان الواقعةِ على تُخوم السُّودان؛ حيث يقف الآخر على تُخوم الذَّات المتمثلةِ في "محجوب" [25].

ثم يعاودُ (نسقُ المقاومةِ) الظهورَ والاعتزازَ بالتاريخ والعِرق الذي صُوِّر كلعنة ويهمن على نهاية النَّص:

إفريقيا أمــــي ولست لغــــــــــيرها
وبغيرها لن يستقيـــــم عمــــــادي
لي طينة الأعراب أغــــرس عندها
صوتي ونخــل حقيقتي وسوادي
لا تسألوا عـــني مرارًا من أنــــا؟
وخذوا اسمرار كتـــابتي ومِدادي
أنا كلُّ هذي الأرض فاكشف سرّهـا
وأنسب إلى أجدادهــــــا أجـــدادي

لم تظهر المقاومةُ بالرُّمح والقوسِ وإنما بالإقرارِ الدَّاخليِّ بالانتسابِ لهذا الوجودِ على اتِّساعه وتنوُّعه والتجذُّر فيه، وبدعوةِ الآخر للتعرُّف على إفريقيا التي تُمثِّل "كلُّ هذي الأرض"، ويبرز الأموميَّة في الصُّورةُ من اختيارَ المفرداتِ (طينة، أغراس، نخل، الأرض) وعدَّة إشاراتٍ أخرى تربط إفريقيا بالخّلق والنُّمو والتَّوالد في صورةٍ أموميَّة تاريخيَّة تحكي قصَّة وجودِ الإنسان وتقفُ إلى جانب صُور الأبوَّة وأخرى تنفي جانبَ الأبوَّة في تناصٍ مع قصة مريم -عليها السَّلام- "جِذعُ المخاضِ يرقُّ منذ اسَّاقطت.. رُطبا عناويني على أولادي"؛ مما يجعل منها أصلَ البشريَّة وسيِّدة القارَّات.

الخاتمة

سعى هذا البحثُ إلى الكشفِ عن الأنساقِ المُضمرةِ وآثار الخطاب الاستعماري فيها في قصيدةِ (عباءة كوشيَّة) للشَّاعرة المعاصِرة ابتهال محمَّد مصطفى تريتر، وإجلاء دَور الثَّقافةِ في صناعةِ نصِّ يوازي النَّص الظاهر يشحنَ اللُّغة بدلالاتٍ أخرى خارجَ الدِّلالةِ المعجميَّة والسِّياقيَّة وهي الدِّلالة الثَّقافيَّة، وخلُصت البَاحثةُ إلى أنَّ القصيدةَ في كثافتها الدلاليَّة وطرحها سلسلة من التَّناصَّات تُعالِج وتُقاوم نسقًا ثقافيًّا راسخًّا في القِدم؛ أدى بدورِه إلى "العَمى الثَّقافي" حتى من بعض السُّود أنفُسِهم تجاه ذواتِهم وتاريخِهم وثقافتِهم، وعكس الخطابُ الشِّعريُّ بخصيصَته الذَّاتية الواقعَ عبر إعادةِ سرده وتشكيلهِ جاعلًا من الهامشِ الثَّقافيِّ مركزًا في استعراضٍ ملحميٍّ لقصَّة السُّودان والإنسانِ، في إشاراتٍ تدورُ حول إفريقيا ونشْأة الإنسانِ الأوَّل، وأبرزُ النتائِج التي خلصَت إليها الدِّراسة:

● حملت عتبةُ العنوان تورية ثقافيَّة فتحت المجال لكشفِ المضمَر الثَّقافي في النَّص.
● ظهورَ بنيةٍ سرديَّة مؤازرةٍ لبنيةِ النَّص الشَّعري من خلالِ مجموعةٍ من التناصَّات والرُّموزِ التي فجَّرت لغةَ النَّصِ من (كوش، آدم، رماح، سيد التزييف، الأسود، كرمتي، لعنتي، أنشودتي، أصفاد، تفرعنت) وغيرها كثير، فتحَ النَّص أمام قراءةٍ ثقافيَّة.
● هيمَنت على النَّص مجموعةٌ من الأنساقِ الثقافيَّة المضمَرة التي تُقاوم النَّسق الظَّاهر المتمثل في (السُّلطة التاريخيَّة)، وهي: نسقُ السَّلب والتَّهميش التَّاريخي، والنَّسق العُنصري، ونسق الأبيَض المتفوِّق، نسق المُقاومة.
● قاومت القصيدة "الجبرُوت الرَّمزي" الذي صنعَهُ ومرَّرهُ المستعمِر لمصلحةِ أغراضِه عبرَ عددٍ من الثنائيَّات المتضادَّة: (الخفيّ/الجليّ)، (أذان، صرخة)، (زهاد/موائد)، (النمو/الثبات)، (نقُوش/صخُور)، (الغِناء/الأصفَاد) والسَّرديات التَّاريخيَّة الكامنة في الرُّموز: آدم، كوش، قوس، رماح، كرمة، لعنة حام وغيرها، والتناصَّات مع مجموعة من القصص كقصة هاجر ومريم العذراء ويوسف -عليه السلام- وموسى -عليه السلام- وغيرها، والمخبوءَة تحت جماليَّة الشِّعرِ ومجازيَّته.


    المصادر و المراجع
    - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد. (2021). لسان العرب. ط11. لبنان: دار صادر. ج10/11. مادة (عبء)، (غيم).
    - أحمد، السماني النصري محمد. (2007). دولة كوش والفتح السوداني لمصر. المجلة العلمية- جامعة الزعيم الأزهري، ع1.
    - تريتر، ابتهال محمد مصطفى، "عباءة كوشيَّة". إبداع – الإصدار الرابع ع33 (2022): 1-2. مسترجع من https://search.mandumah.com/Record/1322566
    - حمداوي جميل. (د.ت) نظريات النقد الأدبي في مرحلةِ ما بعد الحداثة، كتاب منشور من قِبل شبكة الألوكة.
    - خبير، عبد الرحيم محمد. (2011). الأسد في التراث السوداني. مجلة الدراسات الإنسانية، ع5.
    - دحمور، زهير. (2018). الزنوجة ودورها في بعث حركة الأدب الإفريقي. مجلة دراسات معاصرة- الجزائر، ع2، مج2.
    - الرويلي، ميجان، والبازعي، سعد. (2017). دليل الناقد الأدبي. ط6. المغرب: المركز الثقافي العربي.
    - عبد الوهاب، أحمد. (1992). النبوّة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام. ط2. مصر: مكتبة وهبة.
    - عبد السلام، مصطفى بيومي. (2017). التناص النظرية والممارسة. د.ط. المغرب: إفريقيا الشرق.
    - عبد الجبار، نعمات عمر. (2011). تاسيتي (أرض القوس) بلاد الكوشيين والنوبيين رماة الحدق محاولة لاستقصاء دور المحارب السوداني القديم في مصر حتى الفتح العربي، مجلة الدراسات السودانية، مج17.
    - الغذامي، عبد الله، واصطيف، عبد النبي. (2004). نقد ثقافي أم نقد أدبي، ط1. سوريا: دار الفكر.
    - الغذامي، عبد الله. (2005). النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية. ط3. المغرب: المركز الثقافي العربي.
    - الكحلوت، عبد العزيز. (1992). التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء. ط2. ليبيا: منشورات كلية الدعوة الإسلامية.
    - كرامش، كلير. (2010). اللغة والثقافة. ط1. قطر: وزارة الثقافة والفنون والتراث.
    - لوو، إيان. (2015). العنصرية والتعصب العرقي، تر: معتمد، عاطف، وعادل، عبد الحميد. ط1. مصر: المركز القومي للترجمة.
    - مبيمبي، أشيل. (2018). نقد العقل الزنجي، تر: طواهري، ميلود. ط1. الجزائر: دار ابن النديم.

  • [1] ينظر: كرامش، كلير، اللغة والثقافة، ط1، قطر: وزارة الثقافة والفنون والتراث، 2010، ص49-65.
  • [2] الرويلي، ميجان، والبازعي، سعد، دليل الناقد الأدبي، ط6، المغرب: المركز الثقافي العربي، 2017، ص308.
  • [3] السابق، ص309-310.
  • [4] ينظر: نادن، إبراهيم، النقد الثقافي في الخطاب النقدي المغربي دراسة تطبيقية، مجلة أبحاث في العلوم الإنسانية والآداب واللغات، ع6، مج1، 2020، ص241.
  • [5] ابتهال محمد مصطفى أحمد، إعلامية وشاعرة سودانية معاصرة، فائزة بجائزة الأمير عبد الله الفيصل للشعر العربي في موسمها الخامس عن ديوانها (أخيط على مقاس العطر)، ولها أمسيات ومشاركات منها مشاركتها في مسابقة أمير الشعراء في موسمه الثامن، ولها عدة أعمال منها (على شفا الجرح) و(الإشارات الخفية).
  • [6] ينظر: حمداوي جميل، نظريات النقد الأدبي في مرحلةِ ما بعد الحداثة، كتاب منشور من شبكة الألوكة، د.ت، ص76-77.
  • [7] العيوب والقبحيات في هذا السِّياق لا تعني فشل النَّص وإنما تعني قُدرة النَّص على التَّستُّر على العيوب والقبحيات الموجودة في الثَّقافة، كالعنصرية مثلا، ظاهرة تمثل قبحًا وتشوُّها أخلاقيًا ضد الآخر، يحملها الأدب ويمررها دون أن يدركها المتلقي مباشرة، كقول الأكثم:" الحر حرٌ وإن مسَّه الضرُّ ... والعبدُ عبدٌ وإن ألبسته الدُّر"، كما تظهر قبيحات الثقافة في أعمال أدبية لا لهدف تمرير وترسيخ هذه الثقافة وإنما معالجتها، كرواية "زرايب العبيد" لنجوى بن شتوان التي صوَّرت واقع العبودية في ليبيا رغم انتهاء زمن العبودية.
  • [8] ينظر: الغذامي، عبد الله واصطيف، عبد النبي، نقد ثقافي أم نقد أدبي، ط1، سوريا: دار الفكر، 2004، ص23-26، وحمداوي، جميل، نظريات النقد الأدبي في مرحلةِ ما بعد الحداثة، كتاب منشور من شبكة الألوكة، ص86.
  • [9] ينظر: الغذامي، عبد الله واصطيف، عبد النبي، مرجع سابق، ص26-34.
  • [10] ينظر: الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، ط3، المغرب: المركز الثقافي العربي، 2005، ص79-80.
  • [11] ينظر: الغذامي، عبد الله، مرجع سابق، ص77-79.
  • [12] تريتر، ابتهال محمد مصطفى، "عباءة كوشيَّة". إبداع – الإصدار الرابع ع33 (2022): 1-2. مسترجع من https://search.mandumah.com/Record/1322566
  • [13] ينظر: ابن منظور، جمال الدين، لسان العرب، لبنان: دار صادر، ط11، 2021، مادة (عبأ)، ج10، ص5-6.
  • [14] ينظر: أحمد، السماني النصري محمد، دولة كوش والفتح السوداني لمصر، المجلة العلمية، جامعة الزعيم الأزهري، ع1، 2007، ص26-27.
  • [15] ينظر: لوو، إيان، العنصرية والتعصب العرقي، تر: معتمد، عاطف وعادل، عبد الحميد، ط1، مصر: المركز القومي للترجمة، 2015، ص35.
  • [16] دحمور، زهير، الزنوجة ودورها في بعث حركة الأدب الإفريقي، مجلة دراسات معاصرة، الجزائر، مج2، ع2، 2018، ص60.
  • [17] ينظر: خبير، عبد الرحيم محمد. (2011). الأسد في التراث السوداني. مجلة الدراسات الإنسانية، ع5، ص52، وتذكر الدراسة ميل السودانيين لتسمية أبنائهم أسماء ذات أصل كوشي وتعني الأسد، مثل: اللدر والدود وكوكو وغيرها.
  • [18] ينظر: لوو، إيان، سابق، ص38-39.
  • [19] ينظر: عبد الوهاب، أحمد، النبوّة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام، ط2، مصر: مكتبة وهبة، 1992، ص33.
  • [20] الكحلوت، عبد العزيز، التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء، ط2، ليبيا: منشورات كلية الدعوة الإسلامية، 1992، ص18.
  • [21] ينظر: مبيمبي، أشيل، نقد العقل الزنجي، تر: طواهري ميلود، ط1، الجزائر: دار ابن النديم، 2018، ص23-27.
  • [22] ينظر: عبد الجبار، نعمات عمر، تاسيتي (أرض القوس) بلاد الكوشيين والنوبيين رماة الحدق محاولة لاستقصاء دور المحارب السوداني القديم في مصر حتى الفتح العربي، مجلة الدراسات السودانية، مج17، ص87-88.
  • [23] ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد، لسان العرب، ط11، لبنان: دار صادر، ج11، مادة (غيم).
  • [24] عبد السلام، مصطفى بيومي، التناص النظرية والممارسة، د.ط، المغرب: إفريقيا الشرق، 2017، ص20.
  • [25] ذكر لي الشَّاعر السُّوداني طارق الطاهر: "أخبرني الشاعر السوداني طارق الطاهر أن اسم محجوب له صدى في السودان حيث يعود لشخصية متفرِّدة، محمد أحمد المحجوب، كان رئيسًا للوزراء وشاعرًا ومؤلفًا ومهندسًا ومحاميًا وقاضيًا وسياسيًا، وله قصيدة مشهورة بعنوان: "الفردوس المفقود"، توفي عام ١٩٧٦م.