أمجاد معيض الغامدي
يُعدُّ النَّقدُ الثقافيُّ نقدًا ما بعدَ حداثيٍّا ينظرُ إلى الأدب في اتِّصاله مع الحياة بمختلف مناحيها، ويمسُّ كثيرًا من القضايا الاجتماعيَّة والتَّاريخية والسِّياسية والفلسفيَّة وغيرها، وكثيرًا من المفاهيمِ كمفهوم الطَّبيعة والثَّقافة، واللَّاوعي، والهيْمنة، والأيديُولوجيا؛ مما يجعلُ التحليل الثَّقافيَّ هنا ينحو إلى تعريةِ الخطاب الاستعماريِّ المتسلِّلِ دون وعيٍّ إلى القصيدة.
إذا كانت اللُّغة بطبيعتها ترتبط بالثَّقافة من جهة التَّأثير والتأثُّر بينهُما، فما تُنتجه الثَّقافة الإنسانيَّة يحتاج إلى دالٍّ لغويِّ يدل عليه، ويتألفُ نظام العلامات اللُّغوية، الذي تنتجه الثقافة، من الأفعالِ التَّلفُظيَّة التي يؤدِّيها منتجو العلامةِ -البشر- في خِضم التَّفاعل بينَهم.
ونتيجةً لأفعالِ المتكلمين اللَّفظيّة في سياقِ الموقفِ أو الحالِ والتفاعلِ فيما بينهم في السِّياقات الاجتماعيةِ يظهرُ مسارُ (المعنى الثَّقافي) موازيًا لمعنى الملْفوظ. وعليه، يكون (السِّياقُ الثَّقافي) [1]نتيجةً لخبرتهم الحياتيَّة التي يسْتقونَ منها فهْمهَم وتفسيرَهم للعالم ، وتستطيعُ الثَّقافة -كما يعتقد أصحاب النَّقدِ الثَّقافي- أن تتحدثَ في النَّص ومن خلالِ اللُّغة عن نفسِها، فتكون مبدعًا آخرَ للعمل إلى جانبِ المبدعِ المؤلِّف؛ لأن اللُّغة مادةُ الأدبِ، والأدبُ بدوره تعبيرٌ عن الثَّقافة؛ مع مراعاةِ طبيعةِ الأدبِ، يشير ليتش إلى أنه "يمكنُ لمثقَّفي الأدب أن يقوموا بالنَّقد الثَّقافي دون أن يتخلَّوا عن اهتماماتِهم الأدبيَّة"[2] ، كما أنَّ النَّقد الثَّقافي نوعٌ من نقدِ التَّلقي والاسْتقبال الجماهيريِّ، ويعتمدُ المناهجَ النقديَّةَ التقليديَّةَ إضافة لمناهجِ ما بعد البُنيويَّة [3]؛ فيُفيد المنهجُ أدواته من عدِّة مناهجَ، ويسعى إلى تحريرِ النُّصوصِ من الانغلاق البُنيويِّ، ويقترحُ قراءةً تعي العلاقاتِ التي تربِطُ النُّصوصَ بواقعها وبما يتَّصلُ بها من ثقافةٍ وتاريخ، ويهتمُّ بالهامشِ وما يتعلَّقُ به[4] ؛ ما يجعلُ منهج البحثِ وصفيًا تحليليًّا مستعينًا بأدوات النَّقد الثقافيِّ.
عليهِ، يسعى البحثُ إلى الكشفِ عن المخبوءِ تحت جماليَّة اللُّغةِ والصُّورة الشِّعرية من الأنساقِ الثَّقافيَّة المُضمرةِ وآثارِ الخطابِ الاستعماري فيها، وذلك في قصيدةِ (عَباءة كوشيَّة) للشَّاعرة ابتهال تريتر [5]، ويعود سبب اختيارُ هذه القصيدةِ إلى حُمولتها الثقافيَّة الكثيفةِ وتناصَّاتها المتراكبةِ؛ إضافةً إلى جماليَّتها العالية، ويحاول البحثُ إبرازَ الطَّبيعةِ السَّرديةِ التي تجعلُ من النَّص قابلًا للاستهلاكِ من مختلفِ طبقاتِ المجتمعِ وما بينهم من تفاوت، فالنَّسقَ من جهةِ دلالتِه مصنوعٌ من قِبل الثَّقافة، ومستهلكوها جماهيرٌ يتساوى فيهم الصَّغير والكبير والمهمَّش والمركزيُّ؛ وبذلك يحملُ النَّسقُ طبيعةً سرديَّةً يتحرُّك وفقها في حبكةٍ متقنة تمكِّنُه من الاختفاءِ تحت قناعِ الجماليَّة اللُّغويَّة.
التمهيد
يدرسُ النَّقدُ الثَّقافيُّ الأدبَ بوصفهِ ظاهرةً ثقافيَّةً ذات حمولةٍ مُضمرة، فيربطُ الأدبَ بسياقِه الثَّقافي غيرِ المُعلنِ، ويتعاملُ مع النُّصوصِ بوصفها أنساقًا ثقافيةً مضمرةً تعكسُ مجموعةً من السِّياقاتِ -الاجتماعية والتاريخية والسياسية والإيديولوجية والاستعماريَّة وغيرها- فالأدبُ ليسَ نصًّا جماليًّا، بل نسقًا ثقافيًّا يؤدِّي وظيفةً ثقافيةً تُضمر أكثر مما تُعلن [6]، ولهُ -كأي منهج نقديٍّ- إرهاصاتُه وروَّاده واتجاهاتُه الفكريَّة الحاضنةِ له.
وممَّن أسهمَ في هذا المجال النَّاقد السُّعودي عبد الله الغذَّامي، وذلك بعدَّةِ دراساتٍ له لعلَّ أشهرهَا كتابه الموسوم بـ(النَّقد الثَّقافي قراءة في الأنساقِ الثقافيَّة العربيَّة)، وطرح في التَّمهيد سؤالَ: "هل الأدب شيءٌ آخر غير الأدبية؟" مُطلِقا به مشروعَه النَّقدي الذي دعا فيهِ إلى النَّظر للأدبِ بوصفهِ منتجا أبدعتهُ
-إلى جانبِ الإنسانِ- الثقافةُ، ويقترح مجموعةَ مقترحاتٍ لتفعيلِ أدواتِ النَّقدِ الثَّقافي ولبناءِ نموذجٍ خاصٍ به يوازي نموذجَ "جاكبسون" التَّواصلي في بحثه عن الأدبيَّة والجماليَّة، هادفًا منه إلى إقامةِ نظريَّةٍ تبحثُ في عيوبِ الجماليِّ وتكشفُ عن قُبحيَّاته [7].
يُضيف الغذَّامي على نموذجِ "جاكبسون" الاتصاليّ عنصرًا سابعًا هو "النّسق" ووظيفته النسقيّة؛ التي ستسْتَوجِبُ نوعًا ثالثًا من الجملِ إضافةَ إلى الجُملة النَّحويَّة والجملة الأدبيَّة، وهي "الجملةُ الثقافيَّة"، المتضمِّنة لدلالةٍ نسقيّة، بينما تكونُ دلالةُ الجملةِ النحويَّة صريحةً والجملةُ الأدبيَّةُ ضمنيَّةً، كما لا يكتملُ النَّموذج إلا بتوسيعِ مفهومَي "المجاز البلاغيِّ" و"التَّورية البلاغيَّة" بمفهومي "المجاز الكُلِي" و"التَّورية الثقافيَّة" [8].
ويوضِّح المصطلحاتِ الموضوعةَ اعتمادًا على العنصرِ المضافِ فيقول: إن "الدِّلالةَ النسقيَّة" قيمةٌ نحويَّة ونصوصيَّة مخبوءةٌ في المضمرِ النصِّي في الخطاب اللُّغوي، والدِّلالتَين الصَّريحة والضمنيَّة موجودتَين ضمن حدودِ الوعيِ المُباشر، أمَّا النسقيَّة فليست في الوَعي، بل في المُضمر، و"الجملةُ الثَّقافيَّة" حصيلةُ النَّاتجِ الدِّلالي للمُعطى النَّسقِي، وتمثِّل دلالةً اكتنازيَّة وتعبيرًا مكثَّفًا، ثم يتحول المجازُ البلاغيُّ الفرديُّ إلى "المجازِ الكلِّي" الذي يمثِّل قناعًا تمرِّرُ اللغةُ من خلفِه أنساقَها فتصيبُنا بـ"العَمى الثَّقافي"، وتبعًا له فـ "التَّورية الثقافيَّة" تعني وجودَ نسقيْن -وليس معنيَين- في الخِطاب، الأول واعٍ غير مقصودٍ والآخرُ مضمَر وهو المقصودُ في النَّقد الثَّقافي، و"النَّسق المضمرُ" يتطلب وجودَ نسقَين أحدهما ظاهِر والآخَر مُضمر في نصٍ جماليٍّ واحد ذي قبولٍ جماهيريٍّ، وبعد هذه المنظومة الاصطلاحيَّة يظهرُ إزاء المؤلِّفِ المعهودِ "المؤلفُ المزدوَج" مجسِّدًا الثَّقافةَ بوصفها مؤلِّفًا خفيًّا يُصاحب المؤلِّف الظاهر، ويُنشئ نسقًا كامنًا وفاعِلًا ليس في وعي صاحبِ النَّص؛ فيكونُ النسقُ المضمرُ إذًا من إبداعِ الثَّقافة [9].
ويعني ذلك اهتمام النَّقد الثقافيِّ بالمُضمرِ الذي تؤلِّفه الثَّقافة في النُّصوص ولا يشعرُ المبدعُ بوجودِها، ولاكتشافِ المُضمر داخلَ النَّسق المُضمر الموازي لنسَق المبدعِ الظَّاهر؛ ينبغي تحديدُ سماتِ "الأنساق الثَّقافية".
"الأنساق الثَّقافية" تاريخيَّةٌ أزليَّة راسِخة وغالِبة، تفتحُ شهيَّةَ الجمهورِ لاستهلاكِ أي منتجٍ ينطوي عليها، فالاستجابة السَّريعة والواسِعة تنبِّئ عن محرِّكٍ مُضمر يشبُك الأطرافَ ويؤسِّس للحبْكةِ النَّسقية، وهذه الاستجابةُ تكون وِفقًا لتوافقٍ سريٍّ خفيٍّ بين النَّسقِ الثَّقافي المُضمرِ للمنتَجِ والنسقِ المضمرِ المُنغرسِ فينا منذُ القِدم؛ فيُفضي ذلك إلى "الجبروتِ الرَّمزي" المحرِّكِ والمكوِّنِ لذائقةِ الأمةِ وأنماطِ تفكيرها ويصوغُ أنساقَها المُهيمنة [10]؛ لذلك يُعدُّ نوعًا من نقد التَّلقي والاستقبالِ الجماهيريِّ كما ذُكر سابقًا.
ويتحدَّدُ النَّسقُ بوظيفتِه عبر تعارُض نسقَين أحدُهما ظاهرٌ والآخرُ مضمَر ينقُضه، ويشترطُ أن يكون في نصٍّ واحدٍ جماهيريٍّ وجماليٍّ بالمعيارِ الجمَاهيري؛ لكشفِ حيل الثَّقافة في تمريرِ أنساقِها، وأهمُّ تلكَ الحيلِ (الحيلةُ الجماليَّة)، والنَّسقُ من حيث هو دلالةٌ ليس مصنوعًا من المؤلِّف وإنما من الثَّقافةِ التي يستهلكُها جماهيرٌ يتساوى فيهم الصَّغير والكبير والمهمَّش والمركزي؛ فيحمل بذلك طبيعةً سرديَّةً كونه يتحرَّكُ في حبكةٍ متقنةٍ تجعله قادرًا على الاختفاء تحت قناع الجماليَّة اللغوية [11]؛ فيُعرِّي بذلك الخطاباتِ من الأفكارِ المُهيمنةِ الخفيَّة التي لم يتواجَه معها الإنسانُ من جهةِ كونها "فكرةً" تقبلُ إعادة النَّظر فيها؛ وسلَّم بها دونَ وعيٍ فتغلغلت في لغتِه وأثَّرت بذلك في تصوُّراتِه، وسيظهرُ ذلك من خلال التَّحليل.
الأنساقُ الثَّقافيَّةُ المُضمَرةُ
يمثِّل العنوانُ أولى عتباتِ النصِّ (عباءةٌ كوشيَّة)[12] ويحيل إلى معنى التخفِّي والاستتار وإلى وضعيةٍ من الوجودِ خلفَ شيء ما، فالعباءةُ لباس فضفاض يتَّخذونه الرِّجال فوق ثيابهم وتستترُ به المرأةُ، فيدور المعنى التداولي للفظةِ حول الحَجب والإخفاء، ويرد في لسان العرب أن لفظة العباءة مشتقةٌ من عبأ بمعنى العِبء والثِّقل، وتحمل داخلها معنى آخر هو ضوء الشَّمس [13]؛ فيتضح التناقض بين المعنى الأول والثاني، ففي الأول ثِقل وفي الثاني انفراج، ويرتبطُ المعنى الثَّاني بالكلمةِ الثَّانية في العنوان "كوشيَّة"؛ بالحضارة الكوشيَّة السُّودانيَّة، وكل حضارةٍ تشكِّل هويَّة أفرادها، فيحمل العنوان دلالة انفراج العبء بانجلاء الهويَّةِ والاتصال بها.
فالنَّصُّ من عتبتِه الأولى يشيرُ إلى الثنائيَّة الضِّديَّة (الخفيِّ/ الجليِّ) الذي تعاني منه الحضارةُ الكوشيِّة المتمثِّلةِ في الإنسان الأسوَد، لكنَّها حضارةٌ موجودةٌ رَغم ما تعرَّضت له من حجْبٍ وعدمِ احتفاء، لذلك ترتَدي عباءةً فهي واضحة كالشَّمس ويعمل على إجلائها علماء الآثار والتاريخ وكذلك الأدباء وغيرهم، ولكنها بالمجملِ محجوبة نتيجة للتهميش الذي تعرَّضت له إفريقيا.
تعلن الشَّاعرةُ في المطلعِ أن القصيدة لبلادها، وأذان الميلادُ تجسيد مجازيٌّ لإلحاحِ الذّات الشَّاعرة في كتابةِ وطنها لبعثِه وتخليدِه بفعلِ الكتابة، فالوطنُ مكانُ الميلاد الفعلي، والقصيدة مكانُ ميلادِ المعنى وتوالده، وتمزج الصُّورة بين الرُّموزِ الدِّينية: السِّجادة، المئذَنة، آدم، والرُّموز الوطنيَّة: البلاد، كوش، والرّماح، والدِّين والوطن عنصرانِ أساسيَّان في تكوين الهويَّة ويوحي اجتماع هذه الرُّموز بلحظةِ خشوعٍ يودُّ الشِّعر فيها أن يحكي قصةَ هذا الوطن، تقول:
سجادتان قصــــــــيدتي وبلادي
ومؤذّنــــــان بصرخةِ الميــــــــــــلادِ
ومعارجٌ لم تُبتكـــــــر أسمـــاؤها
جاءت وآدم باسم "كوش" يُنادي
أرتال أسرارٍ ... رمــــــاحٌ حرةٌ
ورؤى تقض مجامع الأضــــدادِ
فهي تفخر بوطنها، وحضارته الكوشيَّة المنتميةِ إلى أقدم الحضارات في العالم، وبِلونها؛ فـ"آدم" عليه السَّلام يمثل أصلَ البشريَّة جمعاء واسمه مأخوذ من الأدَمة التي من معانيها الميل للسُمرة، و"كوش" أقوى إمبراطورية مرت على تاريخ السُّودان، بلغت فيها السُّودانُ أقصى اتساعٍ فضمَّت مِصر وأجزاءَ من ليبيا ومدن البحر المتوسِّط، وخلّفت آثارًا ومعابد