سمية غازي مرشد الطيب
المستخلص
تناولت الدراسة اشتغالات الصورة الفوتوغرافية وتعالقها مع النص في رحلة إلى قصر الحمراء، بالوقوف على ما ينطوي عليه النص والصورة من توثيق تاريخي، بفتح نافذة على إرث مشترك بين المبدع والمتلقي متمثلًا في قصر الحمراء عبر مقاربة سيميائية تأويلية تروم الكشف عن الأثر الجمالي الذي يمتد إلى كثير من التأويلات الممكنة، وإظهار منعطفات التعالق بين النص والصورة في لعبة الظهور والاختفاء. تهدف الدراسة إلى استنطاق جماليات الصورة في الرحلة، عبر الكشف عما قالته الصورة ولم يقله النص، وما قاله النص ولم تقله الصورة. وخلُصت الدراسة إلى نتائج أهمها: ظهرت جماليات تعالق الصورة والسرد في منعطفات الرحلة؛ حيث جاءت الصورة الفوتوغرافية تأكيدًا وميثاقًا على الجانب الوصفي الذي يروم السارد المصور إيصاله للمتلقي.
الكلمات المفتاحية
أدب الرحلة- قصر الحمراء- الصورة الفوتوغرافية- السيميائية التأويلية.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
تنبثق بلاغة الصورة الفوتوغرافية من كونها رسالة مباشرة للمتلقي، عبر لغة صامتة تشي بالكثير من المعاني التي يستخدمها المبدع بُغية مقصد يرومه، ويظهر ذلك عبر تنوعاتها الدلالية التي يقف المتلقي أمام بعضها مشدوهًا يراها انعكاسًا مرآتيًا للمسكوت عنه داخله، وبعضها الآخر يتغيّا جذبه للوقوع في كمين شراء السلعة المعروضة، وبعضها يوثق زوايا الأماكن ورسوم الأمم الفائتة خالقًا مسارًا لخيط المعرفة لا يكتمل إلا بإضافة بيانات، وبعضها الآخر ينقل المآسي ليكشف للمتلقي الجانب المظلم للتاريخ في محاولة لربط المتلقي بماضيه.
تتناول الدراسة جماليات الصورة الفوتوغرافية وتعالقها مع النص الرحلي، موسومة بـــ: اشتغالات الصورة الفوتوغرافية في رحلة إلى قصر الحمراء للبتنوني (مقاربة سيميائية تأويلية)، موضحة ما ينطوي عليه النص والصورة من توثيق تاريخي بفتح نافذة على إرث مشترك بين المبدع والمتلقي، متمثلًا في قصر الحمراء عبر مقاربة سيميائية تأويلية تروم الكشف عن الأثر الجمالي الذي يمتد إلى كثير من التأويلات الممكنة، ومن هنا تأطرت مشكلة الدراسة في محاولة استظهار اشتغالات الصورة الفوتوغرافية وتعالقها مع النص في رحلة تُعدّ من أوائل الرحلات العربية التي وُثِّقت بالصورة الفوتوغرافية، متميزة عن غيرها من النصوص الرحلية بالوصف والتصوير. تهدف الدراسة إلى استنطاق جماليات الصورة في الرحلة، عبر الكشف عما قالته الصورة ولم يقله النص، وما قاله النص ولم تقله الصورة، وما قاله النص وقالته الصورة، منبثقة من السؤال الرئيس: ما جماليات اشتغال الصورة الفوتوغرافية في الرحلة؟ وتفرعت منه أسئلة عدّة بمنزلة محاور للدراسة، وتبرز أهمية الدراسة بالوقوف على المنعطفات الجمالية بتأويل الدلالات لاشتغالات الصورة الفوتوغرافية والنص.
ودعت غايات الدراسة الوقوف وأسئلتها أن تشمل على مستخلص، ثم مقدمة ومفاتيح للدراسة تعرض فيها لعلم السيميائية، والسيميائية التأويلية وماهية الصورة الفوتوغرافية، وطرائق اشتغالها وقراءتها، تلتها محاور الدراسة، الأول: ما قالته الصورة ولم يقله النص. ثم المحور الثاني: ما قاله النص ولم تقله الصورة. والمحور الثالث: ما قالته الصورة وقاله النص، ثم الخاتمة وفيها نتائج البحث ومنها: ظهرت جماليات تعالق الصورة والسرد في منعطفات الرحلة؛ حيث جاءت الصورة الفوتوغرافية تأكيدًا وميثاقًا على الجانب الوصفي الذي يروم السارد المصور إيصاله للمتلقي.
أولًا: مفاتيح الدراسة
● علم السيميائية/ السيميائية التأويلية:
ظهر حقل السيميائية في بدايات القرن العشرين، منبثقًا من جهود اللغوي دو سوسير، وأصبح منهجًا نقديًا له أسسه وقواعده يدرس الفنون والآداب عبر العلامة، والأيقونة، والرموز، والدال والمدلول، وتعددت مدارسه، ومنها: السيميائية السردية عند غريماس وتلميذه جوزيف كورتيس، والسيميائيات البصرية وخاصة الصورة الفوتوغرافية والإشهارية عند رولان بارت، وتأويل المعنى الذي تبثه السيميائية عند إمبرتو إيكو وبورس، وسيميائيات المسرح، وسيميائية اللغة المحكية وغيرها الكثير، فتدرس كل شيء انطلاقًا من الإيماءة الصامتة وصولًا إلى الصورة المتحركة.
يرتبط البشر منذ الأزل بالعلامة والترميز، وهذا مجال اختصاص السيميائية وتكوينها الأوّليّ، فهي علم العلامات الذي يستخرج المعاني بواسطة السيميوز [1]وآلياته "باعتباره الوعاء الذي تصب فيه السلوكيات الإنسانية" [2]،[3] كونها "مستودع لعدد هائل من الوحدات الثقافية القابلة للتحقق، ضمن سياقات متنوعة" ، بمعنى أنها تشمل النسق اللساني وغيره، لأن الوظيفة "الخاصة بالبنيات السميوطيقية التي نسميها بألسنة التواصل لا تختص بالألسنة، وإنما توجد أيضًا في البنيات السيميوطيقية التي تشكلها الأنواع السننية غير اللسانية" [4]، ما يشير إلى تعددية السيميائية، وبالتالي "تتشعب مساراتها، وتتعقد شبكتها ويكبر حجم التأويل، ويزداد كثافة" [5]، خاصة فيما يتعلق بالأنساق البصرية التي يتأتى الكشف عن العلامة ومعانيها المتشعبة، بالنظر إلى التوزيع القائم على: الدال- المدلول- المرجع.
ترتبط السيميائية التأويلية بواضعها الأول بورس، إذ تناول العلامة وطرق صياغتها وتداولها بوصفها نشاطًا إنسانيًا، تمثل أرضًا منتجة للعلامة ومستهلكة لها؛ ومن هنا تتأتى أهميتها التي لا تكشف فقط عن العلامة بل تأخذ في تأويلها وفق سياقها وثقافتها؛ ذاك أنها تُعدّ مساعدًا في بناء وعي الإنسان وإدراكه، لذا تأخذ العلامة على عاتقها إضافة معرفة جديدة للمعرفة الآنية والمستقبلية في دورة دائمة، فكل علامة تؤدي معرفة وتقود إلى معرفة جديدة وهكذا، ولا يتأتى ذلك إلا بالتأويل الذي يقف على العلاقات القائمة بين العلامات، وبالتالي فكل فعل تأويلي قادر على توليد علامات جديدة، أما عن مصدر العلامة فإن "مبدأ الثلاثية هو الذي يحكم إنتاج المعرفة وتداولها"[6] وفق خطاطة بورس: الماثول- الموضوع-المؤول [7]، وعلى ما سبق فالتأويل يبسط رؤاه في جناح السيميائية بواسطة الاستدلال على المعنى بما توحيه إليه العلامات الموجودة في النص وصفًا وتصويرًا، تستند إلى الشيفرات اللغوية، وأسلوبية التصوير الفوتوغرافي.
● ماهية الصورة الفوتوغرافية وطرائق اشتغالها:
تقوم علاقة الإنسان بالصورة منذ محاولاته الأولى لإيداع جزء منه في العالم، وظهر ذلك ابتداءً بالنقش على الأحجار كوثيقة رسمية تحيل إلى وجوده "مرّ من هنا" ومحملة بالرمزية؛ لأنها لا تكشف فقط عن المرسوم المصور أو التمثيل الصادق للتجربة، بل تكشف أيضًا عن المتواري منها المتلبس بالقلق والخوف. ثم انتقلت آليات التصوير إلى مرحلة متقدمة مع اختراع آلة الكاميرا، وتنوعت مجالات التصوير ما بين فوتوغرافي، وإشهاري، وكاريكاتيري، وسينمائي، وكل له آلياته الخاصة، وللقوة الدلالية للصورة الفوتوغرافية وظفها المبدعون في أعمالهم الأدبية، ومن أوائل من وظف الصورة في أدب الرحلة البتنوني [8]، فأصبحت نصًا موازيًا للنص الرحلي المكتوب، تنطوي على كثير من المعاني، وتختزل نصوصًا قد تُكتب في صفحات طِوال، ومن هنا تظهر بلاغة الصورة الفوتوغرافية واتساع تأويلاتها كما سيظهر بالتحليل عمّا قالته الصورة ولم يستطع النص قوله، والعكس أيضًا.
تأتي معاني الصورة في معاجم العربية في إطار دِلالات منها: الهيئة والصفة والتوهم والشكل والتمثال [9]، وبالتالي تصبح محاكاة علاماتية أيقونية، بمعنى أن توظيفها واختيار زواياها لا يأتي اعتباطًا، فالصورة "شيء آخر غير استنساخ حرفي لواقع مرئي لا مراء فيه" [10]، يقود هذا الوَسْم إلى فكرة اشتغال السيميائية بالدلالات ومعانيها دون الظاهر السطحي على النص أو الصورة، فاختيار المبدع للصورة "لا يكمن فقط في انتقاء ما يجب أن يكون مرئيًا، بل أيضًا في ما يجب ألا يُرى" [11]، في المقابل يوجد تعريف يقف أمام التعريفين السابقة بالمعارضة، لكنه يتفق في كون الصورة الفوتوغرافية مصنعًا لإنتاج الدلالات الإيحائية التي يجعلها بارت شاهدًا دلاليًا تاريخيًا وثقافيًا، ويسميها: "مدلولات رمزية" [12]، فالصورة الفوتوغرافية عنده "خطاب متكامل غير قابل للتجزئة، إنها تمثل الواقع لكنها تقلصه من حيث الحجم والزاوية واللون، دون أن تحوله أو تبدله"[13] ، يقود تعريف بارت إلى اتكاء الصورة الفوتوغرافية على الواقع و لا يُكشف عنها إلا بالدلالات الرمزية التي تحويها الصورة الملتقطة؛ لأن "الفوتوغرافيا نسق سيميائي مكوّن من دال ومدلول وعلاقة تجمعها تشكل العلامة الفوتوغرافية"[14] وبالتالي ترتبط التعريفات السابقة في المنعطف المتعلق باشتغال الصورة الفوتوغرافية على الدلالات، التي تولّد العديد من المعاني عبر العلاقة التي تجمع بين الدال والمدلول، فالوقائع البصرية تشكل علامات وليدة من "لغة مسننة محكومة بطبيعة ثقافية" [15]، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المعطيات الظاهرة للصورة لا تعني واقعًا بمعنى أن الصورة قد تجتزئ كثيرًا من الحدث، فتخلق واقعًا غير الواقع الذي التقطت منه اللقطة، بمعنى أن فضاء الصورة لا يكون بالضرورة فضاءً معبرًا عن الواقع الذي قُيّدت فيه الصورة، "فإذا كانت الصورة تشير إلى وجود تشابه بينها وبين ما تحيل عليه أو ما تمثله، فإن هذا التشابه لا علاقة له بإنتاج الدلالة، ولا دور له في وجودها" [16].
● قراءة الصورة الفوتوغرافية:
تُقرأ الصورة الفوتوغرافية وفق آليات خاصة، بحسب طرائق التحليل الشبكية لها مثل: شبكة مارتين جولي، وشبكة جيرفيرو وتعتمدان على منهجية بارت في التحليل للصورة الإشهارية، إلا أن الورقة ستقف على ما نقله بلعابد[17] في محاولة لقراءة الصورة وفق ثلاث آليات:
أ- طبيعة الصورة، بمعنى الوصف الموضوعي، أي: ما نراه في الصورة. "تستند الصورة في هذه الآلية من القراءة على أمرين: أولهما المعطيات التي يوفرها التمثيل الأيقوني لإنتاج معانيها، كإنتاج بصري لموجودات طبيعية تامة (وجوه– أجسام– حيوانات– أشياء من الطبيعة...)، وثانيهما: معطيات من طبيعة أخرى، أي: تستند إلى عناصر ليست من الطبيعة ولا من الكائنات التي تؤثث الطبيعة، ويُطلق عليها التمثيل التشكيلي للحالات الإنسانية أي: العلامة التشكيلية (الأشكال– الخطوط– الألوان– التركيب ...)" [18]، وبالتالي تُعدّ مشاهدة سطحية للظاهر غايتها تحديد طبيعة ونوع الصورة، وتفنيدها للقراءة والتأويل.