أسلوبية الضمائر في قصيدة (الأطلال) لإبراهيم ناجي

بدور بنت عبدربه الهذلي

المقدمة

الشعر هو صوت القلب حين تنبض به التجربة الإنسانية، ومرآة النفس حين تنعكس عليها آلام الحب وأشواق الحياة. وإبراهيم ناجي، شاعر العاطفة والوجدان، كان في قصيدته (الأطلال) مثالًا حيًا للشاعر الذي مزج بين عمق الشعور وجمال التعبير، حتى تحولت القصيدة إلى ملحمة وجدانية تعبر عن ألم الإنسان وحنينه إلى ما مضى.

في هذه الدراسة، أسلط الضوء على أسلوبية الضمائر في قصيدة (الأطلال)؛ حيث لم تكن الضمائر مجرد أدوات لغوية، بل جسدت مشاعر الشاعر، ونقلت تحولات وجدانه بأصوات متباينة بين المتكلم، المخاطب، والغائب. حتى أضحى كل ضمير رمزًا دلاليًا يعكس مكنونات النفس، ويضيف إلى النص بعدًا جماليًا ومعنويًا.

أهمية الدراسة تكمن في قدرتها على إظهار كيف يمكن للضمائر كأدوات تعبيرية، أن تعكس المشاعر الداخلية وتعزز التجربة الجمالية للنص الشعري، مما يساعد القارئ على فهم التحولات النفسية التي مر بها الشاعر ويعمق تجربته في تلقي النص.

مشكلة الدراسة

تتجسد في البحث عن كيفية توظيف الضمائر المتنوعة في قصيدة (الأطلال)، وما تمثله من دلالات نفسية ساهمت في تكوين التجربة العاطفية للشاعر وأثرت في المتلقي.

أسئلة الدراسة

● ما دور الضمائر المختلفة في تشكيل بنية النص الشعري؟
● كيف يعكس كل ضمير تجربة الشاعر النفسية والعاطفية؟
● ما تأثير التحولات بين ضمائر المتكلم، المخاطب، والغائب على تجربة الشاعر وتفاعل المتلقي مع النص؟

أهداف الدراسة

● تحليل كيفية توظيف الضمائر كأدوات تعبيرية في قصيدة (الأطلال).
● توضيح دلالات الضمائر المختلفة وأثرها في إبراز الحالة النفسية للشاعر.
● دراسة تأثير التنقل بين الضمائر على فهم وتجربة المتلقي للنص.

الدراسات السابقة

تناولت دراسات عديدة شعر إبراهيم ناجي، منها:

● في السياق الاجتماعي:
صالح جودت، غراميات ناجي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ع46، 1960م.

● في السياق النفسي:
- صدام فهد الأسدي، تداعيات الألم في شعر الدكتور إبراهيم ناجي، المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، ع28، 2016م.
- عبد الهادي عبد النبي علي، إبراهيم ناجي: شاعر العاطفة والوجدان جامعة الأزهر- كلية اللغة العربية بالمنصورة، ع7، 1987م.

● في النقد التطبيقي:
- محمود الربيعي، قراءة قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي: من النقد التطبيقي، مجلة كلية دار العلوم، ع4، 1973م.
- أحمد علي محمد، شعرية الأطلال عند إبراهيم ناجي، اتحاد الكتاب العرب، مج42، ع512، 2013م.
- حسام أيوب، أسلوبية الضمائر في ديوان (وراء الغمام) لإبراهيم ناجي، مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الآداب والعلوم الإنسانية، مج25، ع1.

منهج الدراسة

يعتمد البحث على المنهج الأسلوبي النفسي؛ حيث يُحلل النص الشعري بالتركيز على دور الضمائر في التعبير عن المشاعر الداخلية والتجربة النفسية للشاعر، مع إبراز الجوانب الجمالية التي أضافتها هذه العناصر إلى النص الشعري.

بهذا التحليل، آمل أن أعيد قراءة (الأطلال) من زاوية جديدة؛ حيث تصبح الكلمات أدوات تكشف عن عمق النفس البشرية، لتظل هذه القصيدة شاهدة على عبقرية ناجي في التعبير عن التجربة الإنسانية بأدق تفاصيلها.

التوطئة

للضمائر في الدرس النحوي والأسلوبي أهمية بالغة في الكشف عن الذوات، المتكلمة والمخاطبة والغائبة، وعن هوية الذات، سواء أكانت مذكرًا أم مؤنثًا. ولذا، فقد اهتم العلماء اللغويين والنحاة والنقاد باستعمالات الضمائر منذ القدم في الخطاب اللغوي؛ لما لها من قيمة تعبيرية تظهر أبعادًا دلالية متعددة في أي خطاب لغوي، وذلك وفق السياق الذي ترد فيه، سواء أكانت دلالة السياق نفسية، أم اجتماعية، أم دينية، أم سياسية، أم غير ذلك.

ولتحديد الضمائر في الخطاب الشعري عامة، وفي شعر إبراهيم ناجي [1]، وقصيدته (الأطلال) موضوع الدراسة، دورٌ فاعل في بيان الكيفية التي يُبنى بها النص الشعري، إضافة إلى ما يؤديه في السياق الشعري من وظيفة ترتبط في الأساس بجزئية التواصل المفترض بين المبدع والمتلقي. ويظهر ذلك جليًّا من خلال قول أندرسون إمبرت: "إن الضمائر تصنع الأساس الصلب الذي تتم عليه قواعد الاتصال اللغوي" [2].

والقارئ المتأمل في شعر إبراهيم ناجي، يجد أن غالب شعره، وخاصة قصيدة الأطلال لا يخلو من العاطفة العميقة، والتأمل الفكري، إذ ينبض بمشاعر الألم، واليأس، والكآبة التي استقاها من الحياة القاسية التي عايشها في تلك الحقبة، سواء من الجانب السياسي أو المعيشي، إضافة إلى آلام الحب، وفراق الأحبة؛ ومع هذا كان الأسلوب رقيقًا، وقد مثَّلت الضمائر فيه عنصرًا أساسيًّا في بنيته الشعرية، وارتبط استخدامها في الأساس بالدلالات التي يولدها من سياق إلى سياق آخر بحسب حركة المعنى في النص؛ فالضمائر الثلاثة مثلًا: (أنا، هو، أنت) تتحدد وظيفتها التعبيرية والجمالية وفقًا للسياق الشعري الذي ترد فيه.

والمتأمل في المعنى المعجمي لكلمة (الأطلال)؛ يجد أن إبراهيم ناجي قد استخدمها لتكون عنوانًا لأشهر قصائده، ولكنه لم يقصد بالكلمة معناها المعجمي؛ إنما ألبسها دلالات وإيحاءات أفصحت عنها مفردات القصيدة، ومعانيها، "فالأطلال" عنده هنا في القصيدة مثلًا، لا تحمل المعنى المعجمي المتعارف عليه عند العرب بأنها البقايا من ديار المحبوبة، وإنما لها دلالة أخرى جديدة كأطلال الحب، وأطلال الروح، والجسد، والذكرى. وإضافة إلى ذلك فقد كان ناجي شاعرًا، مجددًا في مضامين شعره وأسلوبه، وخاصة شعره الوجداني الذي لا يزال -حسب تقديري النقدي له- أرق شعرٍ وأنداه. وظل يعبر في شعره عن هذه النزعة الوجدانية الذاتية الحزينة، حتى لقى ربه في مارس عام 1953م، إذ رحل شاعر العاطفة تاركًا بصمةً في الشعر العربي الحديث.

ومن بين أبرز قصائد ناجي قصيدة (الأطلال)، التي كتبها في ثلاثينيات القرن الماضي، وضمّها إلى ديوانه (ليالي القاهرة). اكتسبت هذه القصيدة شهرة واسعة في العالم العربي بعد أن غنّتها أم كلثوم بألحان رياض السنباطي، لتصبح رمزًا للألم العاطفي ولحظات الحب الضائعة؛ ولشهرتها اعتمدتها مادة للدراسة الأسلوبية، وخصصت لذلك منها موضوع الضمائر دون غيرها؛ لكونها تمثل إشارات دلالية، تعكس تمثلات وانطباعات الشخص المبدع والمتلقي معًا، ولما للضمير في قصيدة (الأطلال) من دورٍ محوري في تعميق الدلالة وإثراء المعنى، إذ نجد ناجي يتنقل في استخدامه ما بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب بشكل متقن. هذا التنقل أتاح له إبراز عواطفه بصورة مباشرة، والتنقل بين وصف ذاته وعلاقته بالآخر -المحبوبة- ليشرك القارئ في تجربة حزنه ويأمل أن يشعر بألمه. هذا التنوع عكس حركة الشعور داخل النص، وأبرز الضمير كأداة فاعلة تبني طبقات متعددة من الدلالة، وتجعل المتلقي يشعر بتجربة الشاعر العميقة وكأنه جزء منها، مما يمنح النص قوة وعمقًا أدبيًا.

في هذا السياق، تناولت الدراسة فاعلية الضمير في قصيدة (الأطلال) بصفتها أداةً دلالية، تُسهم في إنتاج بنى متعددة داخل الخطاب، فتنوعها يشد ذهن المتلقي بصفة دائمة؛ لأنه يتابعها في كل موضع من النص الشعري، مما يجعل كل موضع منها يحمل دلالة جديدة، تعبّر عن مشاعر الحب، والفقد والحزن المتجذرة في تجربة الشاعر الشعرية.

أولًا: الضمير وإنتاج الدلالة في النص الشعري

1. الأسلوبية:
أثارت الدراسات الأسلوبية اهتمام الباحثين في مجال الأدب؛ لما امتازت به من موضوعية في استخلاص الأحكام النقدية، وقد عرّفها بالي بأنها: "علم يُعنى بدراسة وقائع التعبير في اللغة المشحونة بالعاطفة المعبرة عن الحساسية". وعبّر رومان جاكبسون عن هذا المعنى بقوله: "إن الأسلوبية تبحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولًا، وعن سائر الفنون الإنسانية ثانيًا" [3].

وتهدف الأسلوبية إلى تحليل اللغة الأدبية لتظهر جمالياتها. مع التركيز على عملية الإبلاغ والإفهام؛ حيث يسعى المبدع إلى بناء نصه بأسلوب يجذب الانتباه ويثير تفاعل القارئ. فهي علم وصفي يعتني بالخصائص والسمات التي تميز النص الأدبي عن طريق اختيار عناصر لغوية محددة، مثل: استخدام الضمائر في النصوص الشعرية، لتعزيز العلاقة بين المتكلم والمتلقي وتوصيل المشاعر بطريقة عميقة. هكذا تصبح الأسلوبية وسيلة فاعلة تتجاوز الوظيفة النحوية للضمائر، لتضفي على النص الشعري أبعادًا دلالية وعاطفية تعزز الرسالة الأدبية وتعمق من التواصل الوجداني مع المتلقي.

ومن أبرز أنواع الأسلوبية، الأسلوبية النفسية، التي تعرف أيضًا بالتعبيرية أو الانطباعية، وجميع قواعدها النظرية والتطبيقية قد أغرقت في ذاتية التحليل [4]. وتتميز هذه المدرسة بكشفها عن شخصية صاحب النص من خلال تحليل سماته الأسلوبية، فهي تُعنى بمضمون الخطاب وحبكته اللغوية، مع الاهتمام بالعلل والأسباب المتعلقة بالنص الأدبي وقد استعان (شبتزر) بالدلالة التاريخية ليأخذ منها معلومات تسهم في معرفة تجليات النص؛ حيث يرى أن الكلمة تكتسب دلالات مختلفة بحسب سياقها، ما يجعل الأسلوب تعبيرًا عن شخصية الشاعر.

وفي هذا السياق، يمكن التفريق بين مصطلح (الأسلوب) و (الأسلوبية). كما أوضح محمد عبد المطلب، فإن "الأسلوب يمثل الأنماط المتنوعة في اللغة، في حين تنصب الأسلوبية على تحليل هذه الأنماط وخاصة في جوانبها الفردية" [5]. وهكذا، تكشف الأسلوبية جماليات النصوص الأدبية من خلال دراسة لغوية تربط بين البنية والتأثير.

5. دور الضمائر في النص الشعري:
يمثل الضمير بنية شكلية تمثل محور الجهة الناطقة في بناء القصيدة، سواء أدل على المتكلم، المخاطب، أو الغائب. وعادةً ما تتميز كل قصيدة بنمط معين من الضمائر يغلب على نصها، ومن هنا يمكن تصنيف القصائد على أساس ارتفاع نسبة شيوع أحد الأنماط الثلاثة [6].

وفي نظر اللسانيين المحدثين، يحظى الضمير بأهمية خاصة؛ حيث وُصف بأنه "يمثل بحق أعصاب النص الشعري وجماع قسماته المميزة" [7]. وأهمية الضمير لا تقتصر على بنيته الشكلية، بل تمتد إلى وظيفته الدلالية والجمالية التي تتغير حسب السياق الذي يرد فيه. فالأصوات الثلاثة (هو، أنا، أنت) لا تحمل دلالات ثابتة، بل تكتسب وظيفتها التعبيرية والجمالية بناءً على موقعها في النص ومدى ارتباطها بسياقه، مما يجعل الضمير أداة فاعلة تحفز ذهن المتلقي لاستنباط المعنى المراد.

إضافة إلى ذلك، يلعب الضمير دورًا محوريًا في تحقيق التماسك النصي؛ إذ تشير ضمائر المتكلم والمخاطب عادةً إلى عناصر خارج النص، بينما تُحيل ضمائر الغائب إلى داخله ومن هنا، "فدراسة الضمير تدفع المتلقي إلى حركة إيجابية توازي حركة المبدع نفسه" [8].

ثانيًا: الضمائر وإنتاج الدلالة في قصيدة الأطلال

1. ضمائر المتكلم:
لما كان ضمير المتكلم يكشف عن أعماق الذات، ومكنونات النفس للقارئ، ويضفي ذاتيةً للنص، سواء أكان منفصلًا أم متصلًا، ظاهرًا أم مستترًا؛ إذ إن ضمائر المتكلم والمخاطب تحيلان القارئ إلى ما هو خارج النص. وبالنظر إلى قصيدة الأطلال لناجي فقد جاء ضمير المتكلم مستترًا بصيغة المفرد والجمع، بتكرار أربع وعشرين مرة؛ وذلك في قوله: (أَقْتَاتُ-وَأَفي- أَنْسَاكِ- أَنْسَاكِ- نَتَلاَقَى- نَبُوحْ- أعلو- نَسْتَشِفُّ-نرى- أَلْمَحُ- وَأَرَى- أَحْمِلُ- نُغَرِّدْ- انْتزِعْهَا- اُبْصِرُ- لَمْ اُطِعْهَا- لَمْ أَتَّبِعْهَا- لَمْ أَبِعْهَا- اُغَنّي- اُبْقِيْهِ- فَأعْفُ- أَنْ نَعُودَا- أَنْسَى- نَرَى). وجاء في القصيدة بارزًا: ("أنا" سبع مرات- و"ياء المتكلم" أربع وسبعين مرة، و"تاء الفاعل" ست عشرة مرة- و "نا الفاعلين" إحدى وعشرين مرة) بإجمالي مائة وثماني عشرة مرة، وذلك في قوله: (وَأَنَا أَقْتَاتُ- وَأنَا لَكِ- وَاَنَا عِنْدِيَ- وَأَنَا أَحْمِلُ- وَأَنَا حُبٌّ- وَأَنَا مُرْتَقِبٌ- ها أَنَا- فُؤَادِي- اِسْقِني- عَنِّي- وَمِصْبَاحِي- مِنّي- دّمي- انْتِزَاعي- وَاغْتِصَابي- شِعْري- مَهْرَبي- اَغْرَيْتِني- نَحْوي- أَقْدَامي- أَغْرَيْتِني- سَمَائي- فَكَأَنّي- عِنْدِيَ- بِعَيْنيْ- حَوُلِيَ- ضِحْكِي- وَرَقْصي- وَيَرَاني- يَطْحَنُنِي- خَيَالي- تَاجي- مَعْبَدِي- عَيْني- مِنّي- أَمْرِي- حِوْليَ- لِقَلْبي- لِعَيْني- أَنَّني- بِيَ- وَلِيَ، وَلِيَ- رَأْسي- نَفْسي- اُغَنّي- أَلَمي- وَحَنِيْني- أَضْلُعي- دَمي- مَوْضِعي- وَقَلْبي- رُوحي- أَعْطِني- حُرِّيَتي- يَدَيَّ- إِنَّني- مِعْصَمي- احْتِفَاظي- دُمُوعي- أَرَاني- أَحْلامي- وأَرَاني- مَدْمَعي- شِعْري- لِي- أَلَمي- تَدْعونيَ- حُبّي- فيَّ- لي- وَفَائي- لِيَ- حُبِّي- وَتَعِلَّاتِي- وَيَأْسِي- لي- عَيْني- يَا حَبِيْبي- لِيَ- لِيَ- تَقَلَّبْتُ- لَسْتُ- لَسْتُ- فَأَدْمَنْتُ- قُلْتُ- أسْدَلْتُ- زُرْتُ- أَعْطَيْتُ- اسْتَبْقَيْتُ- رَأَيْتُ- قُلْتُ- لَسْتُ- أَطْبَقَتُ- وَسَّدْتُ- ما قضَيْنَا- وقَضَيْنَا- كُنَّا- وَبِسِرَّيْنَا- بَيْنَنَا- وَسَقَانَا- فَانْتَفَضْنَا- عَرَفْنَا- وَسَمَعْنَا- أَمَرَتْنَا- أَمَرَتْنَا- فَعَصَيْنَا- وَأَبَيْنَا- فَكُنَّا- وَطُرِدْنَا- جُزْنَا- بِأَيْدينَا- خُلِقْنَا- تَجْمَعُنَا- أَقْدَارُنَا- وَتَلاَقَيْنَا)؛ ولذا فقد جاءت ضمائر المتكلم في النص الشعري بصفتها مرتكزات تشير إلى شرايين فاعلة في نسيج السياق النصي للقصيدة، تعمل على ربط الجمل الشعرية ببعضها البعض، والتماسك النصي للقصيدة على المستوى الأفقي والعمودي، إضافة إلى أنها تظهر في النص كخيوط تنظم بناء الدلالة.

إن هذا الحضور البارز في القصيدة لضمير المتكلم الذي بلغ تكرار توظيفه بشتى أنواعه مائة واثنين وأربعين مرة، فقد شكل ضمير المتكلم بتلك الكثرة، وذلك الحضور في الأفعال والأسماء والحروف أداةً رئيسة في التعبير عن الصراع الداخلي للشاعر، إذ بنى إبراهيم ناجي قصيدته على ثنائية ضدية بين الحاضر المؤلم والماضي الذي يتوق إليه.

يتمثل الحاضر في إحساس الشاعر بالخيبة والانكسار والنهاية القاسية لتجربته العاطفية، وفي المقابل نجد الماضي الذي ليس ببعيد وكل أشواقه وحبه، وحنين اللقيا والوصال، وذلك في قوله:

كَيْفَ ذَاكَ الحُبُّ أَمْسَى

وَحَدِيْثًا مِنْ أَحَادِيْثِ

خَبَرًا

الجَوَى

وَبِسَاطًا مِنْ نَدَامَى حُلُمٍ

هم تَوَارَوا أَبَدًا وَهُوَ

انْطَوَى

إن الشاعر هنا يتحدث بضمير المتكلم الغائب، حين يسأل نفسه متعجبًا، من حال الحب الذي كان بينه وبين محبوبته في الماضي، وكيف غدى بعدها وحيدًا دون حبيب يشاركه أفراحه وأتراحه. فحديثه بضمير الغائب ليؤكد عمق المأساة التي يخفيها في قلبه لفراق محبوبته.

فأطلال ناجي ذات دلالات متداخلة، فعنوان القصيدة (الأطلال) صورة بكائية حوارية بين الشاعر وقلبه، يبوحان فيها عن الحب الذي ذهب أدراج الرياح، والبساط الذي انطوى والنديم الذي توارى كما تجلى في مطلع القصيدة، فالأطلال التي يريدها ناجي تنزاح عن أطلال القصيدة العربية، فهي أطلال بمعنى جديد يتصل بذات الشاعر ضمن تجربة الحب، وليس غريبًا أن يناجي الشاعر نفسه، فحاله في ذلك حال الشعراء الكبار من معاصريه، إذ نجده يحاور ذاته ويتحدث معها عن أحاسيسه الخائبة، ويفصح عما يغور في وجدانه من لوعة:

يا فُؤَادِي رَحِمَ اللّهُ الهَوَى

كَانَ صَرْحًا مِنْ خَيَالٍ

اِسْقِني واشْرَبْ عَلَى

فَهَوَى

أَطْلاَلِهِ

وارْوِ عَنِّي طَالَمَا الدَّمْعُ

كَيْفَ ذَاكَ الحُبُّ أَمْسَى

رَوَى

خَبَرًا

وَحَدِيْثًا مِنْ أَحَادِيْثِ الجَوَى

إن بروز ضمير المتكلم في هذه الأبيات من خلال الحوارية التي أنشأها ناجي بينه وبين فؤاده، تشير إلى محاولة الشاعر تعرية نفسه، وكشف ما يواريه من حزن وألم أمام القارئ؛ ليدرك القارئ مدى التأثير النفسي الذي حلَّ بالشاعر بسبب فقده محبوبته؛ وهذا يؤكد أن فاعلية ضمير المتكلم وثيقة الصلة بفاعلية الأنا الشعرية، وحضورها في مثل هذا السياق الشعري في إطار حوارية بين الشاعر وذاته؛ ليؤكد من خلالها قوة المعاني المرتبطة بمفردات السياق في النص الشعري.

وفي قوله:

يَا رِيَاحًا لَيْسَ يَهْدا

نَضَبَ الزَّيْتُ وَمِصْبَاحِي

عَصْفُهَا

انْطَفَا

وَأَنَا أَقْتَاتُ مِنْ وَهْمٍ

وَأَفي العُمْرَ لِنِاسٍ مَا

عَفَا

وَفَى

كَمْ تَقَلَّبْتُ عَلَى خَنْجَرِهِ

كَمْ تَقَلَّبْتُ عَلَى خَنْجَرِهِ

وصفٌ لهذا الحب السريع كالرياح، إن معظم شعر ناجي يصدر عن طبع تأثري يمكّن المتلقي من رؤية موجات نفسه من خلال شعره، فالمقاطع الثلاثة الأولى شكّلت لنا مدخلًا أراد الشاعر من المتلقي أن يشاطره ويتأمل معه هذه التجربة الشعرية الصادقة، والنداء (ياء) للدلالة على الضعف والحاجة والافتقار إلى من ينادمه هذا الضنى، فتظهر المنادى الطبيعة رفيقًا حميمًا، تدعوه إلى النسيان فيشتكي لها تارة، ويحاورها في تاراتٍ أخر. مستخدمًا في ذلك ضمائر المتكلم: (ياء المتكلم- أنا- تاء الفاعل)، وقد ظهرت جليَّةً في الألفاظ: (وَمِصْبَاحِي- وَأَنَا أَقْتَاتُ- وَأَفي- تَقَلَّبْتُ: مكررة مرتين)؛ وهي ألفاظ تدل على الحسرة والندم، والضعف، وقلة الحيلة تجاه ما يشعر به من وهج حب متوقد في قلبه، لحبيبٍ فارقه، وغاب عن ناظريه.

ويبرز ضمير المتكلم (ياء المتكلم) في بعض السياقات الشعرية الاستفهامية، التي خرجت عن معنى الطلب، إلى معانٍ أخرى، ومنها الإنكار، والتعجب؛ ليعبر من خلالها عن قلقه واغترابه الداخلي، ومن تلك الأساليب الاستفهامات المتضمنة بعض مفرداتها ضمير المتكلم، قوله في بداية بعض أبياته الشعرية: (أَيْنَ مِنْ عَيْني حَبِيبٌ سَاحِرٌ؟!)، وقوله: (أَيْنَ مِنّي مَجْلِسٌ أَنْتَ بِهِ؟!)، وقوله: (لَيْتَ شِعْري أَيْنَ مِنْهُ مَهْرَبي؟!). فقد برز ضمير المتكلم (الياء) في الألفاظ (عَيْني- مِنّي- شِعْري- َمهْرَبي)؛ وذلك للدلالة على قرب محبوبته منه، فهي دومًا ماثلة أمام ناظريه وفي هذا تعزيز لشعور المثالية في هذا الحب.

ثم يبرز ضمير المتكلم للتأكيد على أن من فارقته هي كل حبه ويأسه، من خلال لجوئه لخلق حوار مع أحد عناصر الطبيعة، وهو الرياح، الذي قد اقترح عليه نسيان حبيبته، وأن يأتي بأخرى، لعلها تنسيه أشواقه وحبه لمن فارقها، لكنه يقف أمام هذا الآخر -الرياح-، رافضًا ما اقترحه عليه، متمسكًا بحبه الأول، فيقول:

أَيُّهَا الرِّيْحُ أَجَلْ لَكِنَّمَا

هِيَ حُبِّي وَتَعِلَّاتِي وَيَأْسِي

هِيَ في الغَيْبِ لِقَلْبي

أَشرَقَتْ لي قَبْلَ أَنْ تُشْرِقَ

خُلِقَتْ

شَمْسِي

وَعَلَى مَوْعِدِهَا أَطْبَقَتُ

وَعَلى تَذْكَارِهَا وَسَّدْتُ رَأْسِي

عَيْني

هنا أضفى ضمير المتكلم نوعًا من الصلة القوية، والعلاقة الحميمة، الأبدية بين الشاعر ومحبوبته، وذلك من خلال اتصال الضمير بصفات نسبها الشاعر إلى محبوبته، وإلى نفسه معًا.

وثمة سؤال يطرح: ما الوظيفة التعبيرية من حضور ضمائر المتكلم بشكل مكثف في القصيدة عامة؟، إن هذا الحضور لتلك الضمائر هو معادل موضوعي لحضور الذات المفردة وانغماسها مع الآخر، المحبوبة والجماعة، ومع عناصر أخرى تلازمها، وهذا يشكل علاقة اتصال وانسجام بين الذات والشاعر، والشاعر والمحبوبة والشاعر والجماعة؛ مما يبرز الطبيعة العاطفية للتجربة التي يصفها ناجي. فهو لا يكتفي برواية تفاصيل الحزن، بل يدعونا لمشاركته شعور الأسى والحيرة، ويظهر ذلك في اعتماده على لغة مشحونة بالانفعالات، مثل: مجيء تلك الضمائر في أساليب إخبارية، تثبت بأن ذلك الحزن ثابت ومستقر في نفسه. وأيضًا في أساليب طلبية، كالاستفهام والنداء، والأمر، تأتي لتقرر ذلك الحزن، وتستعجب أو تنكر ما ألم به بسبب الفراق؛ مما يجعل النص أشبه بمناجاة داخلية صادقة، تكشف عن عمق الألم والحنين.

ثم إنه يمكن القول إن تكرار ضمير المتكلم في القصيدة بكثرة يعكس هيمنة الذات الشاعرة على النص، التي يتصارع بها الحب واليأس، التمسك والانفصال، هذه الثنائية تشكل تجربة إنسانية عميقة، تمثل جوهر الشعر الرومانسي؛ حيث تمتزج العاطفة الحادة بالتأمل؛ لتجسد معاناة الشاعر الفردية.

0. ضمائر المخاطب:
ولضمائر المخاطب (أنتَ- أنتِ- الكاف) الدالة على المخاطب الأنثى والذكر، حضورٌ لا بأس به في القصيدة، فقد تكرر في القصيدة إجمالًا سبع وعشرين مرة؛ حيث تكرر الضمير (أنتِ) للأنثى خمس مرات، في قوله: (أَنْتِ رُوحٌ في سَمَائي- أَنْتِ حُسْنٌ في ضُحَاهُ- أَيْنَ مِنّي مَجْلِسٌ أَنْتَ بِهِ؟!- أَنْتِ قَدْ صَيَّرْتِ أَمْرِي عَجَبَا). فالشاعر باستخدامه ضمير المخاطب (أنت)؛ يريد أن يؤكد مكانة محبوبته، في حياته، وفي نفسه، فهي روح في سمائه، وهي باهية الحسن والجمال، وهي سكنه، ومأواه، وهو بدونها يشعر بالغربة، والحسرة، والألم، والشوق.

وجاء كاف المخاطب للذكر والأنثى، وتكرر إحدى وعشرين مرة؛ وذلك في قوله: (إِنّهَا قَبْلَكَ- عَنْ عُشِّكَ- عَيْنَيْكِ- لَكَ إِبْطَاءُ- وَحَنِيْني لَكَ- آهِ مِنْ قَيْدِكَ- أَنْسَاكِ- أَيْنَ في عَيْنَيْكِ...؟! أَنْسَاكِ- لكِ- وَعْدُكِ- حَائِرٌ مِنْكَ- رُوحَكَ سِجْنًا- صَدِئَتْ رُوحُكَ- عِنْدَ أَقْدَامِكَ-وعَلَى بَابِكَ- وَلَكَ الحَقُّ- الحُبِّ في رَأْيِكَ- لَكَ في البِدْءِ- خُذْ قِيْثَارَتَكْ- غَنِّ أَشْجَانَكَ). وهذا الحضور والتكرار لضمائر المخاطب في النص الشعري، وظّفه الشاعر للتعبير عن مواجهة مباشرة بين المتكلم الذات الشاعرة والمخاطب؛ مما يضفي على النص بعدًا دراميًا، ويتيح تعدد الأصوات داخله. في قصيدة (الأطلال) وجّه إبراهيم ناجي ضمائر خطابه إلى حبيبته والطبيعة، كما هو شائع في الشعر الرومانسي، وقد وصل به الأمر إلى المزج بينهما؛ مما جعل النص يتحرك في أجواء تجمع بين العاطفة الإنسانية وتأملات الطبيعة.

لقد أضفى ضمير المخاطب بعدًا حيويًا على النص؛ حيث تحول الصوت الواحد –صوت الشاعر- إلى حوار داخلي متكامل، يحمل تناقضات الحب واليأس، الحنين والخذلان. ورغم أن المخاطب يبدو في ظاهره موجّهًا إلى الحبيبة، إلا أنه في جوهره حوار ذاتي، يعكس انشطارات نفسه الداخلية؛ حيث يتحول الشاعر إلى متكلم ومخاطب في آنٍ واحد. فيقول:

لَسْتُ أَنْسَاكِ وَقَدْ

بِفَمٍ عَذْبِ المُنَادَاةِ رَقِيْقْ

ناديتني

أَيْنَ في عَيْنَيْكِ ذَيَّاكَ البَرِيْقْ؟!

وبَرِيْقًا يظمأ السَّاري لَهُ

بِالذُّرَى الشُّمِّ فَأَدْمَنْتُ

لَسْتُ أَنْسَاكِ وَقَدْ

الطُّمُوحْ

أَغْرَيْتِني

لَكِ أَعْلُو فَكَأَنّي مَحْضُ رُوحْ

أَنْتِ رُوحٌ في سَمَائي

وأنَا

في هذه الأبيات تظهر ضمائر المخاطب من خلال الكلمات: (أَنْسَاكِ- عَيْنَيْكِ- لَسْتُ أَنْسَاكِ- أَنْتِ- لَكِ)، وقد امتزجت في ترابط معنوي وبنيوي وثيق مع ضمائر المتكلم، في دلالة منه إلى ذلك الحب الأصيل، بينه وبين محبوبته، وهو يريد أن يوصل تلك الدلالات إلى المتلقي ليشاركه أحزانه، وآلامه.

وإذا ما تأمل القارئ إلى الصور التي جاءت تلك الضمائر جزءًا في بنيتها التركيبية فإنه يجدها طافحة بالحيوية، والحركة، وبالمشاعر الفياضة، التي

تؤثر في النفس؛ حيث تجسد من خلالها الألم العاطفي بصورة مؤثرة، إذ جعل الشاعر من الحبيبة مصدر إلهام وعذاب معًا. الحب هنا ليس مجرد ذكرى، بل تجربة تتسرب إلى الحاضر، وتتجلى في المناجاة الحزينة التي تفيض بالحنين والأسى.

يمضي الشاعر في تصوير مأساوية العلاقة المنتهية، مستعينًا بصور متتابعة تعكس حالته النفسية المضطربة، من خلال ضمير المخاطب، الممتزجة بالضمائر الأخرى، وذلك في قوله:

ذَهَبَ العُمْرُ هَبَاءً فَاذْهَبي

لَمْ يَكُنْ وَعْدُكِ إلاَ

اُنْظُري ضِحْكِي وَرَقْصي

شَبَحَا

فَرِحًا

وَأَنَا أَحْمِلُ قَلْبًا ذُبِحَا

إن الشاعر يخاطب العلاقة المنتهية بالموت، من خلال استخدامه لكاف المخاطب، وإضافته إلى الوعد، الذي وصفه بشيء هلامي، يشبه الأشباح، طالبًا منها النظر وكأنها أمامه (انظري أنت...) إلى ضحكاته التي توحي بالفرح، لكنها ليست كذلك، فهو كالطير الذي يرقص مذبوحًا من الألم. إنه من خلال ترابط الضمائر في البيتين يشير إلى أن القصة العاطفية هنا وإن كانت في عداد الماضي، ولكنها أثرت في نفسه حتى غدت مرتبطة به في الحاضر، فيرسم للمتلقي هذه الصور الفريدة الماثلة من عمق الإحساس بفداحة الموقف الشعوري، ويمتد الشعور من خلال المقاطع التي تصور انهيارات هذا الحب، وتجسَّد تلك المأساة، حتى إذا أرهقه الألم صرخ بائسًا متحسرًا، لتبدأ ثورته على العاطفة، والتهديد والتمرد، معلنًا أن تلك القيود قد أدمت معصمه، مخاطبًا محبوبته، وحبه لها، ذلك الحب الذي قيده، وجعله أسيرًا، فيقول:

أَعْطِني حُرِّيَتي أطْلِقْ يَدَيَّ

إِنَّني أَعْطَيْتُ مَا اسْتَبْقَيْتُ

آهِ مِنْ قَيْدِكَ أَدْمَى مِعْصَمي

شَيَّ

مَا احْتِفَاظي بِعُهُودٍ لَمْ تَصُنْهَا

لِمَ أُبْقِيْهِ وَمَا أَبْقَى عَلَيَّ

وَإِلاَمَ الأَسْرُ وَالدُّنْيا لَدَيَّ؟!

يتمثل ضمير المخاطب المستتر في الصيغ الفعلية الآتية: (أَعْطِني- أطْلِقْ- لَمْ تَصُنْهَا) وفي الضمير المتصل (الكاف) في لفظة: (قَيْدِكَ)؛ إذ يشكل في البنية الأسلوبية دورًا في تعزيز الدلالات التي بُني عليها السياق الشعري، وتلك الدلالات تعني حرص الشاعر على التحرر من قيود الحب، ومحاولة نسيان تلك العلاقة التي ربطته بمحبوبته زمنًا؛ مما أدت إلى جعله يعيش حياة البؤس والمعاناة، والصراع النفسي الداخلي مع ذاته، والخارجي مع الواقع والمجتمع من حوله؛ تلك المعاناة في الحب دفعته إلى أن يبحث عن الخلاص مما هو فيه من آلام وعذاب.

يظهر من خلال هيمنة ضمير المخاطب أن هذه المحبوبة التي وجّه إليها إبراهيم ناجي كلماته ليس إلا الشاعر نفسه، فقد ظهرت ذات الشاعر مشظية، متعددة بين خطاب لها، وخطاب للمحبوبة الغائبة، وهو ما يدل على حالة الفوضى التي تعيشها الذات؛ لهول مصاب الفقد الذي عانته.

ج. ضمير الغائب:
يُستخدم ضمير الغائب في النصوص الشعرية لإضفاء صورة خاصة للموضوع، فصوت الشاعر يختفي وراءه، ويشير غالبًا إلى الزمن الماضي؛ مما يمنح النص طابعًا سرديًا وتأمليًا؛ إذ إن ضمائر الغائب تحيل إلى ما هو داخل النص، وبالنظر في قصيدة (الأطلال)، فإن صوت الشاعر ناجي يتوارى خلف ضمير الغائب؛ ليحكي للمتلقي تجربة الحب والفراق من منظور يبتعد ظاهريًا عنه؛ لكنه في الحقيقة يرصد عمق مشاعره وأوجاعه، ولذا فإن استخدام الشاعر ناجي لضمير الغائب في قصيدة الأطلال يتيح اتساع القيمة التعبيرية للأداء اللغوي؛ حيث تتمكن من الولوج إلى أعماق البنية، وسبر أغوار الدلالة من خلال تسليط الضوء على ذلك الغائب، ومن ذلك قوله:

صَفْحَةٌ قَدْ ذَهَبَ الدَّهْرُ بِهَا

أَثْبَتَ الحُبَّ عَلَيْهَا

وَمَحَا

إن ضمير الغائب هنا يتمثل في (هي صفحة- بها- عليها)، وبإشارة ضمير الغائب إلى صفحة، فيه دلالة على إمكانية تلاشي هذه العلاقة التي استمرت بينهما طويلًا، لكنه يرى بعد طول فراقها أنها كانت مجرد صفحة من كتاب، يمكن أن تُنزع، ولا تُحدث أي خلل فيه، ولهذا فالشاعر يجعل الضمير الغائب (هي) محور الارتكاز، والاهتمام، فمن هي التي أخبر عنها بصفحة، أنها محبوبته وعلاقة حبه لها، التي ذهب بها الدهر، ومحا آثارها. ولهذا كشفت ضمائر الغائب في البيت الشعري عن موقف انفعالي لدى الشاعر تجاه محبوبته التي فارقته.

ومما يشد الانتباه، أن هذا الضمير في القصيدة يحمل دلالات الغياب، والغربة، والوحدة، ويستخدم أحيانًا للتصوير المكثف للشخوص والمكان، فتبدو المحبوبة كأنها شخصية بعيدة، يستدعيها من ماضيه المؤلم، فيتحدث عنها بضمير الغائب، فيقول: (أيكهُ، شاطئها، موطئها، ظامئها، آسيها .... إلخ)، ومن ذلك قوله:

يَا شِفَاءَ الرُّوحِ رُوحي تَشْتَكي

ظُلْمَ آسِيْهَا إِلى بَارِئِهَا

فضمير الغائب في (آسيها- باريها)، مرجعهما معلوم منذ الوهلة الأولى، إذ يحيل الأول إلى الشخص الآسي، والثاني إلى الله سبحانه وتعالى الباري، مما يخلقان دلالة تضادية، بين صفة الشخص الظالم (الآسي)، وبين صفة الرحمة للذات الإلهية، ومن ثمَّ فإن مجيء الضمير هنا مقدرًا في بنية اسمي الفاعل، بلا مرجع، هو دعوة مباشرة إلى المتلقي بالتعامل مع الصياغة الشعرية، وتحديد دلالاتها؛ وذلك لكون ضمير الغائب يساعد الشاعر على خلق شعور بالغموض، وعدم الإفصاح، أو خلق المسافة بينه وبين من يحيل إليه بذلك الضمير؛ مما يسمح للقارئ بتفسير النص الشعر عندئذٍ بطريقته الخاصة.

وبالنظر إلى ضمير الغائب في القصيدة فإنه قد كشف عن بقاء حبيبة الشاعر حلمًا، مستترًا، يبحث عنه على أمل اللقاء به رغم كل الألم الذي عاشه؛ مما يبرز تناقضًا مؤلمًا بين العجز عن البوح والتمسك بخيط من الأمل ضعيف، ومن هنا يمكن القول إن ضمير الغائب في قصيدة (الأطلال) ليس مجرد أداة لغوية، بل تقنية فنية استخدمها ناجي؛ ليخفي مشاعره خلف هذا الضمير، في محاولة لحماية نفسه من مواجهة مباشرة مع الألم. وكأن الشاعر يجعل لنفسه حضورًا ضمنيًا، رغم وضوح الشعور، وحضوره في النص، وهذا الأسلوب أتاح له مساحة غنية للتعبير عن معاناته بطريقة غير مباشرة؛ مما أضفى على النص عمقًا فنيًا.

مما تقدم يمكن القول -إجمالًا- من خلال استخدام الشاعر ناجي لتلك الضمائر الشخصية المتنوعة بين الحضور والغياب، بين المتكلم والمخاطب والغائب في قصيدته (الأطلال)، التي تكشف عن حالة الشاعر الشعورية أن قصيدة (الأطلال) تمثل ملحمة شعورية، تتبع فيها الشاعر فيض مشاعره المتدفقة، ورصدها، وهي تتكون داخل ذاته، معبرة عن قلقه، ومجسدة لحالة الصراع النفسي بين الأمل واليأس، وبين الرغبة في التحرر والتشبث بالماضي.

الخاتمة

بعد هذه الوقفات الأسلوبية لاستخدام الضمائر في قصيدة (الأطلال) لإبراهيم ناجي، تبين للباحثة نتائج عدة، كان لها الأثر البارز دلاليًا في بنية القصيدة، وأسلوبها، وأبرز تلك النتائج ما يأتي:

- إن الضمائر بصيغها المختلفة تشكل إشارات شخصية في القصيدة الشعرية، وتحيل إلى الكشف عن دلالات متنوعة، يتضمنها السياق الشعري.
- تُعدّ الضمائر في القصيدة الشعرية (الأطلال) وثيقة شعورية متفردة تعكس صراع الشاعر ناجي مع ذاته وواقعه العاطفي.
- استطاع الشاعر إبراهيم ناجي توظيف الضمائر بمستوياتها المختلفة في نصه الشعري الأطلال؛ ليصوغ عبرها تجربة وجدانية، تجمع بين الحنين والألم، وبين التمسك والخذلان.
- كثرة استخدام الشاعر لضمائر المتكلم بأنواعها في القصيدة؛ وذلك للتعبير عن التجربة الذاتية للشاعر بصدق وشفافية، بينما أضفى ضمير المخاطب طابعًا حواريًا كشف عن صراعه النفسي الداخلي. أما ضمير الغائب، فقد أتاح للشاعر مساحة للتعبير غير المباشر عن مشاعره، محافظًا على بُعد درامي يعكس ألمه وغربته.
- إن التنوع في استخدام الضمائر في القصيدة الشعرية، إلى جانب توظيف الشاعر لظاهرة التجسيد، منح النص كثافة شعورية وجمالية عميقة، وأكد عبقريته في التعبير عن التجربة الإنسانية.


    المصادر و المراجع
    - إنريكي أندرسون إمبرت، القصة القصيرة، ترجمة: علي إبراهيم منوفي. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2000م.
    - حسام أيوب، أسلوبية الضمائر في ديوان (وراء الغمام) لإبراهيم ناجي، مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الآداب والعلوم الإنسانية، مج25، ع1، 2007م.
    - صالح جودت، "ناجي: حياته وشعره"، دار العودة، بيروت،1997م.
    - عبد السلام مسدى، "الأسلوبية والأسلوب نحو بديل ألسني في نقد الأدب"، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس،1977م.
    - عبد الهادي عبد النبي علي، "إبراهيم ناجي: شاعر العاطفة والوجدان"، جامعة الأزهر- كلية اللغة العربية بالمنصورة، ع7، 1987م.
    - محمد عبد المطلب، "البلاغة والأسلوبية"، الشركة المصرية العالمية للنشر، بيروت، ط1، 2007م.
    - محمد فتوح، "جدليات النص، مجلة عالم الفكر"، الكويت، مجلد22، 1994م.
    - نور الدين دريم، "فاعلية الضمير في إنتاج الدلالة: دراسة أسلوبية في قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب"، جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف، ع 20،

  • [1] وُلد إبراهيم أحمد ناجي في القاهرة يوم 31 ديسمبر عام 1898م لأسرة مصرية مثقفة. نشأ في بيئة تفيض بالعلم والأدب، ممّا ساعده على تكوين خلفية ثقافية واسعة، حيث أتقن اللغة الإنجليزية والفرنسية، واطّلع على آدابهما. قد بدأ ناجي نظم الشعر في سن مبكرة، وأصدر عدة دواوين شملت مختلف أغراض الشعر، غير أن شعر الحب والعاطفة يكاد يهيمن على معظم قصائده. ومن أهم دواوينه: "وراء الغمام"، و"ليالي القاهرة"، و"الطائر الجريح"، و"أزهار الشر". وقد عدّه الأستاذ العقاد "شاعر الرقة والعاطفة"، إذ يُعدّ من أبرز شعراء العاطفة في عصره. لمزيد من المعلومات عن إبراهيم ناجي ينظر المراجع الآتية: - صالح جودت، "ناجي: حياته وشعره"، دار العودة، بيروت،1997م. - عبد الهادي عبد النبي علي، "إبراهيم ناجي: شاعر العاطفة والوجدان"، جامعة الأزهر- كلية اللغة العربية بالمنصورة، ع7، 1987م.
  • [2]إنريكي أندرسون إمبرت، القصة القصيرة، ترجمة: علي إبراهيم منوفي. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2000م، ص73.
  • [3] عبد السلام مسدى، "الأسلوبية والأسلوب نحو بديل ألسني في نقد الأدب"، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، ص 33.
  • [4]المصدر نفسه، ص17.
  • [5] محمد عبد المطلب، "البلاغة والأسلوبية"، الشركة المصرية العالمية للنشر، بيروت، ط1، ص 186.
  • [6] حسام أيوب، "أسلوبية الضمائر في ديوان" وراء الغمام" لإبراهيم ناجي"، مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الآداب والعلوم الإنسانية، مج25، ع1، ص146، بتصرف.
  • [7]محمد فتوح، "جدليات النص، مجلة عالم الفكر"، الكويت، مجلد22، ص 41.
  • [8] نور الدين دريم، "فاعلية الضمير في إنتاج الدلالة: دراسة أسلوبية في قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب"، جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف، ص31، بتصرف.