بدور بنت عبدربه الهذلي
المقدمة
الشعر هو صوت القلب حين تنبض به التجربة الإنسانية، ومرآة النفس حين تنعكس عليها آلام الحب وأشواق الحياة. وإبراهيم ناجي، شاعر العاطفة والوجدان، كان في قصيدته (الأطلال) مثالًا حيًا للشاعر الذي مزج بين عمق الشعور وجمال التعبير، حتى تحولت القصيدة إلى ملحمة وجدانية تعبر عن ألم الإنسان وحنينه إلى ما مضى.
في هذه الدراسة، أسلط الضوء على أسلوبية الضمائر في قصيدة (الأطلال)؛ حيث لم تكن الضمائر مجرد أدوات لغوية، بل جسدت مشاعر الشاعر، ونقلت تحولات وجدانه بأصوات متباينة بين المتكلم، المخاطب، والغائب. حتى أضحى كل ضمير رمزًا دلاليًا يعكس مكنونات النفس، ويضيف إلى النص بعدًا جماليًا ومعنويًا.
أهمية الدراسة تكمن في قدرتها على إظهار كيف يمكن للضمائر كأدوات تعبيرية، أن تعكس المشاعر الداخلية وتعزز التجربة الجمالية للنص الشعري، مما يساعد القارئ على فهم التحولات النفسية التي مر بها الشاعر ويعمق تجربته في تلقي النص.
مشكلة الدراسة
تتجسد في البحث عن كيفية توظيف الضمائر المتنوعة في قصيدة (الأطلال)، وما تمثله من دلالات نفسية ساهمت في تكوين التجربة العاطفية للشاعر وأثرت في المتلقي.
أسئلة الدراسة
● ما دور الضمائر المختلفة في تشكيل بنية النص الشعري؟
● كيف يعكس كل ضمير تجربة الشاعر النفسية والعاطفية؟
● ما تأثير التحولات بين ضمائر المتكلم، المخاطب، والغائب على تجربة الشاعر وتفاعل المتلقي مع النص؟
أهداف الدراسة
● تحليل كيفية توظيف الضمائر كأدوات تعبيرية في قصيدة (الأطلال).
● توضيح دلالات الضمائر المختلفة وأثرها في إبراز الحالة النفسية للشاعر.
● دراسة تأثير التنقل بين الضمائر على فهم وتجربة المتلقي للنص.
الدراسات السابقة
تناولت دراسات عديدة شعر إبراهيم ناجي، منها:
● في السياق الاجتماعي:
صالح جودت، غراميات ناجي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ع46، 1960م.
● في السياق النفسي:
- صدام فهد الأسدي، تداعيات الألم في شعر الدكتور إبراهيم ناجي، المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، ع28، 2016م.
- عبد الهادي عبد النبي علي، إبراهيم ناجي: شاعر العاطفة والوجدان جامعة الأزهر- كلية اللغة العربية بالمنصورة، ع7، 1987م.
● في النقد التطبيقي:
- محمود الربيعي، قراءة قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي: من النقد التطبيقي، مجلة كلية دار العلوم، ع4، 1973م.
- أحمد علي محمد، شعرية الأطلال عند إبراهيم ناجي، اتحاد الكتاب العرب، مج42، ع512، 2013م.
- حسام أيوب، أسلوبية الضمائر في ديوان (وراء الغمام) لإبراهيم ناجي، مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الآداب والعلوم الإنسانية، مج25، ع1.
منهج الدراسة
يعتمد البحث على المنهج الأسلوبي النفسي؛ حيث يُحلل النص الشعري بالتركيز على دور الضمائر في التعبير عن المشاعر الداخلية والتجربة النفسية للشاعر، مع إبراز الجوانب الجمالية التي أضافتها هذه العناصر إلى النص الشعري.
بهذا التحليل، آمل أن أعيد قراءة (الأطلال) من زاوية جديدة؛ حيث تصبح الكلمات أدوات تكشف عن عمق النفس البشرية، لتظل هذه القصيدة شاهدة على عبقرية ناجي في التعبير عن التجربة الإنسانية بأدق تفاصيلها.
التوطئة
للضمائر في الدرس النحوي والأسلوبي أهمية بالغة في الكشف عن الذوات، المتكلمة والمخاطبة والغائبة، وعن هوية الذات، سواء أكانت مذكرًا أم مؤنثًا. ولذا، فقد اهتم العلماء اللغويين والنحاة والنقاد باستعمالات الضمائر منذ القدم في الخطاب اللغوي؛ لما لها من قيمة تعبيرية تظهر أبعادًا دلالية متعددة في أي خطاب لغوي، وذلك وفق السياق الذي ترد فيه، سواء أكانت دلالة السياق نفسية، أم اجتماعية، أم دينية، أم سياسية، أم غير ذلك.
ولتحديد الضمائر في الخطاب الشعري عامة، وفي شعر إبراهيم ناجي [1]، وقصيدته (الأطلال) موضوع الدراسة، دورٌ فاعل في بيان الكيفية التي يُبنى بها النص الشعري، إضافة إلى ما يؤديه في السياق الشعري من وظيفة ترتبط في الأساس بجزئية التواصل المفترض بين المبدع والمتلقي. ويظهر ذلك جليًّا من خلال قول أندرسون إمبرت: "إن الضمائر تصنع الأساس الصلب الذي تتم عليه قواعد الاتصال اللغوي" [2].
والقارئ المتأمل في شعر إبراهيم ناجي، يجد أن غالب شعره، وخاصة قصيدة الأطلال لا يخلو من العاطفة العميقة، والتأمل الفكري، إذ ينبض بمشاعر الألم، واليأس، والكآبة التي استقاها من الحياة القاسية التي عايشها في تلك الحقبة، سواء من الجانب السياسي أو المعيشي، إضافة إلى آلام الحب، وفراق الأحبة؛ ومع هذا كان الأسلوب رقيقًا، وقد مثَّلت الضمائر فيه عنصرًا أساسيًّا في بنيته الشعرية، وارتبط استخدامها في الأساس بالدلالات التي يولدها من سياق إلى سياق آخر بحسب حركة المعنى في النص؛ فالضمائر الثلاثة مثلًا: (أنا، هو، أنت) تتحدد وظيفتها التعبيرية والجمالية وفقًا للسياق الشعري الذي ترد فيه.
والمتأمل في المعنى المعجمي لكلمة (الأطلال)؛ يجد أن إبراهيم ناجي قد استخدمها لتكون عنوانًا لأشهر قصائده، ولكنه لم يقصد بالكلمة معناها المعجمي؛ إنما ألبسها دلالات وإيحاءات أفصحت عنها مفردات القصيدة، ومعانيها، "فالأطلال" عنده هنا في القصيدة مثلًا، لا تحمل المعنى المعجمي المتعارف عليه عند العرب بأنها البقايا من ديار المحبوبة، وإنما لها دلالة أخرى جديدة كأطلال الحب، وأطلال الروح، والجسد، والذكرى. وإضافة إلى ذلك فقد كان ناجي شاعرًا، مجددًا في مضامين شعره وأسلوبه، وخاصة شعره الوجداني الذي لا يزال -حسب تقديري النقدي له- أرق شعرٍ وأنداه. وظل يعبر في شعره عن هذه النزعة الوجدانية الذاتية الحزينة، حتى لقى ربه في مارس عام 1953م، إذ رحل شاعر العاطفة تاركًا بصمةً في الشعر العربي الحديث.
ومن بين أبرز قصائد ناجي قصيدة (الأطلال)، التي كتبها في ثلاثينيات القرن الماضي، وضمّها إلى ديوانه (ليالي القاهرة). اكتسبت هذه القصيدة شهرة واسعة في العالم العربي بعد أن غنّتها أم كلثوم بألحان رياض السنباطي، لتصبح رمزًا للألم العاطفي ولحظات الحب الضائعة؛ ولشهرتها اعتمدتها مادة للدراسة الأسلوبية، وخصصت لذلك منها موضوع الضمائر دون غيرها؛ لكونها تمثل إشارات دلالية، تعكس تمثلات وانطباعات الشخص المبدع والمتلقي معًا، ولما للضمير في قصيدة (الأطلال) من دورٍ محوري في تعميق الدلالة وإثراء المعنى، إذ نجد ناجي يتنقل في استخدامه ما بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب بشكل متقن. هذا التنقل أتاح له إبراز عواطفه بصورة مباشرة، والتنقل بين وصف ذاته وعلاقته بالآخر -المحبوبة- ليشرك القارئ في تجربة حزنه ويأمل أن يشعر بألمه. هذا التنوع عكس حركة الشعور داخل النص، وأبرز الضمير كأداة فاعلة تبني طبقات متعددة من الدلالة، وتجعل المتلقي يشعر بتجربة الشاعر العميقة وكأنه جزء منها، مما يمنح النص قوة وعمقًا أدبيًا.
في هذا السياق، تناولت الدراسة فاعلية الضمير في قصيدة (الأطلال) بصفتها أداةً دلالية، تُسهم في إنتاج بنى متعددة داخل الخطاب، فتنوعها يشد ذهن المتلقي بصفة دائمة؛ لأنه يتابعها في كل موضع من النص الشعري، مما يجعل كل موضع منها يحمل دلالة جديدة، تعبّر عن مشاعر الحب، والفقد والحزن المتجذرة في تجربة الشاعر الشعرية.
أولًا: الضمير وإنتاج الدلالة في النص الشعري
1. الأسلوبية:
أثارت الدراسات الأسلوبية اهتمام الباحثين في مجال الأدب؛ لما امتازت به من موضوعية في استخلاص الأحكام النقدية، وقد عرّفها بالي بأنها: "علم يُعنى بدراسة وقائع التعبير في اللغة المشحونة بالعاطفة المعبرة عن الحساسية". وعبّر رومان جاكبسون عن هذا المعنى بقوله: "إن الأسلوبية تبحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولًا، وعن سائر الفنون الإنسانية ثانيًا" [3].
وتهدف الأسلوبية إلى تحليل اللغة الأدبية لتظهر جمالياتها. مع التركيز على عملية الإبلاغ والإفهام؛ حيث يسعى المبدع إلى بناء نصه بأسلوب يجذب الانتباه ويثير تفاعل القارئ. فهي علم وصفي يعتني بالخصائص والسمات التي تميز النص الأدبي عن طريق اختيار عناصر لغوية محددة، مثل: استخدام الضمائر في النصوص الشعرية، لتعزيز العلاقة بين المتكلم والمتلقي وتوصيل المشاعر بطريقة عميقة. هكذا تصبح الأسلوبية وسيلة فاعلة تتجاوز الوظيفة النحوية للضمائر، لتضفي على النص الشعري أبعادًا دلالية وعاطفية تعزز الرسالة الأدبية وتعمق من التواصل الوجداني مع المتلقي.
ومن أبرز أنواع الأسلوبية، الأسلوبية النفسية، التي تعرف أيضًا بالتعبيرية أو الانطباعية، وجميع قواعدها النظرية والتطبيقية قد أغرقت في ذاتية التحليل [4]. وتتميز هذه المدرسة بكشفها عن شخصية صاحب النص من خلال تحليل سماته الأسلوبية، فهي تُعنى بمضمون الخطاب وحبكته اللغوية، مع الاهتمام بالعلل والأسباب المتعلقة بالنص الأدبي وقد استعان (شبتزر) بالدلالة التاريخية ليأخذ منها معلومات تسهم في معرفة تجليات النص؛ حيث يرى أن الكلمة تكتسب دلالات مختلفة بحسب سياقها، ما يجعل الأسلوب تعبيرًا عن شخصية الشاعر.
وفي هذا السياق، يمكن التفريق بين مصطلح (الأسلوب) و (الأسلوبية). كما أوضح محمد عبد المطلب، فإن "الأسلوب يمثل الأنماط المتنوعة في اللغة، في حين تنصب الأسلوبية على تحليل هذه الأنماط وخاصة في جوانبها الفردية" [5]. وهكذا، تكشف الأسلوبية جماليات النصوص الأدبية من خلال دراسة لغوية تربط بين البنية والتأثير.
5. دور الضمائر في النص الشعري:
يمثل الضمير بنية شكلية تمثل محور الجهة الناطقة في بناء القصيدة، سواء أدل على المتكلم، المخاطب، أو الغائب. وعادةً ما تتميز كل قصيدة بنمط معين من الضمائر يغلب على نصها، ومن هنا يمكن تصنيف القصائد على أساس ارتفاع نسبة شيوع أحد الأنماط الثلاثة [6].
وفي نظر اللسانيين المحدثين، يحظى الضمير بأهمية خاصة؛ حيث وُصف بأنه "يمثل بحق أعصاب النص الشعري وجماع قسماته المميزة" [7]. وأهمية الضمير لا تقتصر على بنيته الشكلية، بل تمتد إلى وظيفته الدلالية والجمالية التي تتغير حسب السياق الذي يرد فيه. فالأصوات الثلاثة (هو، أنا، أنت) لا تحمل دلالات ثابتة، بل تكتسب وظيفتها التعبيرية والجمالية بناءً على موقعها في النص ومدى ارتباطها بسياقه، مما يجعل الضمير أداة فاعلة تحفز ذهن المتلقي لاستنباط المعنى المراد.