سارة سليم
توفي الشاعر يوم السبت الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي..
الشعر لا يُتَعَلَّم، إما أن تولد شاعرًا من البداية، أو تواصل الاعتقاد أن ما تكتبه شعرًا؛ ذلك أن الكتابة الشعرية قائمة على الكثافة، كثافة المعنى حين تبتكر اللغة في كل مرة رؤية جديدة للتعبير.
ويمكن للشاعر الحقيقي أن يتوقف عن كتابة الشعر، لكنه لا يتوقف عن كونه شاعرًا، وهذا ما نلحظه في ديوان «بعيدًا عن الجزائر» للشاعر الأمريكي من أصل جزائري (جلول ماربروك) الذي ينطلق مشروعه الشعري من الماضي، أو بتعبير الكاتب والناقد الإيطالي (إينيو فلايانو): "يبني مشاريعه لأجل الماضي". (جلول) عاد للشعر عندما أحس أنه في حاجة لأن يتواصل من خلال الكتابة مع كل ما يربطه بهويته وانتمائه لمدينة "بوسعادة" الجزائرية، مدينة تظهر وتختفي في أشعاره كلغز يخفي قصة لا يمكن إلا أن تكون قصة (جلول البوسعادي) أو "الغريب"، غربته في بلاد لا تحفل بالغرباء، فكل قصائده تتحدث عن نشأته في عائلة وبلاد اعتبرته "الآخر" دائمًا، الآخر الذي ولد من أبوين من سلالتين مختلفتين، ولهذا فإن أغلب قصائده في ديوانه «بعيدًا عن الجزائر» -الصادر عن The Kent State University Press بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2008م- تناقش مسألة هوية لطالما سكنته؛ من خلال لوحات أمه الرسّامة العالمية "خوانيتا غوشيون Juanita Rice Marbrook Guccione"، هذه الرسامة التي ورث عنها حب الفن -وإن اختلفت طرق تعبيرها عنه- هي رسامة عاشت فترة ما بين الجزائر وبوسعادة ورسمت فيهما أكثر من 200 لوحة، منها 174 جسدت أولاد نايل وحياتهم اليومية، غير أن (جلول) اختار الكتابة، فكان الكتاب مرسومًا قبلًا، والآن أصبحت اللوحة مكتوبة، وهذا ما قربه كثيرًا من ماضي أمه في الجزائر وبوسعادة، ماضٍ ينتمي إليه في الحاضر حيث يعيش، ماضٍ يحاول من خلاله معرفة بوسعادة، المدينة التي يخفيها خلف اسمه، مدينة تعلق بها وتقفى أثرها من خلال لوحات والدته، علّه يعثر عن جزئه المفقود بين تفاصيلها التي تحكي قصصًا عن بوسعادة وقبيلة أولاد نايل التي ينتمي إليها.
غير أن قصة (جلول) -الذي ولد بالجزائر عام 1934م- مع كتابة الشعر بدأت في مانهاتن الأمريكية وهو ابن الرابعة عشر، لكنه توقف بعد أن نشر بعض القصائد في مجلات مغمورة هناك، ليواصل بعدها مزاولة عمله صحفيًا. إلا أنه لم يتوقف عن قراءة الشعر ودراسته والتعمق فيه، لتحدث المعجزة في سن السابعة والستين حين شعر أنه بحاجة لأن يكتب، خاصة عندما عرف من خلال والدته وهي على فراش الموت عام 1999م الحقيقة التي كانت تخفيها عنه؛ إذ قالت له في السابق أن والده قتل على يد ابن عمه في حادث صيد في الوقت الذي كانت حاملًا به، ليعيش فترة طويلة معتقدًا أن والده متوف، لكن الحقيقة أن والده مات عام 1978م.
في الكتاب يتحدث عن الذي يكبر دون شهادة ميلاد، عن الأوقات الصعبة التي مرت به أو ما عبر عنه في القصيدة التي تحمل اسمه (جلول): "مواطن مُرَحَّل ألف مرّة في السّنة». يبدو أن والدته مزقت شهادة ميلاده، لتتركه في مواجهة ألم دائم لم يعرف كيف يتخلص منه إلا بالكتابة، لذا فإن معظم قصائده تدور حول مسألة الهوية واللا-انتماء إلى مجتمع ينكره.
ففي أشعاره لا تقتصر "الوظيفة الشعرية" -بتعبير (ياكبسون)- على ما يريد الشاعر التعبير عنه، بل تمتد فكرتها إلى المتلقي الذي يجد نفسه طرفًا لا تنتهي مهمته عند القراءة؛ بل تحدث بينه وبين الشاعر شراكة التساؤل وحمل الهموم ذاتها، ما يحيلنا إلى قول الشاعر الأمريكي الروسي (جوزيف برودسكي) الذي يرى أنه: "في الشِّعْر، مثلما في أي شكل خطابي آخر، يحمل المتلقّي نفسه أهمّيّة المُرسِل". ولهذا فإن نصوصًا شعرية كنصوص «بعيدًا عن الجزائر» لا تبحث عن الأشياء المكتملة، بل بحثها عن الأجزاء الناقصة هو الذي يكملها، وقد تعرض الناقد المغربي (عبد الفتاح كيليطو) في كتابه "الأدب والغرابة" إلى هذه الفكرة بقوله: "الكتابة الشعرية توفِّر أعلى طموح، أي تحقيق التَّماهي التامِّ بين الكلمة والشيء، بين الشيء وإيقاع الجسد".
وفي قصيدة (جلول) التي تحمل اسم الشاعر نفسه يحدث هذا التماهي، تماهي الشاعر والقصيدة.
تقول القصيدة:
"جلول
أيّ نوع من الأسماء هو؟
أدعوكم لملاحظة ذلك
إنّه صوت الترحيل
اسمي ليس معديًا
هل الحجر ضروري؟
أليس النفي أفضل؟
أتذكر أنني من اللا-مكان
ولكني كتدفق الظلام الدامس
لا مكان لديكم لإرسالي إليه
إنّه فرنسي، يمكنني قول ذلك، من يدري
الاختلاف في أنه
عربي بأناقة فرنسية
جيه-لوول، تابع، جرب نطقه
إرهابيون، يحملون هذا الاسم، علماء
ومطربون، وقلّة من الصّرافين
يمكنني أن أقول ذلك، حتى دون مساعدة
لأنهم قد حوّلوا حصونهم
إلى سيادة مشتركة للأمل
أيّ نوع من الأسماء هو؟
اسم سارسين