الناقد الشبح

عبد المنعم حسن محمد

قبل أن يصل نص ما إلى طاولة ناقد وظيفتُه الإبداعية ترتكز على إبداع الآخر، وتتغذى من ظلاله - لولا الأول ما أضيفت صفحات جديدة في سجل منجز الثاني – يكون المنتَج قد مر بمراحل عديدة في معمل الإنتاج، وهي على الأقل ثلاث مراحل: الإلهام، الانفعال، التدوين. إضافة إلى مرحلة رابعة يتقمص فيها الكاتب دور ناقد غير محايد لنصه قبل أن يطرحه بين أيدي المتلقين. وباختلاف الكُتاب تختلف اللمسات الأخيرة، المتضمنة لما يشبه التشطيب في البناء المادي إن صحت المقارنة وغضضنا الطرف عن القرائن.

نموذج أولي أو اختراع الصنعة

هل كان زمرة "عبيد الشعر" يبنون - في خطوة استباقية - حوائط متينة ضد معاول النقد المحتمَلة، والتي بعد قرون سوف تطال الشعر القديم؟ إن علاقة معظم الشعراء بالنقاد بمثابة علاقة الحائط بالمِعوَل، كما يصرّح الدكتور زكي مبارك في سياق يشاكس فيه الناقد: "إن كل معول هدمٍ أقوى من كل بناء". مع ذلك تظل السيرورة الطبيعية في مجال الإبداع تستمد وقودها من العلاقة الخلاقة بين النص وبين مسبار الناقد، وهذا ما سيظهر لاحقا عن الزمن الذي سلك فيه عَبيد الشعر في نهجهم الإبداعي مسلكاً سيُلاحظه الأصمعي بعد أكثر من قرنين.

يقول الأصمعي: "زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر؛ لأنهم نقَّحوه، ولم يذهبوا فيه مذاهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحَوليّ المنقَّح. وكان زهير يسمي كُبرَ قصائده الحوليات". من هنا نشأ أحد أوائل المصطلحات النقدية، عبر تواصُل قطبين بينهما برزخ زمني طويل، باعتبار أن ممثل أحدهما زهير والحطيئة وسويد بن كراع، والطرف الآخر الأصمعي، وإن لم يقبض هذا على الوصف الدقيق لنهج عبيد الشعر عندما جردهم من الطبع واتهمهم بالتكلف، إلى أنْ وجّه الجاحظ موقفَه وجهةً أكثر مقاربة للمعيار، وذهب إلى تهذيب تسمية الأصمعي فجعل شعرهم شعر الصنعة، فهم مطبوعون على قول الشعر طبع موهبة، لكنهم يتريثون طويلا أثناء التنقيح، حد أنهم لا يدعون مجالاً للمؤاخذة، وربما وصلوا إلى درجة استفزاز ناقد صارم كالأصمعي؛ فقد خاب أمله في اختراق شعر الحطيئة، يقول: "وجدتُ شعره كله جيداً فدلني ذلك على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع الذي يرمي الكلام على عواهنه، جيده على رديئه».

من تصريحات الشعراء استقى اللاحقون ملامح هذا الاتجاه، كما يصف سويد بن كراع العكلي طريقته في الإبداع، يقول:

أَبيتُ بأَبوابِ القوافي كأَنَّما
أصادي بها سِرباً منَ الوَحشِ نُزَّعا
استعار صوتَ ناقد متخيَّل، وسمح لنفسه عبره أن ينفذ إلى معمل إبداعه الذاتي، ويشي ببعض أسرار الإنتاج. الإبداع لدى سويد بن كراع ليس مجرد تحويل الخاطرة الأولى إلى قالب الكلام المقفى، فما أيسر هذا وأبعده عن التفوق! وإنما يجب أن يكمَن المبدع لأكثر الخواطر كمالا، وأعلاها قيمة، ما يؤكد أن مِن شعراء العرب قديماً مَن كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كاملاً وزمنا طويلا يردد فيها نظره ويقلب فيها رأيه اتهاما لعقله وتتبعا على نفسه فيجعل عقله ذماما على رأيه، ورأيَه عياراً على شعره، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمنقحات والمحكمات [1].

وعلى العكس، قد يعمد المبدع رغم معرفته بمواطن النقص في نصه إلى إسكات الناقد الشبح، حفاظا على أصالة الشعور، وصوناً لحالة الفكرة في مرحلة ما قبل الكلام أو ما قبل الكتابة، ولعلنا على ضوء ذلك - إذا التمسنا قراءة أخرى لمأخذ الأصمعي على الحطيئة - ندرك أن إحدى المراحل المتقدمة لإعادة الصياغة، قد تصنع حجابا بين النص وبين موطنه أو منبعه الأصلي من الكيان النفسي الذي نتج عنه؛ فالباعث الأول للفن ليس العقل المجرد، ولا الوعي الخارجي؛ إنما توتّر خاص يصل إلى درجة الضرورة، ثم يأتي دور الناقد الشبح في مراقبة التنسيق المناسب لسياقات التلقي، متمثلا الحد الأدنى من الصرامة.

صلاحيات الناقد الضمني

اعتمادا على ظاهرة شعراء الحوليات وأدباء آخرين من عصور وأقطار مختلفة، نستطيع أن نحس بحضور الناقد الافتراضي، أو الناقد الأول، ذلك المخوَّل له وحده بالدخول إلى النص والتجول في أركانه دون استئذان، والكلام بصوت عال وإبداء ملاحظاته، ضمن إطار الإبداع لا خارجه، وأحيانا تمتد صلاحياته إلى تناول منتَجِ

صاحبه من الخارج أيضا، دون أن يمس الفنَّ أدنى جُرح، أو يَشعر المتلقي بأمر غير طبيعي أو نشاز. أتذكر في هذا الصدد الشاعر والمسرحي الأمريكي ت. س إليوت، وهو لا يفوّت أقل فرصة للتذكير بسر من أسرار الإبداع، فهو لا يترك المهمة على عاتق النقاد الآخرين؛ بل لديه اكتفاء ذاتي قد تحقق على يد ناقده الخاص، المنتزع من ذاته، والذي يلُوح في المرآة كلما واجهته ذاته المبدعة.

يُورد ماثيسن في كتابه (إليوت، الشاعر الناقد) شذرات للأديب الشهير، يقدم عبرها توجيها نقدياًّ مستمدا من صميم تجربته الخاصة؛ يقول إليوت: "حين يكون عقل الشاعر مستعداً تمام الاستعداد للعمل فإنه يظل دائماً يُلحم جوانب التجربة المتباعدة؛ إن تجربة الرجل العادي فوضوية لا قياسية مبعثرة، فهو يقع في الحب أو يقرأ اسبينوزا ولا علاقة لواحدة من هاتين التجربتين بالأخرى أو بضجة الآلة الكاتبة أو برائحة الطبخ؛ أما الشاعر فإن هذه التجارب تشكل دائماً في عقله كليات جديدة".

ويعلق ماثيسن بأن مثل هذا الاقتناع لدى إليوت حول عملية الخلق قد انبثق من إحدى اكتشافاته المترددة حول طبيعة الحياة، وهذا شيء ينكشف لنا حين نجده يقول في مناسبة مختلفة: « لعل الناس ينضجون خير نضج خلال تجارب هي حسية وعقلية في آن معاً ؛ ومن المؤكد أن جميع الناس يقرون أن أحذق الأفكار لديهم قد جاءتهم مصاحبة لإدراك حسي، وان أحد تجاربهم الحسية إنما نجمت عن حال كأن الجسم كان يفكر أثناءها"[2] وواضح أن مساهمة إليوت النقدية قد نجمت عن تأمل ومراقبة لنبتة الإبداع وهي تنمو داخله، ولم يؤْثر أن ينفرد بالمردود دون أن يقتسمه مع القارئ، أعني به نشوة الإحاطة بالعملية الإبداعية بكامل تداعياتها، وصولاً إلى مشاركة المتلقي في اقتراح الأسئلة المناسبة حول ما حدث.

دافع استحضار الناقد الشبح

وعند السؤال عن دافع المبدع وراء استنطاق الناقد المستتر فغالب الظن يتوجه إلى حس الواجب؛ لأن النص الإبداعي، بغض النظر عن نوعه، قد استنفد رغبات الكاتب في البوح، وليس به حاجة إلى إضافة حواشي أو شرح يثقل به كاهل النص ويعرقل طريق القارئ إلى التفاعل الخلاق بينه وبينه؛ وإذن لم تبق غير مهمة أخيرة، أخلاقية أكثر من كونها مهنية، هي استحضار الناقد، وتكليفه بخطوات العملية الإبداعية لدى توأمِه المبدع.

وقد يقوم مذهب أدبي متكامل على يد الناقد الشبح، قرينِ المبدع، وسميرِه في ليالي التريُّث؛ فالصراع المرير الذي خاضه بودلير مع فكرة افتقار عصره من الجديد، وإحساسه بالتقزز من شيخوخة واقعه، وإدراكه بأن "شعراء مشهورين تقاسموا منذ أمد بعيد أكثرَ الأقاليم ازدهاراً في مجال الشعر"، إضافة إلى حساسية فنية شديدة الخصوصية، سمحت لناقد بودلير بالانبثاق من ذاته، والنتيجة كانت مدوية، سيكتب تيودور دي بانفيل: "لقد وقع حدث أدبي حقيقي، أعني نشر قصائد نثر شارل بودلير، هذه الروائع القصيرة المنجزة فنيا، حيث إنها متحررة من كل حبكة، بل يمكن القول من كل تركيب مادي، تتبدى الفكرة الحرة، الرشيقة، في عريها الباهر، دون أن تملك سوى التجلي لتدفع بحشد الجبابرة المدعين والخاوين إلى السقوط في التراب.."[3]

كان بودلير صاحب براءة اختراع مصطلح الحداثة، فهو أول من استخدمه في الكتابات النقدية، وسيلهم أجيالا من الشعراء، ويولد من ضفاف اكتشافه شاعر عربي، يعد أحد رواد الشعرية العربية الحديثة، محمد الفيتوري، كأن ناقده الضمني قد ورث بعض صفات ناقد بودلير، إذ يسمح لنفسه بالتحدث دون استئذان: "إنني أختار أفكاري ولكني لا أستطيع اختيار موسيقاي وأنغامي، ولعلي الآن أشير إلى إحدى حقائقي الشعرية لهذا فقيمتي الشعرية لا تتحدد في ضوء ما وصلت إليه مرحلة ما من مراحلي الشعرية. إنني مجموع مراحل من المعاناة الإبداعية والتجارب الفنية، تكتسب كل مرحلة قيمتها بأن تضعها ضمن شروطها الزمانية والمكانية."[4]

وقد يتغول حضور الناقد الشبح فارضاً صرامةً مرهِقة على الفنان، وأحيانا يكاد يشكل حجر عثرة، يحُول دون انسيابية الإبداع، وثمة أديبان بارزان، ساهما في تصميم الرؤية الفنية الحديثة شعراً وسرداً، لا يمر بهما قارئ دون أن يُحدثا في نفسه هزة، ويقذفان به إلى غابات بلورية خارج ضفاف المألوف، بورخيس وكونديرا، كلاهما عرف كيف يمنح ناقده الضمني مساحة أكبر للاستطراد بخلاصة التجربة، يستقي منها الباحث لمحات غزيرة في مقاربة النص الإبداعي. بورخيس الشاعر أجرى على لسان ناقده الشبح محاضراته الست الشهيرة، ظهرت في كتاب بعنوان "صنعة الشعر". وميلان كونديرا الروائي، وضع مهام حفظ النوع الأدبي على عاتق قرينه اللامرئي، وكان كتاب "فن الرواية"، حيث يمثلان خير تمثيل، صورةَ الكيان الذي يسبق الناقد إلى صنع معيار يتسق مع حالة مادته الإبداعية.


    المصادر و المراجع
  • [1] محمد عبد الله سيلمان/ وقفات على أبواب القوافي ص١٣
  • [2] ف. ا ماثيسن/ ت. س إليوت الشاعر الناقد. ترجمة إحسان عباس. ص٥٢
  • [3] بودلير/ الأعمال الشعرية الكاملة/ ترجمة رفعت سلام ص ٣٨
  • [4] لفيتوري/ شرق الشمس غرب القمر، ص١٣