ياسر الأطرش
دُهشت حين علمتُ بأن القصة التي ظلَّ والدي الأميُّ -رحمه الله- يقصها علينا طيلة حياته، في باب الصداقة ومن هو الصديق الحقيقي (حكاية نصف الصديق)، تعود إلى حكايات شعبية كتبها كاهن مسيحي من أصول يهودية أندلسية، في القرن الثاني عشر الميلادي!
كيف وصلت القصة إلى والدي بحرفيتها؟ بالتأكيد لم تصل من الأندلس ولا من كتاب "عُهدة النساك" الذي لم يُترجم إلى العربية إلا بعد وفاة والدي بسبع سنوات.
عُهدة النُّساك.. حكايات مشرقية بلسان كاهن أندلسي
عهدة النساك، كتاب أدب شعبي، وضعه بطرس ألفُنس أو بيتر ألفُنسPeter Alphonse وعنوانه الأصلي Disciplina Clericalis، وبطرس ألفُنس طبيب وعالم فلك ورجل دين أندلسي، ولد عام 1062م، وتحول من اليهودية إلى المسيحية عام 1106م، وتختلف المصادر في تاريخ وفاته بين 1110م أو 1140م.
قبل التعميد، كان بطرس حاخاماً يهودياً اسمه الحاخام موسى سِفَردي، ولد في مدينة وشقه من مقاطعة آراغون بالأندلس، مع بداية سقوطها بيد مسيحيي أوروبا الذين بدؤوا بالسيطرة على مدن الأندلس، فتحول إلى المسيحية مماشاة للحكام الجدد، مع أن المرحلة كانت تتسم بتعايش المسلمين والمسيحيين واليهود، الذين كان لهم جميعاً مشاركة سياسية وثقافية في حضارة شبه الجزيرة الإيبيرية آنذاك.
وضع ألفُنس كتابه عهدة النساك في بدايات القرن الثاني عشر الميلادي، وهو مجموعة حكايات مشرقية، تتخذ من الحكمة والأمثال أسلوباً للتعليم والموعظة، وهو ما كان سائداً ومحبباً عند الملوك والوجهاء والمشتغلين في العملية التربوية.
وقد كتب ألفُنس كتابه باللغة العربية، التي أتقنها إلى جانب اللاتينية والعبرية، ولكن الذي بقي وأخذ عنه المحققون والمترجمون فيما بعد، هو النسخة اللاتينية التي ترجمها المؤلف بنفسه عن النسخة العربية، إذ كانت اللاتينية لغة الغالبين الجدد، واختفت النسخة العربية إلى الأبد، ليصبح الكتاب عمدة السرد الأوروبي قرونَ عدداً، دون أن يُترجم إلى العربية، حتى العام 2021 حين صدر عن دار الرافدين ببيروت، بترجمة المترجم والمحقق ضياء حميو، الذي حققه عن نسخ قديمة إنكليزية وفرنسية ولاتينية.
من أين جاء ألفُنس بحكاياته؟
يرى الدكتور عبد الهادي سعدون، أستاذ الأدب واللغة العربية في جامعة مدريد، والذي وضع مقدمة الترجمة العربية، أن بطرس ألفنس قد ترجم مجموعة من الحكايات التي انتشلها من الكتب السردية العربية أو كتب الأندلسيين، أو ما وصلهم من مرويات شفاهية من المشرق، وبنى عليها تصوراته بما يناسب المرحلة.
فيما يرى المحقق والمترجم الدكتور ضياء حميو، أن حكايات "عهدة النساك" تتقاطع مع كتب (كليلة ودمنة، مئة ليلة وليلة، ألف ليلة وليلة)، وكذلك اعتقد المترجم بأن ألفنس اطلع على كتابات الثعالبي وتأثر به، فضلاً عن تناص واضح مع الكتب المقدسة للديانات الثلاث، والأحاديث االنبوية، والشعر العربي، إذ يستشهد كثيراً بقول لشاعر عربي من دون ذكر أسماء، وبعد خضوع النص الأصلي لثلاث ترجمات صار من المستحيل معرفة أصل أي بيت شعري أو صاحبه، ولم يبقَ إلا المعنى.
واختلفت عدد حكايات الكتاب بين 30 إلى 39 في الترجمات المختلفة، ويمكن تبويبها وفق الموضوعات إلى سبعة أبواب:
أولاً- الصداقة ورفقة السوء (نصف الصديق، الصديقان الصدوقان، الحجاج الثلاثة إلى مكة ورغيف الخبز، قِسٌّ في خمارة).
ثانياً: الملك (الملك والشعراء، الملك والحكواتي، رفقة الملك، التاجر الحكيم والملك القصير النظر).
ثالثاً: اللصوصية (براميل الزيت العشرة، حكاية الثعبان الذهبي، اللص وضوء القمر، القبض على اللص المتردد فيما يسرق).
رابعاً: حكم وأقوال الفلاسفة (حول ماريانوس، سقراط والملك، أقوال الحكماء عند قبر ألكسندر العظيم، نعيب البوم).
خامساً: الفكاهة (الشاعر الذي تحول إلى بواب، كبير الخياطين وصانعه ندوي، الخادم الكسول ميمون).