هيثم حسين
هل تعمل المفاهيم الفلسفيّة على تعميق السرد الروائيّ وتعقيده أم أنّها تفتح المجال لأبعاد جديدة من الفهم الإنسانيّ؟ كيف يمكن للرواية، من خلال دمج المواضيع الفلسفيّة، أن تحثّ القرّاء على التأمّل في مسائل الوجود وأسرار الحياة؟ هل يمكن للرواية أن تكون أداة فعّالة لاستكشاف الأسئلة الفلسفيّة ومقاربتها، وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن للأدباء أن يحقّقوا ذلك بأسلوبهم الخاصّ؟ ما هو دور الفلسفة في توسيع آفاق السرد الروائيّ، وكيف يمكن للقرّاء تقبّل هذه التعقيدات الفلسفيّة من خلال الرواية؟ هل يمكن أن تكون الرواية مساحة للنقد الفلسفيّ للمجتمع والثقافة أم أنّها تحتاج إلى التركيز أكثر على الخيوط الشخصيّة والعواطف الإنسانيّة؟ هل يعمل هذا التكامل على التقريب بين مجالين مختلفين، أم أنّه بدلاً من ذلك يمحو الحدود، ويضع القراء في عالم يتقاطع فيه السرد الروائيّ بالسؤال الفلسفيّ؟
تعتبر العلاقة بين الرواية والفلسفة موضوعاً مثيراً للاهتمام المتجدّد من قبل الروائيّين والمفكّرين والنقّاد، فكلتاهما تساهمان بدورهما في استكشاف تعقيدات تجربة الإنسان ووجوده وحياته، وتثيران أسئلة عميقة عن الوجود والأخلاق والحياة وطبيعة الإنسان في عالمه.
في قلب التداخل والتكامل بين الرواية والفلسفة يكمن الافتراض بأنّ المفاهيم الفلسفيّة تضفي عمقاً وتعقيداً على السرديّات المرويّة والمنسوجة بفلسفات أصحابها، ذلك أنّه عندما يدمج الأدباء بمهارة موضوعات فلسفيّة في أعمالهم، فإنّهم يمنحونها طبقات من المعنى تتردّد مع القرّاء على مستويات متعدّدة تتجدّد بدورها مع كلّ قراءة، وينقلون فلسفتهم الحياتيّة بطريقة أو أخرى.
الفلسفة كتطبيق حكائيّ
يسمح التكامل بين المفاهيم الفلسفيّة والرواية للأدباء بتجاوز حدود التقاليد السرديّة الكلاسيكيّة، ليقدّموا لقرّائهم تحفيزاً فكريّاً إلى جانب الارتباط العاطفيّ. وفي حين أنّ النصوص الفلسفيّة قد تكون في بعض الأحيان مرهقة ومجرّدة، تقدّم الروايات والنصوص الأدبيّة إطاراً سرديّاً حكائيّاً يمكن من خلاله استكشاف المفاهيم الفلسفيّة المعقّدة بطريقة عميقة وقريبة في الوقت نفسه. وعبر تجربة هذه الأفكار من خلال شخصيّات وخطوط سرديّة، لا يكون التنظير فقط بل يكون التطبيق الحكائيّ للتفكير في معتقدات الشخصيّات ووجهات نظرها في عالمها ووجودها.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ التزاوج بين الفلسفة والرواية يجعل التضايف أكثر شمولاً وإمكانيّة لجمهور أوسع. من خلال الأدب، يمكن للأفراد من مختلف الخلفيات والتجارب استكشاف أفكار فلسفيّة والمشاركة في حوار فكريّ ذي مغزى، بغضّ النظر عن استساغتهم للفلسفة من عدمها. بهذه الطريقة، تعمل الرواية كبوّابة إلى الاستكشاف الفلسفيّ، داعية القرّاء للشروع في رحلة اكتشاف الذات والآخر عبر الحكاية وفلسفة مبدعها.
على سبيل المثال، اتّخذ فيودور دوستويفسكي (١٨٢١م-١٨٨١م) من بطله راسكولينكوف في رواية "الجريمة والعقاب"، الذي جعله يعاني من أزمة وجوديّة، وسيلة لاستكشاف أسئلة فلسفيّة عميقة حول الأخلاق والذنب والعقاب، وتراه من خلال تضفير هذه الخيوط الفلسفيّة في السرد، أثرى الرواية وحفّز القرّاء على التفكير في الآثار العميقة للحالة الإنسانيّة، بحيث أشركهم بطريقته الخاصّة في لعبة القراءة والتفكيك والتفكير معاً.
بينما يثري التكامل بين الفلسفة والرواية السردية ويوسّع نطاق الخطاب الفلسفيّ، فإنه يثير أيضاً أسئلة حول الطبيعة الفلسفية الجوهرية للرواية نفسها. ففي الأدب العربيّ يمكننا القول إنّ "الأيّام" لطه حسين (١٨٨٩م- ١٩٧٣م) سيرة روائيّة مميّزة تدمج بين السرد الروائيّ والتأمّلات الفلسفيّة بطرق متعدّدة تمنح القارئ تجربة قراءة تأمّلية وثريّة. من خلال تناول قضايا مثل الهويّة والوجود والمصير، بلور طه حسين عالماً أدبيّاً وفكريّاً يسمح للقارئ بالتفاعل مع الأفكار الفلسفيّة الكبرى من خلال تجربة شخصيّة ونفسيّة وأدبيّة غنيّة. ساهم السرد الذاتيّ الهادئ والتأمّل الفلسفيّ العميق لديه في تقديم صورة متكاملة عن رحلة البحث عن معنى في الحياة.
يتأمّل عميد الأدب العربيّ الراحل طه حسين في "الأيّام" التجاربَ التي مرّ بها كجزء من بحثه عن معنى أعمق للوجود، بحيث يعكس تأمّلات فلسفيّة عن الهويّة والذات والآخر، يتناول فكرة المصير وكيف أنّ الإنسان يمكن أن يتفاعل مع الظروف التي تواجهه. يعالج العلاقة بين الفرد والمجتمع، وواقع أنّ المجتمع يؤثّر على تشكيل هويّة الفرد ووجوده، ويطرح أسئلة عن إمكانية الفرد المحافظة على هويّته في مواجهة الضغوط الاجتماعية. كما يتناول الصراع بين الرغبة الفردية والتوقّعات الاجتماعيّة، بشكل يعكس رؤى فلسفيّة حول ما يطرحه. ويستعرض أيضاً مسألة المعاناة والضعف وكيفيّة مواجهتهما، بحيث تراه يتعامل مع معاناته الشخصية بطرق فلسفيّة تتيح للقارئ فرصة للتفكير في كيفية التعاطي مع الألم والضعف والحرج والأسى.
على سبيل المثال، نقرأ في "الأيّام": "وكان قد قرأ فيما قرأ من أحاديث أبي العلاء أنّه كان يقول: إنّ العمى عورة. وفهم هذا كما فهمه أبو العلاء نفسه. فكان يتحرّج في كثير من الأشياء أمام المبصرين، وكان يستخفي بطعامه وشرابه كما كان يستخفي بهما أبو العلاء حتّى لا يظهر المبصرون منه على ما يثير الإشفاق والرثاء، أو السخرية. ولم يخطر له قطّ أنّ الحياة الحديثة تفرض عليه أن يستر أجفانه تلك التي لا تغني عنه شيئاً ستراً مادّيّاً".[1].
ينطوي هذا الفهم على تصوّر فلسفيّ عن كيفيّة تأثير النظرة الاجتماعيّة على الفرد، وتجسيد العلاقة بين الذات والآخر. ويشير إلى شخصيّة تتجنّب الظهور بمظهر يمكن أن يثير الشفقة أو السخرية. هذا التحفّظ يعكس الخوف من الانطباعات السلبيّة التي قد يكوّنها الآخرون، ما يعزّز الشعور بالتهديد أو التهكم الذي قد يواجهه أمثاله. وهنا، نجد علاقة/ أزمة بين مفهوم العزلة الطوعيّة كوسيلة للحماية من الحكم الخارجيّ، وكيف أنّ هذه العزلة قد تؤدّي إلى نوع من الإقصاء الذاتيّ. والشخصية الروائيّة - طه حسين نفسه - تتحكّم في كيفية تقديم نفسها، وهذا يعكس فكرة فلسفيّة حول التمثيل الاجتماعيّ والاختلاف بين الهويّة الذاتيّة والهوية المعلنة للمجتمع. الشخصيّة هنا لا تتجنّب إظهار ضعفها فقط بل أيضاً تتّخذ إجراءات للحفاظ على صورة معيّنة تُقبل اجتماعيّاً.
وبمثل هذه الأفكار والتصوّرات الفلسفيّة يمكن اعتبار "الأيّام" مثالاً بارزاً على دمج السرد الروائيّ مع التأمّلات الفلسفيّة حول الهويّة والوجود، إذ يعبّر طه حسين عن تأمّلاته العميقة في هويّته الذاتيّة وتجربته الشخصيّة من خلال سرد سيرته الذاتيّة وكيف تشكّلت هويّته، وهو الذي عانى من العمى طيلة حياته.
وفي سياق مختلف، يختصر الروائيّ الراحل نجيب محفوظ (١٩١١م-٢٠٠٦م) في نصّ قصير بعنوان "الحياة" في كتابه "أصداء السيرة الذاتيّة" فلسفته الحياتيّة والوجوديّة بتكثيف لافت، يقول فيه: "أجبرتني ظروف الحياة يوماً لأكون قاطع طريق. وبدأت أُولى ممارساتي في ليلة مظلمة، فانقضضت على عابر سبيل. وارتعب الرجل بشدّة شارفت به الموت، وهتف برجاء حارّ: "خذ جميع ما أملك حلالاً لك، ولكن لا تمسّ حياتي بسوء." ومنذ تلك اللحظة وأنا أحوم بروحي حول سرّ الحياة!".[2] .