معالم البلاغة الكونية عند سعود الصاعدي: قراءة في تأويل البلاغة العربية من منظور فلسفي كوني

فاطمة محسن عقيبي

تشكل ثنائية اللغة والكون مفهوما فلسفيا يقوم على الربط بين الواقعي المادي/الكون، والتجربة الفكرية البشرية/اللغة، ويرتكز على كون اللغة تعكس كيفية فهمنا للكون، بمعنى آخر: أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أيضا أداة لتشكيل وصياغة فهم الإنسان للعالم من حوله. وقد قدم سعود الصاعدي تجربته في تأويل البلاغة العربية وفق مفهوم كوني مشيرا به إلى النظر الكلي في البيان الشامل بنوعيه القولي الصناعي والكوني الطبيعي، وإدراك العلاقات بين الأشياء في ضوء النظر البلاغي النابع من النظر في الآيات القرآنية والكونية معا؛ لغاية الوصول إلى الأسرار الكامنة فيها . واستدعى الصاعدي نموذج السكاكي الثلاثي في بنائه للبلاغة الكونية مهتديا بمفهوم النصبة عند الجاحظ الذي يمكن عبره التفاعل مع علامات الكون المنصوبة بصفتها كتابة كونية تؤدي دلالات معينة، فنظر إلى البيان وفق نظام العلامات الدالة على مدلولاتها الذي يعطيها صفة الشمولية، ونقل البلاغة من المستوى المادي -المتمثل في الملفوظ والمسموع والمكتوب وحيز النص عموما- إلى المستوى الواقعي الحسي المشاهد، وتبعا لذلك سار على منهج في تحليل البيان ينبع من البلاغة ذاتها يبدأ من البنية ويقوم على رصد العلاقات بين طرفين بطريقة الربط بين العلاقة أو العلامة . وبالالتفات للنص القرآني فإنه يلحظ أن ثمة عناية بالعلاقة بين الكون واللغة في عمومها، ويمكن رصد مظاهر تلك العناية فيما تناولته الآيات من الحث على التفكر في الإنسان وكل ما يحيط به، يقول عز وجل: (وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ]الذاريات: 21[ ويقول تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)] النحل: 89[ .

وهي دعوة مباشرة للنظر في الكل الذي يتضمن البيان البلاغي وعلاقته بالكون؛ لأن القرآن الكريم يمثل السقف الأعلى للبلاغة والمنبع المعجز بكل ما فيه من ألفاظ ومعان، والبيان اللغوي يغترفُ من الحقائق الكونية والوجودية ، مما يعين على التدبر الذي يفضي إلى ترسيخ الإيمان، فيسمو بالنفس إلى مرتبة الإحسان، ويتحقق ذلك بالرؤية الكونية للبلاغة.

تاريخيا؛ يستدل الصاعدي بتلميحات النقاد القدماء على وجود الفهم الكوني للبلاغة، فاللغة -عندهم- يمكن أن تكون جسدا حيا، والجاحظ عقد مقارنة بين الكتاب والولد على طريقة المجاز وربط بين الإنسان وصفاته البيولوجية والبيان اللغوي . يقول في هذا السياق: "لفظه أقرب نسبا منه من ابنه، وحركته أمسّ به رحما من ولده، لأنّ حركته شيء أحدثه من نفسه وبذاته، ومن عين جوهره فُصِلَت، ومن نفسه كانت ..." ، وفي سياق مشابه يربط ابن رشيق بين القصيدة والجسد من جهة اللفظ والمعنى: "اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم" ، وغير ذلك مما يجعل من البيان اللغوي تجربة تقابل خلق الإنسان.

ولم تقف اللمحات والإشارات الكونية التي أشار إليها الباحث عند النقاد قديما على الإنسان الفرد، بل امتدت إلى مجتمعه ونجد ذلك عند عبد القاهر الجرجاني الذي يستعمل الواقع الاجتماعي تمثيلا لشرح أفكاره عن البيان مثل قوله: "كالعزيز المُحْتجب لا يُريك وجهه حتى تستأذِن عليه" ، وربطه لصفة البخل في الانسان مع مجتمعه بالتعقيد على سبيل المجاز فيقول: "وما سبيله سبيلُ البخيل الذي يدعوه لؤمٌ في نفسه، وفساد في حسّه، إلى أن لا يرضى بضَعَته في بُخْله، وحِرمان فضله، حتّى يَأْبَى التواضع ولين القول، فيتيه ويشمخ بأنفه" ، كما أن جوهر فكرة النظم التي قدمها الجرجاني تنطوي على مفهوم العلاقات الاجتماعية، وأن فصاحة اللفظة لا يُحكم بها إلاَّ بالعناية "بمكانها منَ النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها " . غير أن تجربة الصاعدي لم تتوقف عند استدعاء التراث، بل امتدت لتقف على ما أفرزه النقد الحديث في محاولته قراءة النصوص وفهم بنائها، ففي مبحث دراسته لعلاقة الإنسان بالبيان قدم تأكيد رولان بارت على أن العلماء العرب يستخدمون تعبير الجسد اليقيني في حديثهم عن النص الظاهر، وهو يشير إلى نص النحاة والمفسرين وفقهاء اللغة، بل إن رولان بارت نفسَهُ يذكر أن للنص صيغةً إنسانية هي صورة وجناس تصحيفي للجسد . كما استعان الباحث في تأكيد فكرته بما طرحته إحدى المدارس اللغوية التي تتبنى مبادئ دو سوسير في دراستها للغة بوصفها خلقا إنسانيا تنتجه الروح، وعدها اللغةَ أداةً صوتية للتواصل ونقل الفكر لكنها ذات أصل نفسي واجتماعي . واستمد الباحث فكرة المعالم المجازية في البيان من مفهوم الاستعارة التصورية عند لايكوف وجونسون التي تعد تشكيلا للتجربة الإنسانية مع الأشياء في العالم والاندماج والتفاعل معه ، وبعد أن قرأ الصاعدي الوجود الكوني للبيان فيما خلّفه النقاد واللغويون قديما وحديثا مستدلا بها على إمكانية فرضيته فيما لا يتسع المقام لعرضه ومنطلقا منها لصياغة فلسفته الكونية؛ قام بتوجيهها عبر مفهوم العلاقات بالربط بين الحقول والمقاربة بين العلوم البينية، وبناء المجتمع وغيرها، فعمد إلى بناء هيكلة جديدة للبلاغة تنطلق من البيان اللغوي وتتسق مع النظام الكوني تتلخص في الآتي:

-إنسان البيان: قارب فيه تشكل البيان بأطوار خلق الإنسان للكشف عن التعالق والتماسك بين المستويات البلاغية، فأطوار البيان التي تبرز في: المادة الأولية من الحقائق والموجودات الخارجية ← الخاطرة ← الفكرة← الكلمة المفردة ← التركيب البنائي الإسنادي (جملة، ترابط جمل، نص) ←تصوير (كسوة الكلام) ← التحسين في جسد النص (بأشكال البديع)، يقابلها في أطوار خلق الإنسان: الطين ←النطفة← العلقة ← المضغة ← التركيب الهيكلي ← التصوير (كسوة العظام باللحم)، التحسين بالملامح .

- مجتمع البيان: قارب فيه البيان من زاوية اجتماعية تعكس ما بين البلاغة والمجتمع من تأثر وتأثير عبر بنية العلاقات ورصد الظواهر السلوكية والاجتماعية في مسائل علم المعاني، وبعض مصطلحاته التي تقابل سلوكيات الأفراد في المجتمع، وظهرت حركة نمو البيان في هذا المستوى بامتداده من الجملة إلى النص خاضعة لحركة نمو وتطور المجتمع في امتداده التاريخي. ففي مجتمع البيان يسير الامتداد كالآتي: مفردة ← جملة ← مشاكلة ← اختلاف ← سياق ثقافي ← سياق حضاري، وهي تسير بمحاذاة مجتمع الإنسان: إنسان ← أسرة ← جماعة ← مجتمع ← ثقافة أمة ← حضارة إنسانية . ويبرز البيان في هذا المستوى كائنا اجتماعيا لا يتحقق وجوده في ذاته وإنما بعلاقاته مع بعضه مشكّلا بنية اجتماعية هي بنية النص.

- عوالم البيان: قارب فيه البيان -تحديدا في مباحث علم البيان البلاغي- بالإبداع في عوالمه المجازية الثلاثة: الطفولة- الحلم- الفن؛ وفيها يتفاعل مع الكون ويندمج فيه عبر التجربة، ففي عالم الطفولة يكون التعاطي مع الوجود بلغة المجاز الذي يرتكز على العالم المحسوس وتتم فيه محاكاة الواقع عن طريق التمثيل، أما عالم الحلم فيستند على الاستعارة التمثيلية، وعالم الفن يستند على عالم الطفولة والحلم أي يتركب من الاستعارة والتمثيل والكناية، وكشفت هذه المقاربة عن عالم التصور في المجاز الذي يستمد من عالم الواقع تجاربه فينقلها لكنه يزيدها عمقا واتساعا في عالمها الفني مما وسع مفهوم الصورة البلاغية القائم على علاقة المشابهة بين طرفين إلى مفهوم يقوم على علاقة كلية في إطار تصوري . ومن الجدير بالذكر أن فكرة استعمال الإنسان للمجاز الذي يقوم على الخيال في التعبير عن عالمه يوافق مفهوم الاستعارة التصورية، ويتأتى ذلك للفرد من خلال المرور بمراحل حياته التي ينمو عبرها حسه الإبداعي، وهي تقابل مباحث البيان التي أشار إليها الباحث في صورتها البسيطة/التشبيه المرسل وصولا إلى صورتها المعقدة المركبة من الصور البيانية.

- معالم البيان: عالج فيه البيان من جهة علم البديع الذي يمثل المستوى الجمالي الشكلي وعلاقته بالرؤية الكلية للوجود التي تنعكس على فهمنا للعالم وتذوقه، حيث يكون المنظور الكوني رابطا ثلاث وحدات بنائية: الإنسان - الكون - البيان؛ لتحقيق التماسك والتعالق على مستوى يتجاوز النص ويجعل علم البديع فضاء أوسع وأشمل من مجرد محسنات ، فجعل الطباق يشكل فلسفة الأضداد، والمقابلة فلسفة التأويل، والجناس فلسفة الإيقاع، ورد الأعجاز على الصدور فلسفة للزمن الدائري، والاستعارة تفاعلا كونيا ، وهي تفضي إلى رؤية بديعية كلية شاملة نجد انعكاسها الكوني في التمثلات الثنائية وحركة الموجودات والتفاعل في كل ما يحيط بنا.

- تلقّي البيان: تناول هذا المستوى البلاغةَ في علاقتها مع التلقي، وغايته الخروج بمنهج قرائي يرتبط بالقارئ في علاقته مع النص، فقارب فيه موقف المخاطب من أضرب الخبر -بوصفه قارئا- بمستويات القراءة، ما نتج عنه تناغم الموقف في الخبر الابتدائي مع مستوى الفهم الذي يتلقى فيه القارئ النص تلقيا أوليا، وتناغم الخبر الطلبي مع التذوق الذي يكون فيه القارئ سائلا يعود للنص ثانية لإعادة النظر فيه، وتناغم الخبر الإنكاري مع التأويل الذي يكون فيه القارئ ناقدا ، وأضاف الباحث أن تلقي النص يكون بطريقة معاكسة لبنية التفكير البلاغي الثلاثية حيث يكون التلقي السمعي الذي يبدأ به الإدراك متمثلا بعلم البديع، والتلقي البصري تاليا متمثلا بالأشكال البديعية البصرية ثم تلقي الصور البيانية المرتبطة بالتخييل البصري، وأخيرا التلقي الفكري بمستوياته المتمثلة أولا في علم المعاني ثم تلقي الصور البيانية في دقائقها التركيبية، ثم الرؤية المتكاملة عبر العلوم الثلاثة، وهدفه من تفنيد أنواع التلقي بحسب علوم البلاغة تأكيد صلاحية التفكير البلاغي في فتح آفاق التلقي بصورة أوسع تتقاطع مع النظريات الحديثة .

وختاما؛ فإن اللغة متطورة ومتفاعلة مع الواقع الذي هو بدوره غير ثابت، والإنسان محدِث هذا التطور ومنشئ البيان بتعليم الله عز وجل له ليس معزولا عن واقعه ومحيطه، كما أن النظريات اللسانية المعرفية تؤكد هذا المسار الكوني عند الصاعدي من جهة عنايتها بالفكر الذي ينهض بواسطة الواقع التجريبي، وقامت على إثر ذلك نظريات عديدة مثل الاستعارة التصورية ، وقد استفاد منها الصاعدي بدوره، وهذا ما يجعل للبلاغة في إطارها الكوني تأثيرات عميقة ترتبط بالوظائف الإدراكية التي تقصدها تلك النظريات، وهو ما شكل أحد أهداف رؤية الصاعدي التي تروم إيقاظ ملكة الانتباه عند المتعلمين فتتحول البلاغة إلى تمثيل واقعي وتصبح المعرفة متعة جمالية.


    المصادر و المراجع
  • أمير، عباس،2002م، الإعجاز القرآني؛ التبيان- التكون -لقراءة، الأردن: دار أسامة للنشر، 2002م، ج: 1.
  • بارت، رولان، 1992م، لذة النص، ت: منذر عياشي، باريس: دار لوسوي.
  • تونر، مارك 2011م، في نظرية المزج، الأزهر الزناد، تونس: جامعة منوبة.
  • الجاحظ، أبو عثمان عمرو،1424ه، الحيوان، بيروت: دار الكتب العلمية، ط: 2.
  • الجرجاني، عبدالقاهر 1991م، أسرار البلاغة، ت: محمود شاكر، جدة: دار المدني، ط: 5.
  • الجرجاني، عبدالقاهر، 1992م دلائل الإعجاز، تعليق: محمود شاكر، جدة: دار المدني، ط: 3.
  • الصاعدي، سعود، 2020م، البلاغة الكونية من الإعجاز إلى الإنجاز، عمان: دار كنوز المعرفة.
  • القيرواني، ابن رشيق، 1981م، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ت: محمد عبد الحميد، دار جيل، ط: 5.
  • فضل، صلاح، 1984م، النشأة الأولى لعلم الأسلوب، مجلة أقلام، بغداد: دائرة الثقافية والنشر، ع: 7.
  • لايكوف، جورج، مارك، جونسون، 2009م، الاستعارة التي نحيا بها، ت: عبد المجيد جحفة، المغرب: دار توبقال للنشر.

  • [1] سعود، الصاعدي، البلاغة الكونية من الإعجاز إلى الإنجاز، عمان: دار كنوز المعرفة، 2020م، ص: 25.
  • [2] البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 9.
  • [3] عباس، أمير، الإعجاز القرآني؛ التبيان- التكون -القراءة، الأردن: دار أسامة للنشر، 2002م، ص: 23- 24.
  • [4] البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 33.
  • [5] عمرو، الجاحظ، الحيوان، بيروت: دار الكتب العلمية، ط: 2، 1424هـ، ج: 1، ص: 61.
  • [6] ابن رشيق، القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ت: محمد عبد الحميد، دار جيل، ط: 5، 1981م، ج: 1، ص: 124.
  • [7] عبد القاهر، الجرجاني، أسرار البلاغة، ت: محمود شاكر، جدة: دار المدني، 1991م، ط: 5، ص: 141
  • [8] أسرار البلاغة، مرجع سابق، ص: 142.
  • [9] عبدالقاهر، الجرجاني، دلائل الإعجاز، تعليق: محمود شاكر، جدة: دار المدني، ط: 3، 1992م، ص: 44.
  • [10] رولان، بارت، لذة النص، ت: منذر عياشي، باريس: دار لوسوي، 1992م، ص: 45.
  • [11] صلاح، فضل، النشأة الأولى لعلم الأسلوب، مجلة أقلام، بغداد: دائرة الثقافية والنشر، ع: 7، 1984م، ص: 20
  • [12] للاستزادة ينظر: جورج لايكوف، جونسون مارك، الاستعارة التي نحيا بها، ت: عبدالمجيد جحفة، المغرب: دار توبقال للنشر، 2009م، ص: 21- 23 وص: 158.
  • [13] البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 36- 44.
  • [14] البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 57 و84.
  • [15]البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 93- 95.
  • [16] البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 123.
  • [17] البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 140- 153.
  • [18] البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 177- 179 .
  • [19] البلاغة الكونية، مرجع سابق، ص: 184- 186.
  • [20] للاستزادة ينظر: الأزهر، الزناد، نظريات لسانية عرفنية، تونس: الدار العربية للعلوم، 2009م، ص: 15- 39.