هوبال: والسنوات القديمة

فواز عبد المحسن

في سينما السلام، لا مقعد شاغر في الفئة المرنة، ناهيك عن “البريميوم”.

image

آخر مرة واجهتُ هذا الازدحام كانت مع “أوبنهايمر” لكريستوفر نولان، وقد شاهدته مرّتين في أسبوع: الأولى بشغفٍ، وإن لم يَرقَ لمكانةِ أعماله المفضّلة لديّ، والثانية على مضضٍ عندما أصرّ صديقٌ أن أرافقه (ودفع التذكرة نيابةً عني!).

تساءلتُ: هل بلغنا من الاحتراف السينمائي ما يجعل المنتجين يرصدون ميزانيةً للترويج لـ”هوبال”؟ لكن ما اتّضح لي لاحقًا أنّ انجذاب الجمهور، يشبه إلى حدٍّ كبير ما يحدث للكتب التي تحيا بفضل ترشيحات القرّاء العاديين. وبما أنّ رأي هؤلاء أقرب إلى قلبي من رأي الأكاديميين، وبعد قراءة ثلاث منشوراتٍ تُكرّر: “رهيب… رهيب… رهيب”، سارعتُ إلى التطبيق وحجزتُ مقعدًا.

الصالة تعجّ بعوائل سعودية: الجدة، الأم، الحفيدة… عبارات وأمثال تتردّد، تلميحاتٌ دينية وأشراطٌ للساعة تُثار، كأنّنا أمام ذاكرة جماعية تتكشّف على الشاشة. يندمج الضحك الخافت مع الهمهمات والتوجّس..

يبدأ الفيلم بعبارةٍ قصيرة

“لم يتأذَّ أي حيوان!”

تعقبها ترجمةٌ تطمئن المشاهد على براءة الحيوانات. ابتسمتُ، واستحضرتُ تعريفًا فلسفيًّا قديمًا للإنسان بأنه «حيوانٌ ناطق». قلت لنفسي: أَيريدون طمأنة بعض هؤلاء «الناطقين» أيضًا؟ أم أنّ المسألة تتوقّف عند الحيوان وحده؟ تساءلتُ إن كان الفيلم يستعطف جمهورًا ليس جمهوره، فتحسستُ «مسدس شكوكي» ورجوتُ أن يظلّ صادقًا مع ذاته.

المساحة الأيقونية: السينما تُصنع من الداخل

في كتابه سباحة في بركة تحت المطر، يتحدّث جورج سوندرز عن “المساحة الأيقونية” للكاتب، تلك البقعة التي يتشابك فيها ضعفه مع قوّته، وهواجسه مع خصوصياته، ليولد أدبٌ لا يشبه أحدًا. وأنا أشاهد هوبال، تساءلت: هل يمتلك الفيلم مساحته الأيقونية الفريدة؟

عام 1990… وارتباطه الشخصي:

تدور أحداث الفيلم عام 1990—وهو عام مولدي؛ العام الذي شهد غزو العراق للكويت. في ذاكرتي، لم يكن 1990 رقمًا عابرًا، بل بوّابةً لعالمٍ تغيّر سياسيًا وثقافيًا. وجدتُني أتساءل: هل سيظهر هذا الحدث الكبير في ثنايا الفيلم؟ وهل ستتداخل تجربتي الشخصية مع تجربة الشخوص؟

image

للحظةٍ، تذكّرتُ مسلسلاً سعوديًا أحبّه: “العولمة”. لكن فجأةً، أخذ الفيلم منحًى يشبه الصحراء في تصحّرها. ربّما أراد أن يخلق “هوبال” خطًّا مختلفًا عمّا عهدناه في الدراما السعودية.

image
بدايةٌ مبشّرة… لكن إلى أين؟

تفتتح الكاميرا بمشهدٍ جويّ لعائلة “ليّام”، وصوتٌ ينبعث بلهجةٍ محلّية واضحة. قلت في نفسي: “بداية مبشّرة.” ثمّ تذكّرت اقتباس هيرتا موللر في الملك ينحني ليقتل:

“في طفولتي، كانت الكلمات التي يستخدمها أهل قريتي ترقد مباشرةً فوق الأشياء المسماة. فقد سُمّيت الأشياء كما كانت، وكانت تبدو تمامًا كما سُمّيت.”

في هوبال:

في “هوبال”، تُوظَّف الحواراتُ بذكاءٍ لغويّ لا غايةَ لها في دفع الأحداث وحسب، بل تكشفُ أيضًا اضطراب الشخصيات الداخلية. إنّها وسيلةٌ للتعلّق بالوهم، فتُخفِّف عنهم ثِقل التفكير الموضوعيّ الذي يحوم حول خيامهم. هناكَ، تتسلّل الهواجس، ويتلهّون بالأنساب، بحثًا عن لامرئيٍّ قديمٍ يصدّ مادّيةَ الواقع الماثل.

image
حضور الأب في الغياب:

الأب، “العُود”، حاضرٌ رغم غيابه؛ بدءا بالأخ الذي ذبح أخاه وزوجته في مشهد فلاش باك، مرورًا بالتلاعب بالعقرب كاختبارٍ للموت، وصولًا إلى “سرّا بنت عياد” الأم “السنافيّة” التي بذلت كلّ ما في وسعها—ولو بالتنازل—لإنقاذ فلذة كبدها. وأمّا نداء الهوبال نفسه، فيبدو كأنه يحمل بُعدًا غامضًا يجثمُ في التفاصيل.

image

منذ البداية، هناك “حصبةٌ ما” تهاجم الأجساد، لكن ماذا عن “حصبات” الفكر التي تدفع بعض الشخصيات نحو الموت بدلًا من التقاط أنفاس الحياة؟ وفي خضمّ هذه الأجواء، تبرز امرأةٌ منقّبة—لأوّل مرةٍ في علمي—بصورتها الواقعية عينها؛ قدّمها المخرج ببساطةٍ لا تستجدي انتباهًا زائدًا، وظهرت مندمجةً بسلاسةٍ في النسيج البصري للفيلم، ممثلةً دور الجدة نورة.

جيلٌ جديدٌ يصنع السينما:

تتعدّد الأعمال وتتشابك مساراتها. شاهدتُ، من تأليف مفرج المجفل وإخراج عبد العزيز الشلاحي، فيلم “المسافة صفر”، حيث لفتني أداء يعقوب الفرحان بشكلٍ ملحوظ، مما جعلني أتابع أعماله بانتظام. في فيلم “حد الطار”، لفتني فيصل الدوخي بدورٍ يفوق ما رأيتُه في فيلم “مندوب الليل”. وفي بودكاست “دواير”، تحدث مفرج المجفل عن رواية عربية أثّرت فيه بشدة بعد وفاة مؤلفها قبل إتمامها، مما دفعه لمحاولة إنقاذ شخصياتها من خلال الخيال، كأنه يسعى بالكتابة إلى إعادة تشكيل مصائر الشخصيات التي عايشها وتقديم قصصهم للعالم بدلاً من أن تظلّ محصورةً في الديرة.

هذه التفاصيل، تُثبت أنّنا أمام جيلٍ يكتب سينماه، ولا يقتصر على استهلاك قصص الآخرين فحسب، بل يسعى لابتكار أفكاره ومشاريعه. “هوبال” إذن، حلقةٌ في سلسلة المحاولات الجادّة لتشكيل هوية سينمائية محليّة.

الإخراج والمشهد الجامع:

رغم أنني شاهدتُ بعض هؤلاء الممثلين في أعمالٍ سابقة، بدا واضحًا كيف استنطق النصّ والمخرج طاقاتهم بأقصى حدّ. أمّا “عسّاف”، فلم أره من قبل، لكنه شدّني مع أوّل ظهور؛ وفي مشهدٍ خاطف، نراه بعد إصابته بالعدوى، يحتمي من الشمس راكبًا “الونيت”. لقطةٌ تصلح لأن تكون الملصق الدعائي الأمثل، إذ تختزل روح الفيلم المتعبة والمعلّقة بين الحياة والخطر.

image
ملحمةٌ كان ينبغي أن تطول:

ينتهي العرض، ولا أحد يكاد يُغادر مقعده. هناك مشهدٌ سورياليّ ظلّ عالقًا في ذهني—ذكّرني بمشهدٍ في أحلام العصر، أقرب فيلمٍ سعوديٍّ إلى قلبي حتى اليوم. وبينما كنتُ أتهيّأ للخروج من القاعة، ألملم شعث “فشاري” وبقايا مشروبي، لمحته: رجلٌ في نحو الخمسين يذرف الدموع. تخيّلتُ أنه أحسّ بما أحسستُ به: الأخطاء التي ارتكبتها شخصياتٌ في الفيلم، والتي نشأت من جهلٍ مركّب، قد كلَّفت وستكلِّف حياة أشخاصٍ بالكامل.

image
الاشتباك مع الفيلم: الحبّ والكره ليسا ضروريين:

تمامًا كما في الرجال في الشمس لغسّان كنفاني، يتوقّف الزمن عند صهريج الوجع. أعرف قارئًا ظلّ يذمّ رواية اسم الوردة لأمبرتو إيكو، لا كرهًا خالصًا بل محاولةً للتخلّص من جاثوم النصّ الذي طوّق أفكاره. ولم يدرك أنّ الذمّ في حدّ ذاته اشتباكٌ معها. وهذا بالضبط ما يفعله “هوبال”: سواء أحببته أم كرهته، ستجد نفسك تدور في فلكه لبعض الوقت، وتطارده بأسئلتك.