غفران قسام
"معظم الشّاعرات كنّ يشاطرن أبناءهنّ هذه الموهبة. وهذا ما يمكن أن يفسّر حقيقة أن أحد عشر سلطانًا من السّلاطين الأربعة والثّلاثين كانوا شعراء بارزين ".
- ألييڤ كروتييه (عالم الحريم: خلف الحجاب/46)
حين تكتب النّساء ممارساتهنّ النقديّة!
قبل أن تخرج الحركات النّسائيّة للنّور وتعبّر عن حقوقها وأنشطتها النّسائيّة في عالم الذّكورة، كان الحضور النّسائيّ العربيّ قد نسج حيّزه بالهويّة التي ترتبط بخصوصيّته الجغرافيّة، وسياقه الزّماني. ويؤكّد تاريخ الأدب العربيّ بجميع عصوره أنّ الهويّة الجندريّة النّسائيّة ارتبطت بسياقات فاصلة نشأت معها آداب النّساء وفنونهن، وأنتجت بالتالي حراكا نقديل يعاين جيّدها من رديئها. لكن هل ظهر صوت الهُويّة النّسائيّة مباشرة في مجتمع الذّكورة؟ هل ظهرت النّاقدة أو الكاتبة باسمها صراحةً وقدّمت نفسها كالشّمس المؤنّثة؟
ارتبطت فكرة الظّهور النّسائيّ في العصور الأدبيّة بالوضع الاجتماعي، والسّياق الزّمني الذي نشأت تحت سلطته. ففي العصر الجاهليّ بما فيه من حريّات وثنيّة، ظهر شعراء من الرّجال عُلّقت معلّقاتهم على أستار الكعبة! أما النّساء فلم يروِ التاريخ -على حدّ علم الباحثة- إلا عن الشّاعرة: الخنساء إما باكية أو فخورة بأخيها صخر!
إلى أن جاء الإسلام، وشعّ بيت النبوّة بنماذج نسائيّة روت للبشريّة الحديثَ النبويَّ كعائشة رضي الله عنها وباقي أمهات المؤمنين.[1] ويُلاحظ أنّ منزلة البيت النّبويّ استمرّت عبر العصور لا سيّما في العصر الأموي؛ ممّا أتاح لنسائه أن يعبّرن عن آرائهنّ النّقديّة بصوت نسائيّ مؤثّر؛ يجذب صنّاع الشّعر والغناء إلى طرق أبوابهنّ لالتقاط دعمهنّ الفكريّ والماديّ. ومن الباحثين القلائل الذين أشاروا إلى حراك النّساء في النقد: عيسى العاكوب في كتابه: (التفكير النقدي عند العرب)، ووصف حراك النّساء النقدي بـ: (نقدات النّساء)، وأشار إلى إسهاماتهنّ النّقديّة بأنها تُعدُّ من فنون القول [2]. ويعني بذلك أنّ المرأة النّاقدة لم تكتب نقدها في مصنّفات تمثّل حيزًا نسائيًّا نقديًّا بل تواتر نقل ما قالته عبر الرّواة. ويصف الباحث العاكوب أنّ نقدهن حصيف في مسائل الشّعر وتمييز جيّده من رديئه. وثمة سيدتان فاضلتان عُرفتا بهذا الدور: سكينة بنت الحسين، وعقيلة بنت عقيل بن أبي طالب [3]. فالموقف الأدبي في العصر الأموي، أتاح ظهور أصوات نسائيّة تفكّر كالرّجال وتنقد مثلهم بوعي وصوت نسائي. وعكس ذلك يظهر في مؤلّف: (بلاغات النّساء) لابن طيفور (ت: 280هـ) تحديدا تحت عنوان: "وطرائف كلامهنّ ومُلح نوادرهنّ وأخبار ذوات الرّأي منهن" [4]. فالكتاب يتّسم بالمجال النّسوي feminism بوصفه يتحدّث عن أحوال النّساء وأسلوبهن ومواقفهنّ ولكن بصوت رجل. كما تشير عبارته الأخيرة إلى تقصي فنون القول عند النّساء الحكيمات القادرات على تمييز الجيّد من الرّديء، واتّسمن بقوّة الحجاج وسلامة الفصل في المواقف، مثل موقف: زوجة أبي الأسود الدؤلي في مجلس الخليفة الأموي: معاوية بن أبي سفيان، حيث ترى الباحثة: (صلوح السريحي) أنّ الدّور الذي قامت به زوجة أبي الأسود هو دور المرأة الناقدة في موقف إنسانيّ يخصّ حضانتها لولدها، وذكرت أنّ ابن طيفور قصد استدعاء الحوار أمام الدّؤلي؛ ليثبت للمرأة مقدرتها وثقافتها التي مكّنتها من محاورة عالم النحو واللغة والأدب التابعي المحدّث الفقيه [5]. فلم تأخذ حقّها بالضّعف والبكاء والاستعطاف بل نطقت وفق معجم أنثوي خاص. فحين حاول الدؤلي أن يخلّص ابنه منها وذكر حقّه فيه قالت: "صدقَ والله يا أمير المؤمنين، حمله خفًّا، وحملتُه ثقلاً. ووضعه ووضعتُه كرهًا. إن بطني لوعاؤه، وإن ثدييّ لسقاؤه، وإن حجري لفناؤه"[6] .[7] فأنصفها معاوية .
ولذا؛ فإنَّ دور المرأة النّاقدة يتجاوز الموقف الأدبي إلى الدّفاع عن قضاياها لكنّ المرأة -حتى في العصر الأندلسي على حد علم الباحثة- لم تكتب عن رؤاها في مصنّفات بل وصلت إلينا أخبارها في مصنفات الرجال. لهذا، لم يظهر الحراك النسائي في النقد ناضجًا منظّمًا أو ظاهرة لتصنيفات نقديّة تكتبها المرأة كما ظهر في العصر الحديث خاصّة مع سياق العولمة التي أدت إلى ثقافة الانفتاح مما أفقد المرأة خصوصيتها في المكان والزمان والشخصيّة، فتحصّنت الكاتبات والناقدات بكتاباتهنّ، وكتبن برؤى فنيّة عميقة تختلف عن خصائص الرجل في الكتابة. فمثلاً لا يتساوى ما كتبه شوقي ضيف أو إحسان عباس عن عصور النقد الأدبي مع ما كتبته المرأة الناقدة: سلمى الجيوسي التي دوّنت بمداد نسائيّ تاريخ العصور بوعي فاحص يهتمّ بتفاصيل تراها النّساء ويسقط الاهتمام بها في صوت الرّجال. كذلك يظهر حيّزها النّسائيّ منصفًا للحضور النّسائيّ في جغرافيّة أخرى كالعراق مع نازك الملائكة، تقول الجيوسي: "وبعثت نشاطًا نقديًّا لم يسبق له مثيل في الأزمنة الحديثة؛ إذ فرضت على نقّاد هذه الفترة ضرورة إعادة النظر في المغامرة العروضية الكبرى التي خاضها الشعر العربي الحديث [8]."