هيثم حسين
كيف يؤثّر انتهاء كتابة رواية على كاتبها؟ هل تنتهي علاقته بشخصياته بمجرّد وضع النقطة الأخيرة في نصّه؟ ما الذي يجعل الكاتب يشعر بعدم قدرته على الابتعاد عن شخصياته الروائية حتى بعد انتهاء الكتابة؟ كيف تنتقل شخصيات الرواية من صفحات الكتاب إلى حياة القرّاء؟ وما الأثر الذي تتركه فيهم؟ هل يعتبر الكاتب أنّ شخصياته تمنحه فرصة لتجاوز حدود الواقع والدخول في عوالم جديدة؟ كيف يمكن للقراء أن يمنحوا حياة جديدة لشخصيات الرواية؟ وما الدور الذي يلعبونه في استمرار تأثيرها؟
لا يخفى أنّ كتابة رواية تُعدّ رحلة ثريّة تأخذ الكاتب في مسارات متشعّبة ومليئة بالأحداث والشخصيات والمشاعر. أثناء هذه الرحلة، يبني الكاتب عالماً خاصاً ويخلق شخصيات تعيش وتتنفس في هذه العوالم. ومع وصول الكاتب إلى الصفحة الأخيرة، يطلق شخصياته في فضاء القراءة، ويمنحها حياة متجددة، ليبني معها عالماً مليئا بردود الأفعال والآراء المتصادية.
كلّ شخصية في الرواية تعكس جزءاً من الكاتب نفسه، سواء كانت هذه الشخصيات رئيسة أو ثانوية، طيبة أو شريرة. يعيش الروائيّ معها كل لحظة، يستنطقها، يشعر بآلامها، يفرح لانتصاراتها، ويعاني من هزائمها. وعند انتهاء الكتابة، لا يمكن له ببساطة أن يتجاهلها، فهي تصبح جزءاً منه، مدمجة في عمق وعيه ولا وعيه.
عند الانتهاء من كتابة الرواية، يبدأ دور جديد للشخصيات، تراها تنتقل من الورق إلى القرّاء، الذين يتفاعلون معها ويمنحونها حياة جديدة بدورهم. كل قارئ يعيش تجربة مختلفة مع الرواية التي ينكبّ على قراءتها، ما يجعل الشخصيات الروائيّة تعيش حيوات مرتحلة بأشكال مختلفة. هذا التواصل الفريد بين الشخصيات والقراء يمنح الروائيّ شعوراً بالراحة والإنجاز، حيث يرى تأثير عمله الأدبيّ يتجسّد في حياة الآخرين، ويرى شخصيّاته المتخيّلة تتمظهر في صور ونقاشات حيّة.
لا شكّ أنّ الكاتب يحيا عالماً ساحراً مع شخصياته، فهي تمنحه الفرصة للتعبير عن أفكاره ومشاعره بطرق متعدّدة، وتجربة حياة متنوّعة لم يكن ليعيشها في الواقع، كما تمنحه القدرة على تجاوز حدود الواقع والدخول في عوالم خيالية وأحياناً واقعية بطرق مختلفة لم تكن لتخطر له، بحيث يظلّ عالمه الغرائبيّ ملازماً له حتى بعد الانتهاء من الكتابة، ليكون مصدراً للإلهام والراحة النفسية.
يشعر الروائيّ أنّ شخصيات روايته تسكن داخله، يحرص عليها ويستعيد ذكرياته معها، لأنها تعكس تجارب ومشاعر عميقة تشكّل جزءاً منه.
على سبيل المثال، علاقة نيكوس كازانتزاكيس بشخصيته الروائية "ألكسيس زوربا" في روايته الشهيرة "زوربا" تجاوزت حدود النصّ لتصبح علاقة وجودية عميقة، فقد رأى كازانتزاكيس في زوربا انعكاساً لتناقضاته الداخلية وصراعاته مع الحياة. هذه الشخصية كانت تجسيداً لفلسفة خاصة في الحياة، فلسفة تتحدّى القيود الاجتماعية وتحتفي بالحرية والعيش اللحظيّ.
كازانتزاكيس، الذي كان يميل بطبيعته إلى التأمّل والصراع مع أسئلة الوجود الكبرى، وجد في زوربا تكاملاً مع جوانب شخصيته الأخرى. لقد منحته هذه الشخصية فرصة للعيش بجرأة على الورق، وحرية التعبير عن تلك الحياة التي لم يكن بوسعه أن يعيشها بشكل كامل في واقعه. وكما يعيش الكاتب مع شخصياته الروائية ويتماهى معها، كان زوربا معلما غير مباشر لكازانتزاكيس، يذكّره بأن الحياة خليط من الفوضى والجمال والرغبة الجامحة في اختبار كل لحظة. وزوربا، بعفويته واندفاعه، كان بمثابة المرآة التي استكشف كازانتزاكيس من خلالها أعمق تساؤلاته عن معنى الحياة، والفن، والعمل، والموت. وحتّى بعد انتهاء الكتابة، ظل زوربا حاضراً في حياة كازانتزاكيس، كذكرى أدبية، وكقوة حيوية تدفعه لمواجهة الحياة بشجاعة وفضول.
وقد تنتقل الشخصيات الروائية من صفحات الكتاب إلى حياة القراء من خلال التفاعل العاطفي والفكري معهم. فعلى سبيل المثال، شخصية "آنا كارنينا" في رواية تولستوي أصبحت رمزاً للكثير من القراء الذين يتأملون في تعقيدات الحب والخيانة والمجتمع، وتبقى متجدّدة عبر الزمن ومع كلّ قراءة.