محمد عبد النبي
في قصة لجراهام جرين بعنوان (السادة اليابانيون غير المرئيين)، تتحدَّث الكاتبة الشابة مع خطيبها بجدية وشيء من الحدّة عن مستقبلها الأدبي وعن علاقتها بالوكيل والمحرّر، مؤكدة أيضًا على فكرة أنَّ على الكاتب أن يكون قوي الملاحظة. في الأثناء يصف راوي القصة مجموعة من زبائن المطعم من رجال الأعمال اليابانيين، وبعد أن ينصرفوا يبدي الشاب ملاحظة لخطيبته الكاتبة الواعدة عنهم مستغربًا وجودهم، لكنها تتساءل صادقة عن أي رجالٍ يابانيين يتحدَّث؟
هذا بقدر ما أتذكر من القصة التي ترجمتُها على سبيل التمرين قبل أكثر من عشرين عامًا ولم أعثر عليها أو أقرأها مرة أخرى.
لعلَّ غَرق الكاتب (أو الكاتبة بطبيعة الحال) داخل ذاته هو أشد ما يتهدده الآن، ألَّا ينصت وألَّا يراقب ويعي ويرى، وأن تقتصر معركته على الحِرفة بنسبة عشرين في المئة وعلى الحياة الاجتماعية للكتابة بنسبة الثمانين في المئة المتبقية، فيسير ويصير غافلا تائها في عالم من مرايا لا يرى فيه إلَّا صورته.
لذلك تحديدًا أثمّن بشدة حرص الروائي المصري المتميز عادل عصمت على لفت الانتباه إلى ضرورة أن يفتح الكاتب عينيه، وأن ينصت وينظر ويلتفت، لروحه ولمن حوله.
أو هذا ما شعرتُ به بينما أطالعُ كتابه (كتابة القصص وبناء الأعشاش - تأملات في فن الكتابة) وأحسستُ باختلافه عن كثير من كتب تعليم الكتابة، وقد قرأت منها عددًا لا بأس به، وإن بدا في صيغته الخارجية شبيهًا بمعظمها، وأنه يستحق التزكية والتنويه لأنه يقدم للكاتب الشاب تحديدًا ما هو في أمسِّ الحاجة إليه، غير امتلاك التقنية ومعرفة الحرفة، أقصد الوعي والانتباه للذات وللعالَم مِن حوله.
صدر الكتاب في العام الماضي عن دار الكتب خان، التي صدرت عنها جميع رواياته في السنوات الأخيرة، ومنها على سبيل المثال رواية "الوصايا" التي وصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بالبوكر لعام 2019، وكذلك روايته "حكايات يوسف تادرس" الفائزة بجائزة نجيب محفوظ للأدب المقدمة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2016.
لا ينطلق عادل عصمت في مقارَبته لفن القص من معرفة نظرية مُجردة، بقدر ما يتكلم من موقع الخبرة الشخصية المباشرة، فهو صاحب مُنجَز يبلغ تسع روايات حتَّى تاريخ صدور الكتاب، وأكثر مِن مجموعة قصصية، وكتب أخرى غير خيالية وإن لم تخلُ من روح الكتابة الأدبية مثل (ناس وأماكن) الصادر عن سلسلة هوية المكان في الهيئة العامة لقصور الثقافة.
غير أنَّ خبرته لا تحول بينه وبين الإحساس بالتدفق الحي للواقع أو بالتنوُّع المذهل والمنشود في طرائق وأشكال التفكير في الكتابة القصصية، فلأنها بالأساس خبرة السؤال والتأمُّل والبحث احتفظت بحياتها وحيويتها حتَّى عندما تحوَّلت إلى دروس وتأمُّلات، لأنها ليست أحكامًا نهائية تنمُّ عن يقين ميّت.
لا يتحرَّج الكاتب من الاستعانة بخبراته الشخصية المحددة، في كتابة هذه الرواية أو تلك، كُلَّما شعرَ بأنَّ السياق مواتٍ وأنَّ تجربته ذات صِلة بالفكرة التي يسعى لتوصيلها للقارئ، لا يفعل هذا باستعلاء العالِم الخبير بل بحميمية وتواضُع الفنان الحقيقي. لا يخجل مثلًا مِن أن يسرد، في أحد فصول الكتاب، عن محاولته الأولى لكتابة قصة ما، وأعتقد أنه في بعض الأحيان يستخدم تعبير القصة حتى وهو يتكلم عن رواية طويلة، ربما لأنَّ جنس القصة يشمل القصيرة والطويلة على السواء. وكيف كتب صفحاتٍ كثيرة متنقلًا بين شخصيات وأجواء مختلفة ومتنوعة، فقط لكي يلمع في النهاية أمام عينيه بين الركام مشهدٌ صغير مميز وفريد.
لا يخرج عصمت من سرده لكتابة أولى قصصه فقط بالمغزى الحرفي أو التقني من الكتابة، بل كذلك بأمر آخر أهم وأعمق في نظري، وهو كيف ربطته هذه المحاولة الأولى بالكتابة باعتبارها مصدرًا للمعرفة، وكيف اكتشف عبرها بأنه مسكون كإنسان أولًا وككاتب ثانيًا بطبقات من الخبرات والمعارف والموروث العتيق لم يكن يعلم عنه شيئًا، وما كان ليسكتشفه لو لم ينبش بآلية الكتابة عبر نفسه ووجدانه وروحه، ولعلَّ هذا من بين الدروس العديدة التي يحفل بها الكتاب.
أمَّا الإشارات التقنية والحرفية الواضحة فهي أيضًا مطروحة عبر نماذج وقصص وحالات تُروى كأنها دعوة للتأمُّل، فيأتي التوجيه والإرشاد بصورة غير مباشرة ولبقة ورقيقة، كأبعد ما يكون عن أفعال الأمر وأساليب كتب التنمية البشرية التي تتسرَّب في صورة أو أخرى، وبقصد أو بغير قصد، إلى كتب تعليم الكتابة وربما إلى ورش تعليم الكتابة كذلك.