صالح لبريني
أَمّا قَبْلُ:
للشعر قيمة رمزية لدى الإنسان، رغم الشكوك التي تكتنف المرتابين حول آثاره المعنوية المبثوثة في جميع مناحي الحياة، وهو كذلك؛ لكونه بحثاً أبديّاً عن عشبة جلجامش، وسعياً دائباً إلى خلود الأثر الخلّاق في الذاكرة الإنسانية. فمن خصائصه القدرة على إسعاد اللغة بما تكتسبه من خصوبة مجازية واستعارية، وبما تتجمّل به من زينة جمالية وفنية تحوّل الواقعي متخيّلاً والمتخيّل حقيقة، إضافة إلى توسيع ممكنات الخيال وتمكينه من إضاءة المجاهل والعتمات، واكتشاف مكائد اللغة وتجاوز فخاخ التأويل. وليس من هنا فحسب تكتسب هوية الشعر، عبر عملية الربط الميكانيكي للكلمات؛ وإنما بواسطة بناءٍ أسلوبيّ مغايِرٍ ينزاح عن التركيب البسيط إلى نظمٍ فائق يخلخل العلاقة بين العناصر اللغوية لتأسيس خطابٍ خاصٍّ خارجٍ عن المألوف، يتميّز بأنه "عملية خلق دائمة، يواجه المتلقي بآفاق متعدّدة للنص الواحد (...) ويحفزه على إعمال خياله وقدراته الإدراكية لاستحضار واقع يماثلها" لكنه يظل يوهم بحقيقية هذا الواقع.
ويعدّ الشاعر علال الحجام من الشعراء الذين شيّدوا تجربتهم الشعرية انطلاقا من هذا التصور القائم على إيهام القارئ بالحقيقة الشعرية، بيْد أنها حقيقة تقوم على الاستعارات التي يؤثث بها الشاعر العالَم؛ نكاية في الغياب والإحساس باللاجدوى والتشظي في واقعٍ يمارس ساديته على الوجود.. لذا فإن التجربة الشعرية في هذا الديوان تستمد خطابها من علاقة الذات بالواقع وانزياحاته، وبالوجود في امتداداته الموغلة في أسئلته الشائكة والمتشعّبة، وما يترتّب عن ذلك من إحساس بالاغتراب والقلق والتوتر، بالمكابدة والمعاناة الوجودية. ويظهر مما سبق أن الشاعر يبسطُ تصوره للكتابة الشعرية، انطلاقا من الواقع وما يعجّ به من مفارقات تثير عددا من الإشكالات المتعلقة بالذات وعلاقتها بهذا الواقع من جهة. ومن حافّة أخرى تعبر عن القلق الوجودي الذي ينتاب هذه الذات ويفرض عليها التماهي والإصغاء لما تصطخب به جراء التفاعل الوجداني مع الوجود. وفي ذلك تأكيد على أن الشعر في تجربة علال الحجام يتّسم بزخم فكريّ عميق وألم شعوريّ نازف بأسئلته وهواجسه وأحلامه، فالشاعر ينسج حكايا الوجود لإضاءة الكينونة الممزّقة والمتشظّية، ويتجلى في نصه “أن ينابيعه تفيض من أغوار عميقة في الذات الإنسانية يستحيل النفاذ إليها “ [1].
(1): جَماليات الغياب واحتمالاتها الدّلالية:
يشكل الغيابُ ثيمة مركزية في الديوان، وبُؤرة جوهرية في خطابه الشعري، ولطالما احتفى الشاعر بهذه الموضوعة بأسلوب جماليّ أسهم في تثوير الرؤية الشعرية وتعميق احتمالاتها الدلالية، وتحقيق الفاعلية التعبيرية بين العناصر اللغوية التي تنحرف عن دلالتها الطبيعية إلى الدلالة المجازية والاستعارية، فـ ”الاستعارة الشعرية هي عبور من اللغة التقريرية إلى اللغة الإيحائية، عبوراً يحصل عليه بواسطة انحراف كلام يفقد معناه على مستوى اللغة الأولى ليجده في الثانية”[1] ، كلّ هذا لعب دوراً مهمّاً في صبغ الخطاب الشعري بطابع بعيد عن الغنائية، قريبٍ من الدرامية.
تكتب الذات سيرة الفَقْد لحراس الكلمة ورعاة اللغة الراحلين جسداً، والمقيمين روحاً في الذاكرة والأزمنة والأمكنة وامتداداتها، وهي عبارة عن مراثٍ (الرثاء ليس بالمفهوم الشائع في الشعرية القديمة) تحاول تثبيت الزمن لاستعادة المفقود، بواسطة طريقة أداء تتوسل إلى لغة مجازية استعارية. ففي نص “واحة النسيان” وهو كناية عن أحد دواوين الشاعر المغربي بنسالم الدمناتي، يستحضر علال الحجام الشاعر الراحل الدمناتي، مستنجدا بالعلامات اللغوية التي تعتمد الرمز وسيلة تعبيرية، باعتباره ذاتا مبحرة في المكان والزمان، تجدف بالكلمات، وهي نفس الأداة التي يتكئ عليها الشاعر في كتابة وجوده وكينونته، ويلتمسها في التداوي من النسيان، فالكلمات هي الوسيلة المثلى للحضور الأبدي، يقول:
( قبل أن يدرك البحّار/ أنّ للضّباب أسواراً ملغومة بالخذلان/ تلتفّ حولَ قهقهة الرّبّان،/ ولم يملك سوى مجذاف من الكلمات/ كم كان يريد حين تشرق مكناس في عزّ ليله / أن “يموت هنا ولا يرحل...”) [2].
فالفقد يؤرّخ حكاية شاعر عاشق لمدينة متجذّرة في تاريخ الذات ووجودها، مدينة مشرقة في الذاكرة كسِفْرٍ زاخر بأمجادٍ حضاريةٍ، وتمثّل مرآة تعكس عبور الشاعر في زمنٍ ممتدّ في أعماق العاطفة، يعرضه بسردية طافحة بالإيقاع والدلالة، لكن الأثر ظلّ خالداً استعاريّاً ما دام الشاعر بنسالم الدمناتي في شعره وبشعره يتجه نحو المستقبل، خصوصاً إذا استحضرنا أن “الاستعارة عند بول ريكور تمثّل فائض المعنى، وظيفته انفتاح النص على عوالم جديدة، وطرق جديدة للوجود في العالَم. الاستعارة لغة تتجه إلى المستقبل، لتبشّر بطريقة وجود في العالَم لم يتح تجربتها بعد”[3] لذا نرى الشاعر الحجام يُضفي على الخطاب الشعري سماتٍ سردية كما أسلفنا، يقول: (هنالك حيث تسامقت مشكاة/ في قمّة خوف كعطرٍ يخنقه دخان المسافة/ يوهم الوردة/ بأن ظلّ الشاعر قد يتبخّر تحت وهج العرَق/ وهي تقرأ شاهدة / في “واحة النسيان”/ بين جدول عطشان / ونخلة يتيمة/ من يصدّق / أن نسغ خمائلها لا يجفّ/ حتى وهو يموت هنا شامخاً/ كالطّود.../ “يموت هنا ولا يرحل...”)[4] . فهذا المقطع يتميّز بـ” كثافة ثقافية أو شعورية يستحيل وجودها بدون تلك الألفاظ. يصير الكلام في هذه الحال، هو الزمن المكثف لمخاض أكثر روحانية” [5]، فجمالية الفقد لا تكمن في المحتوى وإنما في قدرة الشاعر على استنطاق الذاكرة والمكان وخلخلة الزمن بين ماضٍ مضيء ومضاء بالحضور الشامخ للشاعر الراحل، وبين حاضر موسوم بالتشظي والانشطار، بل إن الذات محاصرة بين زمنين متناقضين، زمن الحياة والعطاء وزمن الموت والفناء. إن جدلية الحياة والموت تظل فاعلة في صميم الثقافة الإنسانية وجميع الحضارات، فهي ثنائية مؤرقة للإنسان المطبوع على الرغبة في الخلود، ولعل الشاعر الحجام حاول من خلال هذا النص القبض على جمر السؤال الوجودي المتمثل في: ما الذي يمكن فعله لمقاومة الموت؟ ليأتي الجواب بالكلمة التي يتلمس فيها الإنسان سبيلا إلى مراوغة الموت، وهذا ما قام به الشاعر الراحل الدمناتي عندما خلّف وراءه إرثاً معنويّاً رمزيّاً صاغ فيه حلمه وتوتره وقلقه وحيرته، وحرّر الكلمة من قبضة الموت في “نصّ يجنح إلى تحقيق هذا الأثر كما يسمّيه رولان بارت ”النص الكتابيّ” لأنه ذو قدرة على التجدّد والانفتاح” [6].
وفي نص “ نسيَ دمهُ عندهم” يحوّل الحجام الفقد إلى مطية للتعبير عن الحضور الرمزي والوجودي للذات في ارتباطها بالآخر، ذلك أن استعادة حياة الشاعر عبد السلام الزيتوني باعتبارها تجربة شعرية لها مكانتها في الشعر المغربي المعاصر، يبحث من خلالها الفقيد الزيتوني عن خلوده الأبدي، حيث تمكّن من تجسيد كينونته بالكتابة، ضمن تأثير له امتداداته الفنية والجمالية، يقول الحجام: ( لم يمدح أبداً أسداً / لم يخن رائحة الطّين/ لكنه غازل الغزلان المختالة / في إفران/ وسابق في الغابة أسراب الأصائل/ أشعّتها تراقص ظلّ الأرز الباسق والسّنديان...) [7].
فالحجام يرسم كينونة الشاعر عبد السلام الزيتوني ويقدمها صوتاً شعرياً له بصمته الإبداعية على مستوى القصيدة المغربية المعاصرة أوّلا، وثانيّاً إنساناً ملتزماً بقيم الهوية العربية، جوهره المحبة والإيمان بقيمة الكلمة التي تحمل في نسغها نزيف العروبة ووهجها التاريخي والحضاري بكل مكونات الوطن العربي وشواهده وفواجعه، فالألم الضارب في جذور الذات ما هو إلا مطية للشاعر نحو التعبير عن الإحساس باللاجدوى في أرض بائرة. وذلك عبر “الحفر في أركيولوجيا الوجود الإنساني: وجوده، وما يرتّبه هذا الوجود من: حزنه وعدْمه، ومحوه، وما يجرّه من فزعه، وهلعه، ويأسه، بسبب فقدان المعنى في هذه الحياة، ولا جدواها” [8].