ليلى عبد الله
عُرف الباحث البريطاني "آلان دو بوتون" بأنه يتقصى أبرز القضايا المعاصرة للإنسان؛ فبعد مؤلفاته العديدة التي تسبر أغوار العمق الإنساني، مثل كتاب "دروس الحب" و"عزاءات الفلسفة" و" مدرسة الحياة" ها هو يقدم لقارئه كتابا يلامس الجدران والمباني والبيوت بعنوان "عمارة السعادة" الصادر عن دار التنوير، ترجمة الحارث النبهان. طارحاً سؤالا شديد الأهمية: ما الذي يجعل بيتا من البيوت ذا جمال حقيقي؟
في توطئة الكتاب يضع صورة جانبية لصالة بيت داخلية وهو يخلو من ساكنيه. يغادره أصحابه إلى شؤونهم، يتخيل حال البيت الخالي من ساكنيه، باستمتاع، معيدًا ترتيب أحواله بعد انقضاء الليل. إذ يُفرغ أنابيبه ويطقطق مفاصله. ما أكثر ما احتمله هذا الكائن الجليل المخضرم. بعروقه النحاسية وأقدامه الخشبية. الغائصة في مهد من صلصال: كرات أطفال ارتدت بعد اصطدامها بجوانبه المشرفة على الحديقة، وأبواب في لحظات غضب، وأغطية رأس وضعت في ممراته، وثقل وطأة التجهيزات الكهربائية وزفراتها؛ وسباكون لا خبرة لهم ينخرون أحشاءه، وأسرة تتخذها الحشرات مأوى لها، تُقاسمها السكن مستعمرة من نمل، وتحتله في الربيع أجيال جديدة من عصافير أبي الحناء في مدخنته، هذا البيت أيضا مستراح لنبتة بازلاء عطرية هشة القوام مائلة على جدار الحديقة، بسرب نحلات عابرة تغازلها.
هذا البيت الذي شهد مسرات وأحزانا وذكريات، ووفرّ ملتجأ جسديا ونفسيا أيضا لساكنيه فهو يحرس هوّية؛ فالمباني "هي بروتين الذاكرة" كما ذهب " ر.وارن" و"غ. وينغورد" مؤلفا كتاب "ما العمارة؟ ومئة سؤال آخر" الصادر عن دار معنى، في الإجابة عن سؤال: هل للمباني ذاكرة حقا؟
لكن هذه العمارة معرضة للزوال والفناء أيضا، وهذا تحديدًا ما يحوّل بعض البشر المولعين بالجماليات إلى أشخاص غريبي الطباع، لا يجدون مفرًا من السهر على بيوتهم بحرص لا يقل عما نراه عند القائمين على المتاحف. إذ يجوب الواحد منهم غرف بيته باحثا عن البقع وفي يديه إسفنجة أو قطعة قماش رطبة، فهذا الشخص المهووس بالجماليات يظل محاصرًا بشكوكه حتى في أمتع لحظاته وهو مطوق بضيوف وزوار ولكن جلّ همه التركيز على يد تلطّخ جدارًا فتخلّف من غير قصد بقعة. فالبيوت هي في الأساس فانية، لن تبقى على مدار السنوات، لا بد أن تتأثر الأبنية بالطبيعة التي تخلف آثارها بقوة مع مرور الزمن، فلا منجى – مهما بدا المرء حريصًا – من ظهور بقع الرطوبة أو شقوق الجدران، ولا يسعه أن يظل حساسًا إلى ما لا نهاية. إن هذا السعي نحو جماليات العمارة هو سعي عقيم؛ وهنا يطرح دو بوتون سؤالاً يلامس صميم كتابه: "هل البيوت الجميلة قادرة على ضمان السعادة؟"
فهو يرى أنَّ ثمة كيمياء وحميمية بين المباني وساكنيها، فالبيوت تدعونا إلى الانضمام إليها ومشاطرتها حالتها النفسية، وأحياناً كثيرة نجد أن أنبل عمارة أقل نفعا لنا من قيلولة بعد الظهر أو من قرص أسبرين.
ويضرب مثالا من واقع المدن الخلابة، كمدينة البندقية وهي من أروع المدن في العالم، لكن رغم ذلك؛ فإن أهلها قد لا يتمتعون بطيب العيش فيها، فأي متعة في العيش في منزل عائم يغدو المرء فيه شبيها بغريق؟
يؤمن دو بوتون بأن العمارة ستكون دائما غير قادرة على مواكبة المتطلبات النفعية اللازمة للبشر؛ لأن ما فيها من قوة يظل أكثر الأحيان غير قادر على التعبير عن نفسه ويظلغير جدير بالاعتماد عليه، وعلى حد استرساله: فكم تصعب إقامة البرهان على جدوى الإنفاق على هدم شارع وضيع لكنه صالح للاستخدام ثم إعادة بنائه ليصير جميلا!
يؤكد دو بوتون حجته بعدم جدوى العمارة الجميلة في ظل متطلبات مادية ملحة وأكثر جدوى في حياة المرء؛ فالأمر لا يقف عند حقيقة أن البيوت الجميلة غير قادرة على ضمان السعادة، بل إنه من الممكن أيضا اتهامها بالعجز عن الارتقاء بطبائع من يعيشون فيها. يبدو منطقيا أن ثمة صلة ما بين الناس وخصال المباني التي يرنون إليها وتشدهم لها، فالأخيار يضفون على المباني قدرا كبيرا من سماتهم الشخصية، كالصبر والحكمة والصلاح والذكاء والعذوبة والانفتاح والتشكك ونحو ذلك، رغم ذلك لا يمكن إنكار شذوذ هذه القاعدة، فيحدث أن المزارع والسقائف والعربات والبيوت القائمة على ضفاف الأنهار يعيش فيها كثير من القتلة والطغاة والمتعجرفين، وهذا كله يشير بلامبالاة مخيفة إلى فداحة التوفيق بين حياة أولئك الناس وبين الخصال المتجسدة فيما هو محيط بهم.
ويدفعنا ذلك، إلى التساؤل حول مدى تأثير العمارة علينا كبشر. حيث خضعت المباني والبيوت وغيرها من أماكن العمارة لعدة تحولات على مر القرون، بدءا من البناء الكلاسيكي الذي كان سائدًا ردحا طويلا من الزمن ومسيطرا على أذواق الناس، يوضح دو بوتون كيف أن هذا النمط كان دارجًا ومكررًّا، مبيًّنا الاختلاف بين النسخ المتعددة من النزعة الكلاسيكية التي استقطبت اهتمام المؤرخين، لكن ما كان يدهشه حقا هو التماثل بين تلك النسخ المكررة، واستعارتها بشكل ملفت للنظر ومخيب للآمال أيضا لبعدها عن الأصالة، فقد ساد شبه إجماع، وقتا طويلا، على كيفية صنع نافذة أو باب وطريقة تزيين الأعمدة والأقواس التي تعلو واجهات البيوت، وأسلوب الوصل بين الغرف والممرات والمصبوغات وغيرها، وهي بحد ذاتها فرضيات صاغها معلمو عصر النهضة ومعماريوه ثم عُممت عبر كتب التصميم المعماري الموجهة إلى جمهور البنائين. مستدعيًّا عدة أمثلة كانت قد درجت الدول الكبرى في أمريكا وأوروبا على تقليدها بحذافيرها لترسيخها في التاريخ، فعلى سبيل المثال صمم "روبرت آدم" مبنى كيدلستون هول سنة 1765م وكان مصدر اعتزازه أنه استوحى من قوس قسطنطين المبني عام 315م تصميمَ مبنى ذي قبة. الأمر نفسه تكرر مع مبنى توماس جيفرسون في جامعة فرجينيا في مدينة تشارلوتسفيل، وكان منسوخا من معبد روماني عتيق.