محمد إبراهيم يعقوب
لم يكن المبدعون في معزلٍ عن مواجهة الكوارث والأوبئة طوال التاريخ، وإنّ لنا بعض العزاء في وحدة التجربة الإنسانية على مرّ القرون تجاه مأساة ما. فمثلاً رواية "الطاعون" تُعدّ الرواية النموذجية التي تتناول كيفية استجابة النفس البشرية في أوقات الطاعون، والحجز، والخوف من الموت. ويعيدنا هذا إلى سوفوكليس في تراجيديته "أوديب ملكاً" التي قُدّمت عام 429 قبل الميلاد، حيث يفتتح العمل في مدينة أسقطها الطاعون بعبارة: "الإله حامل النار، أكثر الأوبئة بغضاً، انقضّ على مدينتنا"، وذلك قبل أن تنقلب الأمور إلى مأساة حقّاً! [1]
هل تُلهمنا المأساة، وبماذا؟! ما الذي تأخذه منّا ولا يعود، كيف تتأرجح أرواحنا بين هاويةٍ وهاويةٍ، كيف لنا أن نتمسّك بالأبدية عبر الأدب الذي يقاوم ويقاوم في غرقٍ لا طوعيٍّ داخل الذات الإنسانية، "إنها تتبدّى لنا ونراها بعيون مختلفة. نراها مرة تهديداً مرعباً، ومرة امتحاناً .. أحياناً يُضعفنا ويفتك بنا، وأحياناً يُرمّم صدوعنا ليُحيينا" [2]، ونحن نعلم كيف لهذه الأوبئة أن تكون امتحاناً يُغيّرنا، بكلّ ما يتعلّق به من خوفٍ ووحدةٍ وحجرٍ وتأمّل للذات والعالم، رغم كل هذا فإن مثل هذه الفترات من العزلة، قد تخلق أدباً، ومن هنا يظهر ما يُسمّى "أدب الجائحة"، بما يتضمنه من تأمّل للتجربة الإنسانية ككلّ من خلال الخوف والصمت وزمن الحجر الثقيل على الروح، وفي تاريخ الأدب العربي فإنّ الحجر أو الإغلاق ـ رغم عدم وجود كارثة حقيقية ـ قد ألهم الشاعر العبقريّ أبا تمام بكتابة الحماسة، جاء في المقدمة: "أنّ أبا تمام كان قد قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان، فمدحه وأثابه، وعاد من خراسان يريد العراق، فلما دخل العراق اغتنمه أبو الوفاء بن سلمة فأنزله وأكرمه، فأصبح ذات يوم وقد وقع ثلج عظيم قطع الطريق ومنع السابلة، فغمّ أبا تمام ذلك وأحرج صدره، على حين سرّ ذلك مضيفه أبا الوفاء، فأقبل على أبي تمام وقال له: وطّن نفسك على هذا المقام فإن هذا الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان. وأحضره خزانة كُتبه فطالعها واشتغل بها، وصنف خمسة كتب في الشعر منها كتاب الحماسة والوحشيات، وهي قصائد طوال" [3]
نحن ببساطة نشعر أننا لسنا مهددين بما فيه الكفاية، وعند وقوع الكارثة طاعوناً أو وباءً، نجد أنفسنا في مواجهة الحقيقة الكبرى التي هي الموت، وقد واجه الشعراء الموت منذ رثاء بعض الشعراء القدماء لأنفسهم، مالك بن الريب على سبيل المثال، إلى شعراء العصر الحديث، فنحن نقرأ الجدارية لمحمود درويش الذي أدهشنا بكيفية كتابة هذا الحوار الشفيف جداً مع الموت، يقول:
"ويا موت انتظر يا موتُ
حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحّتي،
لتكون صيّاداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبع
فلتكن العلاقة بيننا ودّيةً وصريحةً:
لكَ أنت ما لك من حياتي حين أملأها
ولي منك التأمّل في الكواكب
لم يمُت أحدٌ تماماً تلك أرواحٌ تغيّر شكلها ومُقامها" [4]
وبتجاوز كلّ هذا تبدو تجربة طارق الصميلي في ديوانه "مأساة الرائي" مختلفةً تماماً، فلم تتح له عزلة كأبي تمام، ولم تكن له تجربة ذاتية مع الموت كمحمود درويش، لكنه وقف في المنتصف بين هذا وذاك، لسبب بسيط كون الشاعر امتزج بالإنسان في هذه التجربة، وكان الديوان بحقّ شهادة ممارسٍ صحيٍّ كما يقول طارق [5]. هذا الوضع الفريد الذي كان فيه الشاعر والممارس الصحيّ في آنٍ معاً، جعل الشعر يقف على المأساة عن قربٍ، يرى كي نرى من بعده، يرى ما لا يُرى. وبالرغم من صعوبة التجربة، وهي مأساة بحقّ، لكنّي عندما قرأت الديوان للمرة الثانية توقّفت كثيراً عند انحياز طارق للشعر، لم يكن يسجّل ما يحدث للعالم، بل كان يتماهى مع هذا العالم إنسانياً عبر شعرٍ يؤمن بقدرته على النفاذ إلى عمق المأساة، شعرٍ يعترف بعجزه، ويتوكّأ عليه لينهض العالم من جديد.
الرؤية والعبارة:
هل تفتح لنا المأساة باباً للكلام، أم باباً للصمت والتأمّل، وربما التحسّر؟! وهل باستطاعتنا أن نختار؟!. بدءًا من العنوان "مأساة الرائي" يُنصّب الشاعر نفسه رائياً، يقول بيسوا: "لا أسمّي نفسي شاعراً. إنني فقط: أرى" [6]، ولا شكّ أن ذلك يُحيلنا إلى رسالة الرائي التي كتبها آرثر رامبو إلى أستاذه جورج إيزامبار، وقد جاء فيها: "لأني أريد أن أكون شاعراً، وأعمل على أن أجعل من نفسي رائياً" [7]، طارق الصميلي لم يختر هذه المهمّة أن يكون رائياً، لكنه كان يرى ويُرى، وهبته المأساة مهمته المقدّسة، ولقد أخذ على عاتقه هذه المهمة كشاعرٍ قبل كل شيء، لم تكن المأساة نتيجةً بل سبباً للرؤيا، يقول:
"وقفتُ أحدّق بالذكريات التي حدّقت بي
تفتّش عن مدخلٍ لشقائي
تنادي عليّ بأسماء من رحلوا
وأنا لا أُجيبُ" [8]
لم يكن لديه خيارٌ لأنّ:
"أعينٌ ذاهلة
لا أرى أو يراني سواها
تشدّ انتباه المكان
وتُعرب عن قلق القافلة" [9]
وكأن الشاعر أصبح مرآةً لكل هذا العالم:
"يراني مرآةً
يتفحّص فيها مظهره" [10]
وعلى الشاعر أن يُتقن هذا الدور تماماً كمرآةٍ للعالم:
أتأمل في حال العالم وأقارن:
العالم منكوبٌ مثلي
وأنا أحمل فوضى مثل العالم
العالم يخشى مما يصنع مثلي
وأنا أتهاوى كالعالم
والعالم يشكو ضيق النفس الغادر مثلي
وأنا أشكو ضيق الأفق كهذا العالم" [11]
ولكن، إذا اقتنع الشاعر بدور الرائي، فما الذي يراه، وهل يُرى؟!، إنّ المأساة الكبرى أنّ هذا الوباء يفتك بكل شيءٍ ولا يُرى:
"الطواقم في كل زاويةٍ يحتشدون لما لا يُرى
والأطباء كان عدوهم الوقت والوقت لا يُشترى" [12]
فهل من أملٍ، في ظلّ كل هذا:
"والدي يتسمّر خلف النوافذ
يبحث عن أملٍ لا يراه الأطباءْ
الممرات تعرفه
مقعد الانتظار
الممرض
والعائدون من الغيب
يعرفه الليل حتماً وأهل السماءْ" [13]
يؤمن الشاعر بعجز الشعر أمام المأساة، يرى باتّساع مأساة هذا العالم:
"أجلس في طرف العالم
كأسي فارغةٌ
وأحاول أن أحتوي المشهد
لا المقهى يتّسع لذلك
أو حتى الشعر
أحدّق حتى تتسع الرؤية
لأرى العالم في المأساة غريقا" [14]
لكنّ العبارة لا تسعفه، تتجمّد، وتتحجّر، ولا تقول، تنهار القصيدة:
"القصيدة تنهار كالعالم الآن
حين يكممنا الخوف
تبقى العيون مرايا تصرح عن كل شيءٍ
نوافذ للروح والجسد المتعثّر في وجع اللحظة الماثلة" [15]
وينثر مثل هذا الشعور بعجز الكلام خلال تجربة الديوان كاملاً:
" الكلام تحجّر والساعة احتضرت
والسلام كأفراحنا نافلة" [16]
ويعترف:
" كيف للشعر أن يتسلل نحو سماء الكآبة
يسبر أغوارها ويضيء كبدرٍ ويملؤها فرحا؟
إلى أن يقول:
كيف لنا أن نضيءَ ويعتمَ
كيف لنا ... ويجفّ الكلامُ
فبعدك حتى النهارات من روحها مفرغة" [17]
وهذا الشاعر الذي رأى، يُدرك حجم المأساة، فقد لمسها بيديه، أو قفازتيه لا فرق، لذا فإنه يجد خللاً في القصيدة، وعدم قدرة على التعبير في مواضع عدة، منها:
"وأنا خلل واضح في القصيدة" [18]
"أبحث عن لغةٍ تتحمّل نزفي" [19]
"أبقى فوق الأرصفة أفتّش عن عصرٍ يُنطق لكن لا يُكتب" [20]
"لو خانني التعبير لي أسبابي" ص [21]
"والكلام اللذيذ تجمّد ما بين قلبيهما" [22]
لكن لا سبيل إلا القصيدة، حتى لنتعرّف على أنفسنا خلال هذه المأساة:
"هطل الليل منتشياً مثل عادته
إنما لم يجدك
فصحتُ به لا تخف
لست وحدي
معي الحزن/ حزني عليك
أخلّده في القصائد كي لا يضيع سُدى" [23]