“مساحة الإبداع بين النص السينمائي المكتوب والفيلم”

جمال فرج

تتكامل العلاقة بين النص السينمائي المكتوب والفيلم، إذ لا يمكن تصور وجود الكائن الحي بمعزل عن مكونه العضوي الذي تشكل منه. ونفس العلاقة نجدها أيضا في رابطة النص المسرحي المكتوب والعرض المسرحي، أو بين كتابة مدونة الأوبرا والمؤلَّف الموسيقي وتقديمه للجماهير. ولأن الفيلم في عملية إنتاجه يعتمد على مشاركة عدد من المبدعين؛ فإن جميع هذه المساهمات الإبداعية تعمل وتنطلق من النص السينمائي المكتوب.

وعلى الجانب الآخر يوجد فرق جوهري بين النص المسرحي والنصوص الأدبية من ناحية، والنص السينمائي المكتوب من ناحية أخرى. هذا الفرق يتمثل في أن الأخير نص وسيط (بالمعنى المجازي) كُتب بطريقة خاصة لجمهور خاص، فمتلقوه هم العاملون في الحقل السينمائي. ولا نذهب في ذلك إلى ما ذهب إليه المنظّر السينمائي بيلا بالاش من أنَّ السيناريو يُعدُّ شكلا أدبيا، حتى أنه طلب من المؤلفين أن يكتبوا النصوص مراعين ذلك، وأن نشر عدد من السيناريوهات دالٌّ على كونها أصبحت في مصاف النتاج الأدبي والمسرحي. فالعلاقة تظل عضوية بين النص السنيمائي المكتوب والفيلم.

وإن كنا نتفق معه في مشابهة السيناريو المكتوب لبعض الأشكال الأدبية الرائجة، مع محافظته على خصوصيته وقدرٍ عالٍ من استقلاليته وتفرده. إذ تظل للنصِّ السينمائي لغته وهيكليته ومؤثراته الخاصة، بل وفضاءاته التي ينتمي إليها. وفيه ومن خلاله يصف المؤلف ويبدع المظهرَ البصريَّ المرئيَّ، ويعبر عنه وفق اشتراطات وطرائق معلومة.

وأعتقد أن إلصاق بالاش للنص السينمائى المكتوب بالأدب تحديدا -لا المسرح- راجع لأن السينما وهي تخطو خطواتها الأولى صارت فنا سرديا مستقلا له لغته الخاصة. تلك اللغة التي وُظِّفت لاختراع تقنيات سردية أعطت للسينما استقلاليتها الفنية.

وفي هذا السبيل، لم يُعرف أو يعرّف النصُّ السينمائيُّ بوصفه إبداعا خاصا، بقدر ما كان المخرج يعتمد في تنفيذه للفيلم على بعض الإشارات والتوجيهات، منطلقا من فكرة الفيلم نفسِهِ، وحين عرفت السينما الصوت والحوار الدرامي -ضمن البنية السردية للفيلم- عرفت طريقها إلى النقل والاقتباس عن النصوص المسرحية والأدبية.

ورغم أن المخرج جريفيت كان أكثر من ساهم في التعريف بأغلب التقنيات السينمائية التي أسست لترسيخ فن السينما، إلا أنه ولأسباب تتعلق بمرحلة البدايات، لم يُدرك أن هناك ضرورة ما، لوجود إبداع خاص يسبق عمل الفيلم وهو كتابة النص السينمائي.

وعلى الجانب الآخر ظهر لدينا ما سُمّيَ بسينما المؤلِّف. ذاك التمرد الذي مثّلهُ المخرجون المنتمون لسينما الموجة الجديدة في فرنسا في ستينيات القرن العشرين. حيث أراد هؤلاء المخرجون الخروج على الطريقة الحرفية التي كانت تُكتب بها الأفلام الهوليودية مفضّلين أن يكتبوا نصوصهم السينمائية بأنفسهم. إلا أن ما ذهب إليه جريفيت أو مخرجو الموجة الجديدة لم يُلغِ إبداع مؤلف النص السينمائي المكتوب.

وعلى مدار تاريخ الإبداع الإنساني أقامت الفنون وشائجها وروابطها الخاصة مع الفنون الأخرى، في عملية تكاملية تفاعلية لا تُنكر. لذا كانت العلاقة بين النص السينمائي المكتوب وبين النصوص السردية الأخرى علاقة إضافة وحذف، ليحتفظ كلُّ فنٍّ بخصائصه المستقلة.

ويعتبر مفهوم التناص أو التعالق النصي أحد منجزات النقد الحديث فى ستينيات القرن العشرين من دلائل ما ذكرناه.

وتشبه مساحةُ الإبداع التي تكون بين النص السينمائى المكتوب والنصوص السردية التي يأخذ عنها ويوظفها مساحةَ الإبداع بين النص السينمائي نفسِهِ والفيلم، إذ أن النص السينمائى المكتوب يأخذ عن هذه النصوص ما يناسبه منها من عناصر وتقنيات، ويحذف منها ما لا يتناسب مع طبيعته. وهذه المساحة تضيق أو تتسع بقدر المشتركات أو الاختلافات، إلا أن الغالبَ على هذه المساحة أنها تتسع ولا تضيق بين النص السينمائي المكتوب والفيلم. فالحقل الإبداعيُّ واحد ومؤلف النص السينمائي يظل يفكر سينمائيا حين يحكي حكايته في زمن تقريبي محدد، وحدة الكتابة فيه المشهد. ثم يتسع المشهد عند المخرجِ ليكون لقطةً، وصولا إلى "نص مبنيٍّ بنظام، يكون لكل جملةٍ فيه مرادفها المرئيُّ."

ووفق ما جاء في كتاب (أحاديث حول الإخراج السينمائي) لميخائيل روم "فإنَّ على المخرج أن يستوعب تركيب المشهد، تلك الوحدة المكونة لدراما الفيلم، وكيف عليه في كل مشهد أن يحلَّ إشكالا دراميا جزئيا، على اعتبار أن كل مشهد يحتوي على دراما صغيرة خاصة تُقدم بطريقة مغايرة، متضمّنةً التقلبات والذروة وباقي التفاصيل."

وفي حقيقة الأمر فإن الكتابة والإخراج موهبتان مختلفتان، ولكنَّ لسحر الكتابة صلته بالسينما وعوالمها، ومن امتلك ناصية الموهبة الكتابية وأتقن الإخراج السينمائيَّ؛ فقد فاز بأهمِّ شروط الإبداع في هذا المجال. ولهُ بعد ذلك أن يُشكّلَ على يديه المكونات التي تصنع في النهاية فيلما سينمائيا له جمالياته وفضاءاته.

ولأن مرتكزات عمل المخرج ترجع لخصائص الصورة السينمائية بطاقاتها الجمالية والسردية والدلالية أولا، ثم عمل المونتاج في ضبط تتابع الفيلم وإيقاعه وبنية الزمن السردي ثانيا؛ فإنَّ تعامل المخرج ببراعة واقتدار مع هذين المرتكزين بوعي وحساسية فنية= يُنتِجُ عملا فريدا فذّا.


    المصادر و المراجع
  • فنون السينما مجموعة مؤلفين، ترجمة: عبد القادر التلمساني.
  • كيف يُكتب السيناريو؟ لأنجاكارتينيكوفا، ترجمة: أحمد الحضرى.
  • أحاديث حول الإخراج السينمائي لدزيجا فيرتوف، ترجمة: عدنان مدانات.