“انطباع شروق الشمس” هدية كلود مونيه للفن

حسن عبد الموجود

image

ظهر الفنان الفرنسي كلود مونيه (1840 - 1926) في فترة جمودٍ فني سادت أوروبا، فالرومانتيكية والمعايير التقليدية والوضوح البالغ كانت تحكم الفن التشكيلي وقتها، والفنانون مالوا إلى تصوير الطبيعة بأشجارها وزهورها ونباتاتها وثمارها بألوان حادة واضحة، كأن اللوحة هي صورة فوتوغرافية، وكأن الرسَّام ناقل أمين للواقع.

لكن مونيه اتَّخذ منحىً آخر، فلم يترك نفسه للتقليد، ولم يسر في الطريق التقليدي برغم النجاح المضمون. ولحسن الحظ هيَّأ له القدر مقابلة رسَّام الطبيعة أوجين يودين، فشجَّعه على استكشاف عالم الطبيعة، وبدأ الرسم في الهواء الطلق، وذاع اسمه في أوساط الفنانين، بميله إلى التصوير بطريقة جديدة مبتكرة، يمنح فيها بعض عناصر الطبيعة قوة التأثير الهائلة، كالضوء، والرياح.

وفي عام 1873 رسم مونيه لوحته الشهيرة "انطباع شروق الشمس"، وظهرت في معرض جماعي بعدها بعام، أقيم في منزل المصور الفوتوغرافي نادار، وشارك فيه إيدجار ديجاس وكاميل بيسارو وبيير أوجست رينوار وألفريد سيسلي، وقد كانوا يبحثون جميعاً عن موطئ قدم لهم في الحياة الفنية التشكيلية.

صوَّر مونيه في لوحته قاربين صغيرين في مقدمة ميناء مدينة لوهافر (مسقط رأسه)، بينما لاحت في الضباب أشباح قوارب أخرى، وشمس حمراء حانية، في ذلك التوقيت المبكِّر من اليوم، أعلنت عن نفسها باختلاف، وتركت تأثيرها على جزء هائل من سماء الميناء وصبغت المياه الأردوازية بخيطٍ من لون دبس الرُّمان، كما ظهرت سفن شراعية بصوارٍ طويلة، وكائنات ضبابية خرافية صنعها دخان السفن والبواخر.

لم تكن اللوحة شبيهة بلوحات الطبيعة العادية، فضربات الفرشاة مهزوزة، والألوان زاهية، والشمس الحمراء والضباب يتبادلان التأثير والتأثر، فلا الشمس استطاعت أن تمحوه، ولا هو استطاع أن يحجب لونها الشفقي المثير، وبالتالي إذا نظرت إلى اللوحة يُخيَّل إليك أنك ترى ما يشبه ميناء "لوهافر" لكن من خلال عيني الفنان أو مرآته أو تأثير عناصر اللوحة، وهذا هو جمال الفن، أنه يشبه الواقع، لكنه بكل تأكيد يختلف عنه، ويمنحك إحساساً بأنك تعيش أجواء خيالية رائعة.

صار أسلوب مونيه في اللوحة سمة هامة له ولجميع رسامي "الانطباعية" بعد ذلك، حيث ظهر واضحاً أنه استخدم ضربات فرشاة قصيرة من الزيت على القماش، وحاول بقدر الإمكان أن يبتعد عن التحديد الصارم للألوان، حتى يعكس ما يرسمه تأثير الشمس على المكان، لا شكله في الواقع كما يراه الجميع في يوم صحو.

عانى مونيه من هجوم النقاد الحاد، وقد كان ما كتبوه كفيلاً بإحباطه وإجهاض حلمه. عبَّر لويس ليروي مثلاً في مجلة "لو شاريفاري" عن صدمته الشديدة بعد أن توقَّف أمام لوحة "انطباع شروق الشمس" في المعرض، قائلاً بالحرف: "ما هذا التحرر؟! ما هذا الهوان في الرسم؟! حتى إن ورق الجدران في بداية صنعه مكتمل أكثر من هذا المشهد البحري!".

لكن الكلمات التي استخدمها المنتقدون هي نفسها الكلمات التي استخدمها المعجبون باللوحة، إذ أكَّدوا أن مونيه لم يركن للتقليد، لكنه اختار طريقاً صعباً مختلفاً وضعه أمام تطاول الكلاسيكيين، ويكفيه شرفاً أنه جرَّب أن يصبح حُرَّاً في عالم يصنِّف الفنانين ويحشرهم في صناديق وفتارين وعُلب ويصفِّق للتشابه بينهم أكثر مما يصفق للاختلاف!

وهكذا بدت لوحة مونيه، التي بيعت أكثر من مرة بفرانكات ضئيلة، أشبه بالقطعة الذهبية، تكتسب قيمة مضاعفة مع مرور الزمن، فها هو مؤرخ الفن بول تاكر يمنحها حقها، قائلاً إن تلك اللوحة تجسيد لعودة الروح إلى فرنسا بعد هزيمتها أمام ألمانيا في الحرب البروسية (1870-1871) وأن تباين العناصر كالبواخر والرافعات في الخلفية مع الصيادين في المقدمة يمثل هذه الروح. يقول: "ربما رأى مونيه هذه اللوحة التي تصوِّر الموقع ذا الشأن التجاري الكبير كردٍّ على دعوات ما بعد الحرب للعمل الوطني وكفنٍ يقود الناس، يمكن أن تُرى اللوحة أيضاً كنشيد على قوة وجمال انتعاش وإحياء فرنسا بما أنها قصيدة للضياء والجو العام".

توفي مونيه عام 1926 متأثراً بآلام بسرطان الرئة وعمره 86 عاماً. دُفن في مقبرة كنيسة جيفرني، وحضر جنازته خمسون شخصاً فقط. لم يكن يعلم أن العالم سيحتفي سنوياً بذكرى لوحته "انطباع شروق الشمس" باعتبارها واحدة من أهم اللوحات في تاريخ الفن، ويكفيه شرفاً أنها أسَّست لتيَّار كامل هو "الانطباعية" ترك تأثيره على الجميع بمَن فيهم الفنانون الذين لم يعتنقوه أو يؤمنوا به.