سارة سليم
ما يمنح صفة العالمية للأدب ليس الترجمة، وإن اعتبرناها شرطًا ضروريًا لمستقبل النص في لغات أخرى، وإنما يصبح الأدب الجيد عالميًا حين لا يتعالى على بيئته الخاصة، بشرط أن يعرف الكاتب كيف يصوغ هويته ضمن رؤية أدبية لا تتملص من محلية الأدب، وتنتصر للفن الروائي حين يستوعب أسئلة الوجود المشتركة. ومن يقرأ الأدب الخليجي يلحظ أن أغلب رواياته تمتلك هوية مشتركة وإن اختلفت طرق التعبير عنها، إذ نقرأ في الكثير من النصوص الخليجية الجيدة سيرة الماء والأفلاج، وكأن وجود هذا الأدب مقترن بالماء؛ إذ يعرف كُتَّاب الخليج كيف يحولون حكاية الماء إلى سرد روائي.
من بين تلك الأعمال رواية (المنسيون بين مائين) للكاتبة البحرينية (ليلى المطوع) الصادرة حديثًا عن دار رشم، هذا النص يدوِّن سيرة الماء وأساطيره؛ إذ ترى إحدى شخصياته الروائية أن: "الجميع كتب سيرة الأرض لكنها ستكتب سيرة الماء". وخصوصية الرواية تبدأ من العنوان نفسه الذي يرمز للبحرين، تقول: "هويتنا الماء"، وهي مدفوعة بالتساؤلات: "ما معنى أن أحمل البحرين في هويّتي، ويدفن الماء العذب والمالح؟!" وتجيب الكاتبة عن ذلك في نص من 429 صفحة يعود بنا إلى تدوين سيرة البحرين من خلال «تدوين ذاكرة الماء»، تقول: "حين نعرّف أنفسنا: نحن أهل الجزيرة. فاسم البحر في هويتنا. خلقنا من ترابه ومن مائه. لذلك حين يردم نشعر بكلّ هذا الاختناق".
تختلف شخصيات الرواية وتتعدد أسماؤها لكنّ الثابت فيها الماء؛ إذ تناوبت جميعها على قص سيرته في فترة زمنية أعادت الكاتبة من خلالها استحضار تاريخ البحرين، وكأنَّ الماء كما تصفه هو الوطن والانتماء، هو اللغة التي تجعلهم أكثر تمسكًا ببحرينهم دون أن يشاركهم في هذه اللغة أحد سواهم، تقول: "يعرف لغة الماء فيخاطبه"، هذه الرواية تشبه بيئة البحرين التي انطلقت منها حكاية البحر المحلية وامتزجت بالأسطورة، في سرد يتراوح ما بين القصة الواقعية وأساطير البحر المحلية. يرى الكاتب والفيلسوف الفرنسي (غاستون باشلار) في كتابه (الماء والأحلام) أن: "علم أسطورة البحر هو علم محلي".
تسير رواية (المنسيون بين مائين) على خطين متوازيين بنفس الدرجة من الوضوح في السرد؛ خط الماضي الذي يتبع سيرة الماء والينابيع ممزوجة بالأساطير، وحكاية الجدات حين يروين -على طريقتهن الخاصة- تاريخًا يسهل الاستدلال عليه من خلال المسار الثاني، أي مسار الحاضر الذي يعرض حالًا قلقًا يمتلك «ذاكرة قصيرة» سببها التغيرات التي تمر على المكان، نتيجةً حتميةً لبناء الجزر وإعادة إعمارها في كل مرة؛ إذ تطرح الرواية تخوفاتها من مستقبل الطبيعة في حال واصلت غابات الإسمنت التعدي على حدودها. تشتغل (ليلى المطوع) في عملها هذا على التجريب ضمن رؤية فنية توثق سيرة البحرين روائيًا من خلال سيرة الماء نفسه، تقول: "لتعبريه عليك أن تقرئي وجه الماء؛ فلن تعبري البحر إلا إذا عرفته"، وفي عبارة أخرى تقول: "الماء يعرف الماء".
نتعرف من خلال (المنسيون يين مائين) على البحرين، ونتعلم من شخصياتها الروائية أن الماء لا يصنع الحياة فحسب؛ بل يصنع الرواية التي تتمسك بأصالتها حين تتحدث عن الماء في بيئته وبلغته.
كذلك يشغل الماء مساحة مهمة في رواية (دائرة التوابل) للكاتبة الإماراتية (صالحة عبيد) بوصفه أصل العالم، ومنه تبدأ الحياة ويُكتب التاريخ وتُسرد القصص. تقول: "يدوَّن تاريخ العالم بدءًا من الماء، من اللحظة التي شكلت تلك الكثافة السائلة، فمنحت حياةً أولى لكل ما حولها".
تنطلق (صالحة) من الماء فكرةً ثابتةً تشبه حكايات الطفولة الأولى التي تؤسس بعد ذلك إلى ذاكرة البشر، ففي البداية: "كان الماء، ثم كانت ذاكرة الناس، ذاكرة تولد أخرى داخل ركام، ويعاد بعثها من جديد". على حد تعبير الرواية.
ولا تقف فكرة الماء عند حدود الذاكرة كوثيقة لا تسقط بالتقادم، بل يعكس الماء: "ذاكرة صاحبه مع وجهه، ويحفظها، كركام يتصاعد مع ما يحفظ من ذاكرة الزمن".