الحبكة الروائيّة وأهمّيّتها في هندسة الرواية

هيثم حسين

ما هي الحبكة في الرواية؟ ما هي العناصر المكوّنة للحبكة؟ كيف تساهم الحبكة في بناء وتطوير الأحداث في الرواية؟ ما هي وظائف وأنواع الحبكة المختلفة؟ هل تعتبر الحبكة عنصراً رئيساً في الرواية مثل الزمان والمكان والشخصيات أم أنّها لا تعدو كونها عنصراً ثانوياً في الرواية؟ لماذا تعتبر الحبكة مهمّة في جذب انتباه القارئ وإبقائه مهتمّاً بالقصة؟ كيف ينسج بعض الروائيين الحبكة الروائية لبناء قصص معقّدة وشائقة؟

تتكوّن الحبكة الروائية من سلسلة من الأحداث المرتبطة ببعضها البعض والتي تصف التطوّرات التي تحدث في الرواية، وتتضمّن العناصر الأساسية التي تشكّل بنيانها وتتمثّل بالشخصيات، الإعداد، المشكلة الأساسية، تصاعد الأحداث، الذروة، الانفراج، والخاتمة.

بعيداً عن التعريفات المدرسيّة، تعدّ الحبكة أحد العوامل المحورية التي تجعل الرواية تلتقط اهتمام القارئ وتثير مشاعره، فهي تعمل على هندسة الرواية وتركيبها بشكل منطقيّ واضح، ممّا يجعلها أكثر انسجاماً وتنظيماً. وبواسطتها يستطيع الكاتب إثارة المتلقّي وتشويقه من خلال مواجهة الشخصيات للتحدّيات والحوادث المختلفة، كما يمكنه استخدام التوتّر والتشويق للحفاظ على اهتمام القارئ طوال قراءته للرواية.

تتنوّع أنماط الحبكة الروائية في الأعمال الأدبية وتتضمّن عدّة أشكال. من بين هذه الأنماط، نجد الحبكة المتصاعدة، الحبكة الدائرية، الحبكة المتداخلة، والحبكة الزمنية. وفي كلّ رواية حبكة رئيسة، وحبكة أو أكثر فرعيّة.

والحبكة قديمة قدم الحكاية، فلا حكاية من دون حبكة، مثلاً في أعمال شهيرة مثل "ألف ليلة وليلة" حيث تدور الأحداث حول الأميرة شهرزاد التي تحكي القصص للسلطان شهريار لإبقاء نفسها حيّة، تتجلّى الحبكة في تشويق شهريار وإبقائه مستمتعاً بالحكاية وتفاصيلها وانسياقه وراء خيوطها، ومنحه فرصة الحياة والنجاة لشهرزاد التي تحيا بنسجها المتقن للحبكة ومن خلالها..

تقنيات متجدّدة

تتعدّد آراء الروائيين إزاء دور الحبكة في الرواية، وتتنوع رؤاهم لها حسب تجاربهم ومنهجياتهم الكتابية. فهناك من يرى فيها عمود الرواية وأهمّ عنصر يحدّد براعتها وجاذبيتها للقارئ، بينما يعتبرها آخرون أداة أساسية لتنظيم الأحداث وتسليط الضوء على المغامرات والتطورات في القصة، ووسيلة لإيصال رسالة الرواية والتأثير في القارئ، حيث يمكن لها أن تنقل الأفكار والمعاني المعقدة بشكل مثير ومؤثّر.

في فصل بعنوان "ابتكار أفكار الحبكة" يقول الروائيّ لورنس بلوك في كتابه "كتابة الرواية – من الحبكة إلى الطباعة" عن ديناميكيّة نسج الحبكة: "أيّهما يأتي أوّلاً: الحبكة أم الشخصيات؟ ليس لديّ جواب على هذا السؤال. لأنّ أيّة رواية يمكن أن تبدأ بالحبكة أو بالشخصيات التي يكون المؤلّف ممسكاً بها تماماً. ومع ذلك فإنّ الجانبين يتشكّلان بشكل عام وهما يسيران جنباً إلى جنب طوال عملية تشكيل الكتاب نفسها، وأيضاً في الروايات التي أظنّ أنّي أعرف الكثير عمّا يحدث فيها قبل أن أبدأ في كتابتها، أجد أنّ الأحداث غير المخطّطة تتزاحم داخل إطار الحبكة وتلحّ بدورها، على الإبداع الفوريّ للمزيد من الشخصيات الثانوية الجديدة... [1]".

وتعتمد الحبكة الروائيّة في الأدب الحديث على تقنيات حديثة مثل التشويق المتواصل، والتشعّب والتلاعب بالزمان والمكان، وتنسيق الأحداث بطريقة مبتكرة. وتشدّ بذلك انتباه القارئ وتحمّسه لمعرفة نتائج الصراعات والأحداث وتوقّع التطوّرات.

يستخدم الروائيّون التقنيات المناسبة لإبراز نقاط التحول الرئيسة في الحبكة وإبقاء القارئ تابعاً القصّة بشغف. مثلاً، يصدم التشيكيّ فرانتس كافكا في روايته "التحوّل"، والتي تُرجمت أيضاً بعنوان "المسخ"، قارئه ويشوّقه ويثير فضوله في الوقت نفسه لمتابعة تفاصيل ما حدث، والانسياق وراء دهشته بما قرأ من تحوّل الشخص إلى حشرة، وكيف تمّ ذلك ولماذا. تراه يبدأ بوصف دقيق للحالة التي استيقظ فيها غريغور سامسا، ما يُبرز الحساسية الشديدة للتفاصيل والقدرة على وصف الظواهر الغريبة بطريقة تجعلها تظهر حقيقية وملموسة، ويثير بذلك التوتّر والغموض إزاء حالة غريغور وتحوّله إلى حشرة، حيث لا يُعرف سبب هذا التحوّل المفاجئ، فيشجّع القارئ على مواصلة القراءة لاكتشاف الأسباب والتطورات المستقبلية في القصة.

هذه الافتتاحية التي شكّلت صدمة ودهشة للكولومبيّ غابرييل غارسيا ماركيز شرّعت أمامه أبواب المخيّلة على فضاءاتها الشاسعة، حيث يحكي في سيرته "عشت لأروي" أنّ أحد زملائه في الحجرة؛ دومنغو مانويل بيغا الذي كانت تربطه به صداقة قوية، ويشاطره نهم القراءة، أعاره ذات مرّة كتاباً من ثلاثة كتب كان قد اشتراها لتوّه، وكان اختياره لذلك الكتاب لا على التعيين، مثلما كان يفعل بكثرة لمساعدته على النوم.. ويقول: "لكنّه توصّل في تلك الليلة إلى عكس ما يريده تماماً: إذ لم أعد قط إلى النوم بالوداعة السابقة. كان الكتاب هو "المسخ" لفرانتس كافكا... وقد حدّد ذلك الكتاب مساراً جديداً لحياتي منذ السطر الأوّل، وهو اليوم أحد رايات الأدب العالميّ [2]".

ومن اللافت أنّ الافتتاحية في عدد من الروايات التي كتبها ماركيز حملت بصمات كافكا، حيث سعى لخلق تأثير قوي على القارئ منذ السطر الأول، مشابهاً بذلك أسلوب كافكا في خلق بيئة مريبة وغامضة تثير فضول القارئ وتجذبه للغوص في عالم الرواية، موحياً أنّه يكشف له خيوط الحبكة ومصائر الشخصيات.

ففي رواية "قصّة موت معلن" التي تدور أحداثها في بلدة صغيرة في ساحل الكاريبي الكولومبيّ، نقرأ نموذجاً فريداً من الحبكة، إذ يلجأ ماركيز إلى الكشف عن النهاية المحتومة التي تنتهي بها الرواية، ولكنّه يمسك بزمام القارئ ويمضي به في رحلة الكشف عن ملابسات القتل وتفاصيله..

يحكي ماركيز في روايته عن وصول سنتياغو نصار؛ الابن الشاب لمهاجر عربي، في الصباح الباكر ليوم زفاف أنخيلا فيكاريو. سرعان ما تنتشر شائعات كاذبة تُفيد بوجود علاقة غرامية بينه وبين أنخيلا قبل زفافها، ممّا يدفع بالأخوين فيكاريو إلى التخطيط لقتله بدافع غسل العار. وعلى الرغم من تحذير العديد من الأشخاص لسانتياغو من الخطر المحدق به، إلّا أنّه لا يأخذ الأمر على محمل الجدّ، ممّا يمهد الطريق لمقتله المأساويّ والمعلن.

منذ بداية القصة يعلَن أنّ سنتياغو نصّار سيقتل، وبالرغم من أنّ القارئ يعرف من البداية ما سيحدث لسنتياغو، لكن ماركيز استخدم بنية زمنية غير تقليدية في الرواية، حيث يكشف عن نهاية الحكاية في بدايتها، فيخلق توتراً درامياً ويثير فضول القارئ لمعرفة كيفية وصول الشخصية الرئيسة إلى تلك النهاية المأساوية.

إدهاش متواصل

وقد تغدو الحبكة المتشظّية، التي هي عبارة عن حبكات ثانوية غير مكتملة حبكة رئيسة في الرواية، وترسم ملامح الرواية التي قد تبد مَتاهيّة للقارئ أو تبقيه مندهشاً باحثاً عن خيوط لاستكمال الخطوط المرسومة أو نهايات للمصائر المعلّقة.

وأعتقد أنّ هذا النمط من الحبكة يجد تجسيده الأبلغ في رواية "لو أنّ مسافراً في ليلة شتاء" للإيطاليّ إيتالو كالفينو (ترجمة حسام إبراهيم، الهيئة العامّة لقصور الثقافة، القاهرة 2013) الذي يرسم في روايته لوحة فنّية ثريّة تسعى لتحقيق التوازن بين الكلمة والصورة، بحثاً عن المتعة والإبهار المفترض والمرتقب. ويستخدم خطاباً مباشراً مع القارئ، حيث يدعوه إلى المشاركة الفعّالة في الرواية، ويضعه في مركز الأحداث. يحاول أن يحوّل القارئ إلى بطل داخل الرواية، من خلال إشراكه في عمليات الكتابة والقراءة، ويقدّم له بعض الخيوط ليدخل بها إلى عمق الحدث، ثمّ يدهشه بتقديم شخصيات جديدة تحلّ محلّ السابقة بطريقة غير متوقّعة.

وتعتبر رواية "الشعلة الخفية للملكة لوانا" للإيطاليّ أمبرتو إيكو (ترجمة معاوية عبد المجيد، دار الكتاب الجديد، الرياض، ٢٠٢٠) واحدة من الروايات المهمّة التي تتّسم بحبكة معقدة وشائقة تستحقّ التوقّف عندها. يغرق إيكو روايته بالتفاصيل التي تحتاج من قارئه إلى كثير من الصبر لاكتشاف الألغاز وجماليات الكتابة الروائية عنده.

يقدّم إيكو في روايته العديد من الشخصيات الرئيسة المثيرة والمميزة، ويقدّم وصفاً لكل شخصية ويرتحل في توصيف دواخلها، ما يساعد في تطوير الأحداث وإثارة انتباه القارئ، ويعدّ تنوّع الشخصيات وتعمّقها من العوامل الأساسية التي تجعل هذه الرواية مثيرة ولافتة للانتباه، إذ لا يسلّم إيكو أسرار حبكته وكتابته ببساطة، بل يترك البعض من النقاط العالقة والمفتوحة في الرواية، ما يثير فضول القارئ ويجعله يرغب في المزيد من الإجابات التي يدفعه للبحث عنها بنفسه. ومن شأن ذلك أن يترك القراء في حالة ترقب وسعي لمعرفة كيف ستتطوّر الأحداث وكيف ستكون المفاجآت لاحقاً.

وتظهر أهميتها بوضوح كبير في هندسة الرواية وجذب انتباه القارئ وإبقائه مهتمّاً بالقصة، وتساهم في إيصال رسالة الرواية بشكل أفضل وأكثر فعالية. وعلى الرغم من أنه يمكن للكتّاب إبداع روايات مميّزة من دون الاعتماد على حبكة معقدة، إلا أن الحبكة تظلّ عنصراً لا غنى عنه في تشكيل تجربة القراءة وإثارة انتباه الجمهور. لذا، لابدّ على الأدباء الاهتمام ببناء حبكات متناغمة تساهم في ترك أثر عميق في عقول القراء ونفوسهم.


    المصادر و المراجع
  • [1] ص137، (ترجمة صبري محمد حسن، الجمهورية، القاهرة، ٢٠٠٩).
  • [2] ص348، (ترجمة صالح علماني، دار المدى، دمشق، ٢٠٠٥م).