الرّواية: الجنس الأكثر قراءةً في دنيا العرب

سفيان البرَّاق

قد يتبرَّمُ أحدهم من هذا الحكم الوارد في العنوان، ويتقدّم ليُفنّد هذا الزعم بأطروحةٍ مفادها أنّ عادة القراءة قد نال منها البوار، ولفّها الكسادُ في الثقافة العربية، ولم يحافظ عليها إلّا النّزر اليسير من الناس؛ إذ إنّ الغالبية تجنحُ إلى مشاهدة الصورة، والنزوع إلى الفيديوهات المختصرة التي تنضوي على تلاخيص الكتب في شكل كبسولاتٍ في غاية الاختزال، كما أنّ طائفةً كبيرة من القرّاء في زمننا هذا انتقلوا من الكتاب "الورقي" إلى نظيره "الرقمي"، وما لبثوا أن دشّنوا عهدًا جديدًا يُسمّى بـ "الكتب الصوتية"، التي عادةً ما تُنشر على شكل حلقاتٍ مسجلة يُمكن للمرء سماعها وهو يُزاول أيّ شيء ليُقوِّضَ بذلك مداميك القراءة: استدعاء الانتباه، القدرة على الالتقاط، صفاء الذهن، راحة السريرة، الصبر والجلد على الجلوس والمطالعة، القدرة على التفكير والتحليل والتفاعل مع المقروء، الاستطاعة على الانعزال وتلافي الملاهي التي تُبيد التركيز وتغتال الانتباه.

لا نماري في أنّ ما ذُكِر قد عمّ حياتنا، والواقع كفيلٌ بتأكيد بذلك، غير أننا نُجانب الصواب إذا عمّمنا هذا الادعاء على الجميع؛ ففي كلّ مجتمع، وفي كلّ سياقٍ تاريخي، لا بد وأنْ نجد لفيفًا من النّاس يصنعون الاستثناء، وينحون منحًى مخالفًا لما يسري، لأنّ البشر أطيافٌ وأخياف، ونفس الأمر ينطبقُ على عادة القراءة. ويمكن ضربُ مثالٍ على الحضور القويّ لعادة القراءة في دنيا العرب، رغم المثالب التي رافقت ذيوع التقنية وفشوّها؛ إذ ما تركت حقلًا ولم تمسسه ولم تؤثر فيه، وهذا الحضور الذي يجعل لمعانَ القراءة عندنا لا يخبو، ولو بنسبةٍ أقل، يتمظهر، على سبيل التمثيل لا الحصر، من خلال المكانة التي تعتليها الرّواية في العالم العربي الآن.

صحيحٌ أنّ منسوب القرَّاءِ في العالم العربي ضئيل؛ إذ إنّ عدد الكتب المنشورة سنويًا في العالم العربي لا يتجاوز 1650 كتابًا فقط [1]، وهو رقم منخفضٌ نسبيا، خاصة إذا ما قورن بشغف العربي القديم بالقراءة وتعلقه بها. ويكفي هنا أن نضرب المثال بثلاثة نماذج تنمُّ عن المنزلة المائزة التي سَعِدت بها القراءة عند العرب القدامى: أولُ هذه النماذجُ هو صاحب المصنَّف الرّحيب "فقه اللغة" أبو منصور الثعالبي الذي كان ينهمكُ في القراءة طوال اليوم إلى أن بلغ به ذلك مبلغَ أنْ غَدَا يأكلُ من الصحن بيُمناه نظيرتها تُمسك بالكتاب [2] من شدّة الشّغف والولهِ بالقراءة والتحصيل. وثاني هذه النماذج يتجسّد في شخصية الصوفي عبد الله بن عبد العزيز الذي تزهّد وسكن المقابر، فسئل عن ذلك (...) فقال: لم أرَ أوعظ من قبرٍ، ولا آنس من كتاب، ولا أسلم من وحدة"[3]، وتجربة هذا المتصوِّف هي إنباءٌ عن المرتبة التي نالتها القراءة عند الأسلاف؛ حيث تأرجحت بين العشق والتقديس، بين الصبر والتعلق الجارف وذلك يتبدّى بجلاء من خلال مطالعتهم في أماكن قد لا تخامر عقلَ عاقلٍ في راهننا أن يُقيم فيها ويسامر الكتب بحنوٍ مفرط، ولنا في هذه الطرف مثالٌ عن ذلك. وثالثها يتمظهر في بعض من تقلَّدوا مهمة السّهر على شؤون رعيتهم قد جمعتهم بالقراءة والكتاب وشائجٌ لم تغيرها الأيام، ولم تلههم عنها زواريب الحياة، بل الأعجب من ذلك أنّ انشغالهم بتدبير شؤون رعيّتهم وما يستوجب ذلك من فراسةٍ وحذرٍ ويقظة، لم يُفلح في إحداث شرخٍ في هذه العلاقة المتماسكة المبنيّة على التقديس والحبّ. ورد في كتاب القيرواني المكنّى بعنوان: "زهر الآداب وثمر الألباب" أنّ "الرشيد قد دخل على المأمون وهو ينظرُ في كتابٍ، فقال: ما هذا؟ فقال: كتابٌ يشحذُ الفكرة ويُحسنُ العِشرة. فقال الحمد لله الذي رزقني من يرى بعين قلبه أكثر ممّا يرى بعين جسمه"[4]. بماذا يُعقِّب المرء حينما يُمعن النّظر في العلاقة الوثيقة التي جمعت القدامى بالقراءة ويُقارنها بما يمور به واقعنا، على الأرجح إنّ المقارنة لا تستقيم، حيث إنّ النزوع إليها هو تقويضٌ لهذا الوميض القليل الذي لم يخبو لحد الآن. ومن ثمّة فإنّ القراءة لازال لها أتباعٌ ومريدون، وقراءٌ يحتفون بها ويفخمونها متى سنحت لهم الفرصة، ولعلّ المبادرات المُحفزة التي أخذت تتنامى في العالم العربي، خلال العقد المنصرم، هي نموذجٌ حسيبٌ عن ذلك، وفي طليعتها مبادرة "إثراء القراءة-أقرأ" بالمملكة العربية السعودية، التي أخذت على عاتقها إعادة الاعتبار لعادة القراءة، والاحتفاء بالقراء النوعيين، وإلقاء الضوء عليهم.

يتّضح هذا الاستثناء بشكلٍ أكبر من خلال الجوائز المرموقة التي تنامت بشكل كبير جدًا في رقعة العرب خلال العقد ونصف العقد المتخلّي، وما كان ذلك ليتمّ لولا النّسق القرائي المحمود لدى القرّاء العرب، رغم قِلّتهم. وهذا التنامي أفضى إلى منافسة شرسة، قمينة بالتأمل والاهتمام، بين الكُتّاب من مختلف المشارب الفكرية والخلفيات الثقافية، على الجوائز الأدبية، وهذا ما جعل القارئ العربي يُطالعُ نصوصًا قويّة، باذخة،واعية بالفن الرّوائي، جامعة بين الأصالة العربية وروح الرّواية العالمية، كتبت بتفنّن في انتقاء المواضيع ومفاجأة القارئ بها، واستثمار التقنيات الحديثة التي قدّمتها الرّواية الجديدة القاطعة مع نظيرتها الكلاسيكية التي متحها الكُتّاب من التجارب الأدبية العالمية. إنّ الجوائز هي شيءٌ محمودٌ جدًا، إذ أسهمت في بروز كُتّاب امتلكوا مقاليد الكتابة الإبداعية، وأثروا المكتبة العربية بنصوصٍ متميزة، ولولا الجوائز لظلّوا حبيسي الكواليس دون أن تنيرهم أضواء منصات التتويج. وفي معرض الحديث عن الجوائز وتعظيم محاسنها، وصرف النّظر عن "بعض مساوئها"، نجد أن صنف الرواية يحتلُّ الريادة في الجوائز مقارنة بباقي صنوف الإبداع: الشعر، القصة، المسرح.

تعدُّ الرّواية من أرقى الأجناس التعبيرية التي ابتدعها الإنسان الحديث في أواخر القرن الثامن عشر بعد نشوء المدن الحديثة وما أعقبها من تحولاتٍ نوعية، ولطالما وجدها الكائن البشري، أي الرواية، مرتعًا مناسبًا يُترجمُ فيها شواغله وآماله، رغم متحها من التخييل، بيد أنّها ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا بالواقع، ولا تخرج عنه في جميع الأحوال؛ إذ إنّ الروائي يحتمي بأحابيل اللغة، ويتوارى خلف الترميز والإلغاز والتلميح العابر والسريع، ويتقمص أدوارًا مختلقة من خلال شخوصه، كلّ ذلك بغية خدمة الواقع، والكشف عن قضاياه، وتعرية المقموع والمطمور في المجتمع، والكشف عن الهموم التي تخنق الفرد فيه، والإبانة عن التطلعات التي تساوره، ومن ثمة فإنّ الرواية ليست ترفًا، أو عالمًا يروّح عن النفس الكسيرة، المثقلة، التائقة إلى شيءٍ يُضمّد جراحها الغائرة، بل إنّها جاءت لخدمة الواقع بالدرجة الأولى، وهذه إحدى رهانات الرّواية الجادّة.

إنّ هذه الحظوة المائزة التي تتمتّع بها الرّواية، مقارنةً بالفنون التعبيرية الأخرى كالشّعر والقصّة والتشكيل والموسيقى وغيرها، راجعةٌ أيضًا إلى اتّسامها بالسّعة، وهذا يجعلها تحتضنُ أجناساً أدبية أخرى كالشِّعر والخاطرة، فضلًا عن قدرتها الهائلة على الانفتاح على حقولٍ معرفية أخرى والانغمار فيها من قبيل: الفلسفة، علم النّفس، السوسيولوجيا، التاريخ، السياسة... إلخ. نتبيّن من كلّ هذا أنّ الرواية والواقع الاجتماعي للفرد مترادفين، ولا يمكنُ فصل أحدهما عن الآخر رغم طغيان عنصر التخييل الذي يسافر بالقارئ إلى عوالم تتعدّى المنطق والواقع، لكن الأصل في ذلك هو ترجمة ما ينضح به الواقع من خلال أحداثها وشخوصها المتعارضة، وفضاءاتها المترامية، ومعمارها السّرديّ. وتزكيّة لهذا الزعم نقرأ للكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت: "إنّ كلّ روائي، حين يشرعُ في الكِتابة، ينطلقُ من هذا الواقع المعروف في فترةٍ مُعيّنة، والذي تصوغهُ إسهامات الرّوائيين الذين سبقوه؛ ولأجل ذلك، هو لا يحتاجُ إلى قراءة كلّ الرّوايات، لأنّ الواقع الذي يكتنفهُ يمورُ بالأحداث التي تصوِّرها هذه الرّوايات"[5].

إنّ تفرُّد الرّواية بهذه السّمات منحها التفوُّق على الأجناس الأدبية الأخرى، ولو لم تحظَ بمقروئية عالية لما تكاثرت الجوائز التي تمجّدها وتحتفي بها، وأذكر في هذا المضمار على سبيل التمثيل لا الحصر: جائزة القلم الذّهبي، جائزة كتارا للرواية، جائزة البوكر للرواية العربية، جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، جائزة نجيب محفوظ... إلخ. وأدرج في هذا السياق مثالًا حيًا عن إيلاء كل الاهتمام للرواية ويتمثلُ في جائزة المغرب للكِتاب؛ إذ دأبت الوزارة الوصية على منح هذه الجائزة، في صنف السّرد، للأعمال الرّوائية فقط[6]. كما أنّ الحقل النّقدي بات أكثر اهتمامًا بالرّواية أكثر من أيّ وقتٍ مضى؛ إذ إنّ الدراسات النّقدية الرّصينة التي تصدر الآن، جميعها، تقريبًا، تتصدّى للأعمال الرّوائية [7]، بل حتى الدراسات الأكاديمية في الجامعات العربية تعتني عنايةً فائقة بجنس الرّواية دون غيره. كما أنّها تمكّنت، إلى حدٍّ ما، من تعويض الحقل الفرجوي: السينما، المسرح، التليفزيون، وأضحت ملاذًا رسميًا للقارئ، لأنّها تجمع كلّ هذه الحقول في قالبٍ سرديّ، ليجد القارئ نفسه، وهو يُطالعها، يبني تخيلاتٍ وتمثلاتٍ تجعل أفق الخيال عنده أرحب وأوسع، دون إغفال قدرتها على مواكبة التحولات التي تشهدها الحياة، والتصدّي لمختلف القضايا الراهنة، واحتفاؤها بكلّ معاني النّبل والجمال، وذلك بُغية الانتصار للإنسان في المقام الأول. يقول الروائي الإسباني خافيير غارسيا سانشيز في هذا الباب: "أكتبُ الرّواية لأنه على الرغم من كلّ شيءٍ ما زال عندي إيمانٌ أعمى بالجمال، بالكرم، بالابتسامة (...) ما زلتُ أؤمنُ بالأشياء وبالقضايا الحميدة، التي تُكرّم الإنسانيّة"[8]. أجدُ أنّ هذه الإشارات السّريعة تؤكّد، بوضوحٍ تامٍّ، العوامل التي أدّت إلى انتعاش مقروئية الرّواية العربية، والحظوة التي تسعدُ بها رغم سوء حال القراءة وتراجع نسبة أتباعها، غير أنّ من صنعوا الاستثناء استماتوا في الذود عنها دون تأفف من ذلك.