الأدب والاكتئاب

سارة سليم

قرأت في وقت مضى كتاب (الأدب والارتياب) للمفكر المغربي (عبد الفتاح كيليطو)، واقتحم مجددًا هذا العنوان مجال تفكيري أثناء قراءة رواية (كل أحزاني الضّئيلة) للكاتبة الكندية (مريام تيفز)، إذ تساءلت ماذا لو استبدلنا الارتياب بالاكتئاب؟ أي حين تسردُ الرواية سيرةَ الاكتئاب من وجهة نظر الأدب بعيدًا عن نظريات علم النفس، إذ يرى الكثير منا أن الاكتئاب له علاقة بالصدمات التي نتعرض لها، وأعتقد أن حقيقة الاكتئاب لا تنتج مما نعانيه بشكل مباشر؛ بل تتراكم نتيجة ما نراه حولنا من تفاصيل لا نعيرها انتباهًا، لكنها تشكّل بطريقة ما أحزاننا الصغيرة التي -على قدر ضآلتها- تتحول إلى اكتئاب لا يمكن الخلاص منه بسهولة. فالذي يتأثر بألمه الشخصي لا يمتلك رفاهية الاكتئاب، لكن الذي يعيش آلام غيره، آلامًا لا يمكن أن يساعد في تغييرها وتشعره بالتقصير والعجز؛ يمتلك مع الوقت المقدرة على مراكمة الألم، وعلى لوم نفسه حتى في أهم لحظات حياته سعادةً ونجاحًا، لأنه ينظر لسعادته الشخصية من منظور ما يحدث لغيره. هنا، قد تتحول الانتصارات الشخصية إلى اكتئاب.

لا أدري إن كان هناك ما يبرر هذه المشاعر من وجهة نظر علم النفس، أو أنها حالات تصيب البعض لأن إنسانيتهم عالية وحساسيتهم مرهفة، أو أن الاكتئاب له أسباب كثيرة، منها ما هو وراثي كذلك الذي يؤدي في الغالب إلى الانتحار.

لكن رواية (كل أحزاني الضّئيلة) سردت وجوه الاكتئاب من وجهة نظر الأدب انطلاقًا من تجربة شخصية مع هذا المرض رغم تفاوت النظر والأسباب؛ إذ عانت الكاتبة تجربة اكتئاب والدها وأختها التي دفعت بهما إلى الانتحار. والعنوان مقتبس من قصيدة للشاعر الإنجليزي (صموئيل تايلور كولريدج) حيث يقول:

"أنا أيضًا كانت لي أخت،
أخت وحيدة،
كانت تحبني كثيرًا،
وكنت أحبها أيضًا!
إليها سكبت كل أحزاني الضئيلة".

جاءت الرواية على لسان (يولي) الأخت الصغرى التي قد نراها من وجهة نظر الواقع شخصية غير ناجحة؛ إذ تكتب روايات للفتيان، لكنها لم تحقق الشهرة التي يتمناها أي كاتب، وهي على المستوى الشخصي فشلت في تأسيس علاقات دائمة. لديها ابنان من زوجين مختلفين، لكنها تسير ضمن هذا الخط من النحس بوتيرة صحية، في حين حققت أختها الكبرى (إلف) ما حلمت به من شهرة واسعة في مجال الموسيقى، وثمة رجل في حياتها يحبها، ولديها كل ما يجعل الحياة ضربًا من السعادة واليسر، لكن ما روته أختها (يولي) مختلف عن العادي، ذلك أن (إلف) تعرَّضتْ لاكتئاب حادٍّ أوصلها إلى الانتحار؛ فلم يمنعها ترف العيش ولا حب الفنون من توغل فكرة الانتحار في رأسها، رغم أنَّ الأختين مثقفتان، ويظهر ذلك في كمية النصوص العالمية التي نثرتها الكاتبة في روايتها كي تبيِّنَ مدى اهتمام العائلة بالأدب، تقول: "إننا أشخاصٌ يهتمون بالكلمات فحسب". ثم تضيف: "إننا أسرة مؤلفة من الكلمات". وتقول: "إن الكتب هي ما ينقذنا، والكتب هي ما لا ينقذنا"، فهل تنقذنا الكتب فعلًا من أحوالنا المتعددة؟

كما وردت في الرواية التفاتة إلى تورّط المكان ببثّ الكآبة، فترى (مريام تيفز) من خلال يولي أنَّ هناك مدنًا تحمل دائمًا لمسة اكتئاب، ولم يستطع جمال عمرانها ولا إطلالاتها الفاتنة إخفاء ذلك، تشعر فيها وكأنك على مقربة من معارك، من دماء تلاحقك في كل مكان، وقد ضربت مثالًا عن حزن المدن بـ (بودابست) عاصمة المجر فقالت: "إنه يحب بودابست لجمالها وأناقتها، وطابعها المتداعي المتفسخ، ولجرأتها وحزنها، لكن عند قضائه وقتًا طويلًا بها، كان كل شيء يصيبه بالاكتئاب".

ومن زار (بودابست) أو عاش بها ينبهر بجمالها، لكن في الوقت ذاته تلاحقه فيها كآبة لا يجد لها تفسيرًا إذا استقر بها طويلًا. سمعتُ قبل أيام أنهم عثروا في (بودابست) على قنبلة من الحرب العالمية الثانية تحت أحد جسورها، وبسبب ذلك شُلَّ السير في المدينة؛ فهل تحسّ المدن بذلك وتنفّرنا منها بإنذارات الكآبة؟

بينما هناك مدن رغم كل شيء لا يصيبها الاكتئاب؛ فهي غارقة بالحياة حدَّ عدم الاكتراث للألم، كأنَّ المدن مثل البشر؛ تحزن وتكتئب تفرح وتنتصر للحياة أيضًا. تطرقت (مريام تيفز) كذلك إلى عامل الوراثة، وكيف يرث البعض الاكتئاب جيلًا بعد جيل، وضربت مثلًا عن ذلك طائفة (المينونايت) التي تنتمي إليها الأختان، تتساءل (يولي): "هل المينونايت شعبٌ مكتئبٌ، أم أننا نحن فقط المصابون بالاكتئاب؟".

تعيش هذه الطائفة في كندا بمنأى عن عالمنا هذا، وكأنها فئة خارجة عن الزمن، شعب منعزل، يحيا بطريقته الخاصة، ويفرض -بحسب الرواية- شكلًا من أشكال التزمُّت الذي يجعل الحياة صعبة على نحو مريب، وفيما يبدو أن هذه الطائفة تعيش حالة دائمة من الاكتئاب الذي أصبح ينتقل بين أفرادها تلقائيًّا دون وجود سبب يدعو لذلك، مثله مثل الجنون الذي قد يكون وراثيًا أيضًا، حتى وإن غادروها إلى الأبد، وكأن الكآبة تنتقل من خلال لغتهم، ولهذا فإن (يولي) تقول: "لا تُعلِّما أطفالكما لغة البلاوتديتش، إذا كنتما تريدان لهم النجاة".

كما تخبرنا (يولي) عن والدتها: "ذهبت إلى الجامعة كي تصبح معالجة، تعلمتْ أنه على الرغم من أن المعاناة قد تكون حدثت منذ فترة طويلة، فإنها تنتقل من جيلٍ إلى التالي، مثلما تنتقل المرونة، أو الجمال، أو عسر القراءة. كان لجدي عينان خضراوان واسعتان، تدور فيهما طوال الوقت مشاهد خافتة من المذابح، والدماء المختلطة بالثلوج، حتى حينما كان يبتسم".

قد تتضح من خلال هذا الاقتباس فكرة الرواية حيث تدور في مجملها حول المعاناة التي لا تنتهي بزوال مسبباتها، بل تستقر عميقًا في الداخل وتتحول في أفضل الأحوال إلى اكتئاب يدفع للانتحار، أو بذرة جنون لا يمكن الخلاص منها. ولعل هذا ما نستنتجه من رواية «كل أحزاني الضّئيلة» وعلاقة الأختين ببعض من مراهقتهما إلى تأسيس كل واحدة منهما عائلة بمنأى عن الأخرى، وكذلك علاقتهما بوالدهما الذي تأثر أيضًا بالاكتئاب على الرغم من شخصيته الهادئة: "كان رجلًا غريب الأطوار، هادئًا، يميل إلى الاكتئاب، ومجتهدًا في الدراسة، يذهب للتمشية في الريف لمسافة تبلغ عشرة أميال، ويؤمن بأن القراءة والكتابة والمنطق هم الطريق إلى الجنة".

قد يكون الاكتئاب حالة وراثية وليس شيئًا وليد الظروف، ويرسخ دعائمه بالآلام وإن بدت ضئيلة، كما لا يمكن التعامل مع المصابين به ضمن ما نعرفه عن المرض من زاويتنا الخاصة، بل علينا التعامل معه وفق مجال الرؤية الأوسع؛ فليس كل من حقق ذاته ونجح بمعاييرنا الخاصة لا حقّ له بالاكتئاب، أو نبخس حظه من الوجع لجهلنا بالكيفية التي يتألم بها. إنَّ للألم خصوصية لا يعرفها إلاّ أصحابها، وكأنها تحتوي على رمز سري يخصهم وحدهم، قد تنصهر أوجاع البعض ضمن الحزن العام لكنها لا تموت، أو تعاود الظهور حين تكون الأجواء ملائمة لإظهار أوجاعنا الخاصة. في المقابل تصبح الأوجاع العامة التي جربها من عانى الحروب، حياة خاصة يعيشها كل واحد بمقدار خسارته بمجرد انتهاء الحرب.

الأمر نفسه قد يحدث مع الألم الذي لا نعرف عنه شيئًا، لذا مهما اعتقدنا أننا نعرف ماهية الاكتئاب ومسبباته فإننا نجهل تمامًا كيف يدخل حياة البعض، وهذا السؤال الذي ربما طرحته (يولي) عن الأسباب التي جعلت أختها ووالدها ينتحران وهما يحملان قدرًا كبيرًا من الوعي والثقافة؛ إذ تحاول (يولي) أن تفهم لماذا لم تتمسك أختها بالحياة برغم ما تملكه، ولماذا لم تحز هي شخصيًا على المزايا التي حصلت عليها أختها مع أنها متمسكة بالحياة ومتشبثة بها؟

ورغم ذلك يبقى أجمل ما في هذا النص الإنسانيّ حديثه عن الرابطة القوية التي جمعت الأختين ببعضهما؛ إذ تحاول (يولي) قدر الإمكان مساعدة أختها على تجاوز ألمها وعدم خسارة نفسها.

الكاتبة في هذه الرواية تمزج بين السيرة الذاتية والكتابة الروائية، وتعطي درسًا في عدم تقبل الخسائر، وفي الوقت ذاته تذكِّرُ الإنسان بعدم خسارة نفسه لأنه يُعتبر من وجهة نظر المجتمع شخصًا فاشلًا، من خلال وجهة نظر (يولي) التي نجحت في الحفاظ على القيمة العظمى في الحياة، وهي الحياة نفسها.

ولا تكتمل الأعمال الجيدة إلاّ بالترجمات الجيدة؛ ذلك أنَّ الترجمة الجيدة هي مستقبل النص في لغات أخرى، وفي رواية (كل أحزاني الضّئيلة) -التي صدرت مترجمةً عن دار آفاق للنشر والتوزيع 2023- نقلت المترجمة المصرية (إيناس التركي) النص بحرفية عالية؛ إذ تظهر لمستها الخاصة في كل النصوص التي ترجمتها، لمسة لا تستند على الموهبة وإجادة اللغتين الإنجليزية والعربية فقط، إنما إلى الاجتهاد الذي نلحظه في ترجماتها، ذلك أن أي نص مهما كان بسيطًا يتطلب قراءات موازية.