الاحتفاء بالإبل في الشعر العربي بين الفصيح و الشعبي

فايز بن ذياب الشمري

إن الحديث عن الإبل حديث متشعب بطبيعته، فكما هي ركن متين للثقافة العربية كون الكثير من كلمات اللغة العربية مأخوذة من وصف الإبل وما يحيط بها؛ فإننا نجدها أيضًا تمثل نقطة استقطاب داخل المجتمع العربي قديمًا وحديثًا، وليس أدل على ذلك من كثرة ورودها في أمثال العرب وأشعارهم وحكاياتهم.

إن حضور الإبل في ثقافة العربي عمومًا وعرب الجزيرة العربية خصوصًا ما هو إلا شكل من أشكال الامتنان لله سبحانه وتعالى أن سخّر هذا الكائن الضخم الذي مكّن الإنسان القديم من اقتحام أهوال الصحراء واكتشاف مجاهلها، ومن ثم استيطانها وبناء حضارته فيها. شأنها في ذلك شأن الفُلك في البحر المسخّرة للإنسان التي بها وصل إلى الكشف عن الطرف الآخر من المعمورة. وعطفًا على ذلك، يمكن القول بأن العبارة الشهيرة القائلة: (الجمل سفينة الصحراء)؛ إنما هي عبارة قيلت على الحقيقة لا المجاز، فكل ما ينطبق على السفينة في البحر حقيقةً ينطبق على الإبل في الصحراء حقيقةً (معلقة طرفة بن العبد أنموذجًا).

وهذا مبحث من مباحث الإبل يطول الحديث عنه، وليس هذا مقامه، ولكنني لجأت إليه لأُبين مكانة الإبل في نفوس العرب وأبسط الحديث عن موضوع المقالة، ولعلي في البداية أن أمهّد بالحديث عن كلمة (احتفاء) في صدر العنوان، فالاحتفاء -بحسب المعاجم- هو: السير حافي القدمين. ومن ذلك أن العربي قديمًا يخرج حافي القدمين فرحًا بمقدم ضيفه، فيستقبله وهو على هذه الحالة وكأنه يقول: إن فرحي بمقدمك أنساني لبس نعلي فلست آبه بحرارة الأرض أو برودتها. ومن هذا كله وغيره جاء التعبير للدلالة على الإكرام والمبالغة فيها (ما تزال هذه العادة موجودة في بعض أحياء العرب حتى يومنا هذا).

ولمكانة الإبل عند العرب قديمًا وحديثًا فإن حضورها في أدبهم كان حضور المحتفى به فعلًا؛ فهي تحضر مقترنة بالبطولات والأمجاد ومكارم الأخلاق وغير ذلك من المعاني الشريفة، ولكني أخصصها للحديث عن تشبيه الإبل بالحيوان في الشعر الفصيح والشعبي، محاولًا إبراز التشبيهات الأكثر حضورًا في ذهن الشاعر العربي.

1. تشبيه الناقة بالنعام: (السرعة)

شبه الشاعر العربي الناقة بطائر النعام من أوجه عدة، لعل أبرزها وأكثرها حضورًا هو ما تعلق بالسرعة، فنجده مثلًا يثني على ناقته بالسرعة الوثابة فيشبهها بذكر النعام (الظليم) الذي كان لاهيًا في مرعى خصيب ثم ما تلبث أن تتلبد السماء بالغيوم وتبدأ بوادر المطر، فيتذكر ذلك الطائر بيضه وزوجته؛ فيفزع من حينه. يقول (علقمة بن عبدة الفحل) واصفًا ناقته مشبهًا بالنعام:

كَأَنَّها خاضِبٌ زُعرٌ قَوائِمُهُ

َجنى لَهُ بِاللِوى شَريٌ وَتَنّومُ

يَظَلُّ في الحَنظَلِ الخُطبانِ يَنقُفُهُ

وَما اِستَطَفَّ مِنَ التَنّومِ مَخذومُ

فوهٌ كَشَقِّ العَصا لَأياً تُبَيَّنُّهُ

أَسَكُّ ما يَسمَعُ الأَصواتَ مَصلومُ

حَتّى تَذَكَّرَ بيضاتٍ وَهيَّجَهُ

يَومُ رَذاذٍ عَلَيهِ الريحُ مَغيومُ

فَلا تَزَيُّدُهُ في مَشيِهِ نَفِقٌ

وَلا الزَفيفُ دُوَينَ الشَدِّ مَسؤومُ

يَكادُ مَنسِمُهُ يَختَلُّ مُقلَتَهُ

كَأَنَّهُ حاذِرٌ لِلنَخسِ مَشهومُ

يَأوي إِلى خُرَّقٍ زُعرٍ قَوادِمُها

كَأَنَّهُنَّ إِذا بَرَّكنَ جُرثومُ

وَضّاعَةٌ كَعِصِيِّ الشَرعِ جُؤجُؤُهُ

كَأَنَّهُ بِتَناهي الرَوضِ عُلجومُ

حَتّى تَلافى وَقَرنُ الشَمسِ مُرتَفِعٌ

أُدِحَيَّ عِرسَينِ فيهِ البيضُ مَركومُ

يوحي إِلَيها بِإِنقاضٍ وَنَقنَقَةٍ

كَما تَراطَنُ في أَفدانِها الرومُ

صَعلٌ كَأَنَّ جَناحَيهِ وَجُؤجُؤَهُ

بَيتٌ أَطافَت بِهِ خَرقاءُ مَهجومُ

تَحُفُّهُ هِقلَةٌ سَطعاءُ خاضِعَةٌ

تُجيبُهُ بِزِمارٍ فيهِ تَرنيمُ

هذا التشبيه الاستطرادي الذي لجأ إليه الشاعر كان مرده أمرين: الأول سرعة النعام بطبيعته الخلقية وصفاته الطبيعية، والثاني أن القصة التي أوردها الشاعر للنعام في لحظة تذكره وانطلاقه هي دافع لمضاعفة سرعته في العدو، وبالتالي فإنه يجمع السرعة الطبيعية مضافًا إليها السرعة التي مبعثها الخوف، ثم يصبها جميعًا في سرعة ناقته التي يطمع أن تُلحِقه بركب محبوبته.

وعلى هذا المعنى جرى شعراء الشعر الشعبي، فهم كذلك يشبهون سرعة إبلهم بالنعام في حالة خوفه وهربه، فتكون سرعته مضاعفة كما ذكرنا، يقول (سعدون العواجي):

يا راكبٍ من عندنا فوق نسّاس

يشدا ظليمٍ جافلٍ مع خمايل

زين القفا ناب القرا مقعد الراس

ومعربٍ من ساس هجنٍ أصايل

ويقول (طلال بن فريج):

يا راكب من فوق عجل زفيفي

مامون قطّاع الفيافي عماني

يشبه نعام جافل من ذريفي

أول شكوك وتالي الزول باني

أقفى يومّي بالجناح الخفيفي

والريش شالنه ثنادي سماني

عليه من يوصل سلامي حليفي

عيّاد شوق مفلجات الثماني

إن التقاطع في المعاني قد استدعى كذلك التقاطع في المفردات، فمثلما قال (علقمة) "ولا الزفيف دوين الشد مسؤوم" قال (طلال) "يا راكب من فوق عجل زفيفي" والزفيف ضرب من المشي السريع، وهو من متعلقات الحيوانات على وجه العموم.

2. تشبيه الناقة بالبقر الوحشي (المها): (القوة)

إن ما تمثله الشعراء في توصيف سرعة الناقة وتشبيهها بسرعة النعام مماثل إلى حد ما في تشبيههم قوة البقر الوحشي (المها) بناقتهم، واستخدم الشعراء الصورة ذاتها المذكورة للنعام وأنزلوها للبقر الوحشي؛ فها هي بقرة وحشية تلهو في المرعى ثم تتنبه فجأة إلى فقدانها وليدها، فتنفر بسرعة باحثة عنه، فتجده وقد أكلته السباع، فتهرب إلى مكان آمن وتبيت سبع ليال، لكن الصيادين يتربصون بها فيرسلون كلابهم وراءها فتنشأ معركة بينها وبينهم، فيضافُ لها مع قوة البنية الخوفُ من الموت؛ فتزداد قوتها وتتضاعف وتستطيع بعد المعركة النجاة بعد أن طعنت بقرنها الكلاب.

يقول (لبيد بن ربيعة) في معلقته:

أَفَتِلكَ أَم وَحشِيَّةٌ مَسبوعَةٌ

خَذَلَت وَهادِيَةُ الصِوارِ قِوامُها

خَنساءُ ضَيَّعَتِ الفَريرَ فَلَم يَرِم

عُرضَ الشَقائِقِ طَوفُها وَبُغامُها

لِمُعَفَّرٍ قَهدٍ تَنازَعَ شِلوَهُ

غُبسٌ كَواسِبُ لا يُمَنُّ طَعامُها

صادَفنَ مِنها غِرَّةً فَأَصَبنَها

إِنَّ المَنايا لا تَطيشُ سِهامُها

باتَت وَأَسبَلَ واكِفٌ مِن ديمَةٍ

يُروي الخَمائِلَ دائِماً تَسجامُها

يَعلو طَريقَةَ مَتنِها مُتَواتِرٌ

في لَيلَةٍ كَفَرَ النُجومَ غَمامُها

تَجتافُ أَصلاً قالِصاً مُتَنَبِّذاً

بِعُجوبِ أَنقاءٍ يَميلُ هُيامُها

وَتُضيءُ في وَجهِ الظَلامُ مُنيرَةً

كَجُمانَةِ البَحرِيِّ سُلَّ نِظامُها

حَتّى إِذا اِنحَسَرَ الظَلامُ وَأَسفَرَت

بَكَرَت تَزُلُّ عَنِ الثَرى أَزلامُها

عَلِهَت تَرَدَّدُ في نِهاءِ صَعائِدٍ

سَبعاً تُؤاماً كامِلاً أَيّامُها

حَتّى إِذا يَئِسَت وَأَسحَقَ حالِقٌ

لَم يُبلِهِ إِرضاعُها وَفِطامُها

وَتَوَجَّسَت رِزَّ الأَنيسِ فَراعَها

عَن ظَهرِ غَيبٍ وَالأَنيسُ سَقامُها

فَغَدَت كِلا الفَرجَينِ تَحسَبُ أَنَّهُ

مَولى المَخافَةِ خَلفُها وَأَمامُها

حَتّى إِذا يَئِسَ الرُماةُ وَأَرسَلوا

غُضفاً دَواجِنَ قافِلاً أَعصامُها

فَلَحِقنَ وَاِعتَكَرَت لَها مَدرِيَّةٌ

كَالسَمهَرِيَّةِ حَدُّها وَتَمامُها

لِتَذودَهُنَّ وَأَيقَنَت إِن لَم تَذُد

أَن قَد أَحَمَّ مَعَ الحُتوفِ حِمامُها

فَتَقَصَّدَت مِنها كَسابِ فَضُرِّجَت

بِدَمٍ وَغودِرَ في المَكَرِّ سُخامُها

فَبِتِلكَ إِذ رَقَصَ اللَوامِعُ بِالضُحى

وَاِجتابَ أَردِيَةَ السَرابِ إِكامُها

أَقضي اللُبانَةَ لا أُفَرِّطُ ريبَةً

أَو أَن يَلومَ بِحاجَةٍ لُوّامُها

يستفيض الشعراء في تشبيهات مماثلة في الشعر العربي الفصيح القديم، ويلجؤون للتشبيه الاستطرادي تأكيدًا على المعنى، بيد أن الشعراء الشعبيين لم يسلكوا هذا الأسلوب من التشبيه -أعني الاستطرادي- إلا أنه استخدموا ذات الصورة الشعرية وذلك بتشبيه الناقة بالبقرة الوحشية والتي ترد في أشعارهم باسم (الوضيحي)، يقول الشاعر (معتق الزايدي):

يا راكب اللي ناعتينٍ هدادَه

يرعى ثمان سنين عشب المرابيع

خرجه متوبك زاهيٍ في شداده

ومكلّفٍ دشنه على كل توضيع

مثل الوضيحي وإن جفل من حماده

وإلا النداوي يوم ياخذ تناويع

وكذلك يقول (هجاج بن عيد) واصفًا قوة الإبل وسرعة انطلاقها يوم المعركة:

إلى اعتلوا مثل الوضيحي إلى ذار

لا عوّد الصياح يومي بشليله

وهذا شاعر آخر يصف ركوبه ويشبهه بالوضيحي، يقول:

يا راكبٍ حرٍ وضيحان منغاه

حرِّ منقى بالوصايف عجيبي

مثل الوضيحي لا جفل من معشاه

وشداده اللي بالزهر ما يصيبي

وغير ذلك من التوصيفات والتشبيهات التي تتقاطع إلى حد كبير إما مع الصورة ذاتها أو مع محيطها، ومرد هذا الأمر بطبيعة الحال هو البيئة المشتركة التي عاشها الإنسان العربي قديمًا وحديثًا، فالتضاريس نفسها، والحيوانات عينها، والأقاصيص والمرويات المتوارثة كذلك. وحتى لو فُقد شيء من التضاريس أو من الحيوان على أرض الواقع؛ إلا أنه باق في الإرث الثقافي عبر الأجيال.

إن الصور والتشبيهات التي توافق فيها الشعراء العرب القدماء والمحدثين كثيرة ومتعددة، لا سيما فيما يخص الإبل كونها ركيزةً ثقافيةً حاضرةً في ذهن الإنسان العربي.

إنَّ رحلتي أثناء البحث في هذا الموضوع قد سارت بي إلى القراءة في نشوء الأسطورة وتكوّنها، مما ألجأني إلى التساؤل: هل شكّل العقل العربي صورة أسطورية للإبل؟ وهل التشبيهات التي وردت في الشعر وغيره هي بوادر لبداية أسطرة الإبل في الثقافة العربية؟

وفي الحقيقة لم أجد إجابة مقنعة بعد -وإن كان البحث لم ينتهِ- ولكنني سأشارك مقاربتي التالية:

جنحت العقلية الغربية إلى إنتاج الأساطير لتفسير العديد من الظواهر الكونية، ومن تلك الأساطير أنتجت الميثولوجيا الإغريقية أسطورة الحصان المجنح (بيجاسوس)، فهو حصان طائر يرافق الأبطال الخارقين وتنبع من تحت قدميه ينابيع الإبداع التي ألهمت الشعراء. هكذا تقول أسطورته.

وفي المقابل ربما -أقول ربما- كان الخيال العربي يتهيأ لتشكيل أسطورته الخاصة من تكوين حيوان أسطوري مجموعٍ من حيوانات عدة، فها هو (امرؤ القيس) يصف حصانه في معلقته بأنه:

له أيطلا ظبي وساقا نعامة

وإرخاء سرحان وتقريب تتفلِ؟

هذا حصان (امرئ القيس)، وأما ناقة (طرَفة بن العبد) فقد شُك في عجُزها جناحا نسر عظيمان:

كأنّ جَناحَي مَضْرَحيٍّ تَكَنّفَا

حِفافيهِ شُكَّا في العَسيبِ بِمَسْرَدِ

وهذا (ثعلبةُ بن صعير المازني)، يصف الحمولة التي على ظهر ناقته وكأنها جناحا نعام نافر، يقول:

وكأنَّ عيبتَها وفضلَ فِتانِها

فننانِ من كَنَفي ظليمٍ نافرِ

والشواهد في ذلك متعددة، بعضها جلي وبعضها خفي.

وفي الشعر الشعبي الحديث لدينا بعير (تركي بن حميد) العجيب، فهو كائن قد تولّد عن تزاوج بعير بنعامة فجاء هذا البعير العجيب مزيجًا بين صفات النعام وصفات الإبل؛ فله خُفّ كخف البعير، وله جناح كالنعامة، ولا نعلم أيسير على أخفافه أم يطير بجناحيه، لكن الظاهر لنا أنه كائن سريع جدًا، يتنقل بين أماكن متباعدة في وقت وجيز، فها هو الشاعر يقول:

يا راكب اللي مايداني الصفيري

هميلع من نقوة الهجن سرساح

أمه نعامة واضربوها بعيري

جا مغلطاني على خف وجناح

عليه خرج من سلوك الحريري

وسفايفه مثل الغرابين طفاح

يسرح من الطايف ويمسي البصيري

والسوق والبصرة دهجهن بمرواح

مزهبك ياراعيه تمر ومضيري

واحذر تشب النار يجفل من الضاح

واليا ورد يشرب ثمانين بيري

غرافهن تسعين ودليهن ماح

رجليه بالحرة وصدره يسيري

ويشرب براسه من على جمه رماح

يا ويش هو شيٍ طويلٍ قصيري

يسبق زعاجيع الهوا يوم تنداح

إن الناظر المتفحص لهذه الأمثلة، لا يمكنه تجاهل هذه الصورة الأسطورية الكامنة في عقل الإنسان العربي، فبعيدًا عن المغزى أو المراد الذي قصده الشاعر من تلك الصور الشعرية أو التشبيهات، إلا أن قابلية العقل على هذا المخيال واستحسانه إياه -رغم غرابته- يعتبر مؤشرًا على جدارة المقاربة بالاستقصاء وإدامة النظر فيها.

وفي خمسينيات القرن الماضي حلّقت في سماء المملكة العربية السعودية طائرة اسمها (الجمل الطائر) كانت ضمن أسطول شركة أرامكو السعودية. إنّ تمظهرات الإبل هذه وغيرها في الحياة اليومية والثقافة والفكر ما هي إلا تأكيد على ما ذهبت إليه في مقاربتي.

وبعد، لعلي في نهاية هذه المقالة أن أختم على طريقة (التوحيدي) في (الإمتاع والمؤانسة) وأن آتي بقصة طريفة ذكرها (الجاحظ) في كتاب (الحيوان) تكون ملحةً للوداع: "قلت مرة لعبيد الكلابي وأظهرَ من حب الإبل والشغف بها ما دعاني إلى أن قلت له: أبينها وبينكم قرابة؟ قال: نعم خؤولة، إني والله ما أعني البخاتي ولكني أعني العراب التي هي أعرب. قلت له: مسخك الله تعالى بعيرًا. قال: الله لا يمسخ الإنسان على الكريم".