مراجعة لكتاب: السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع – محمد الداهي

سكينة بوشطاب

نلاحظ في العقود الأخيرة تزايد الاهتمام بمختلف ألوان الكتابة عن الذات في المجال السردي، وذلك بسبب التقدم التكنولوجي واتساع الهامش الديمقراطي؛ إذ نجد أنفسنا في القرن الواحد والعشرين أمام دراسة جادة حول الكتابة عن الذات نظرًا لأهميتها المنهجية والنقدية، وهي كتاب (السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع) للناقد المغربي (محمد الداهي)، باعتباره من مؤسسي الكتابة عن الذات، والمعروفين بمجال جديد وهو التخييل الذاتي. هذا التخييل الذي يروم الإمساك بمناطق حياتية لا تُرى، ولكنها ليست تخييلًا فقط، بل طاقات لم تتحرر أو تُكبت بشكل سليم، وبالتالي لا نتحدث في المحكي الذاتي عن فعل الذات فقط، بل نتحدث عما تود فعله وفشلت فيه، وهو الأمر الذي بينه الكاتب (سعيد بنكراد) الذي صدّر الكتاب، محاولًا الإشارة إلى بعض الأسس الأولية التي يقوم عليها وبيان مقصدية صاحبه منه والمتمثلة في العناصر الآتية:

- تبيان ما تتميز به المنطقة الملتبسة
- إبراز المواقع التي يشغلها قرناء الكاتب
- إبراز كيفية تمثيل الحقيقة بطرائق متعددة في سرد يشبه سلطة تدعي قول الحقيقة، وتحرم أصوات غيرها من سرديتها الخاصة بها.

ينقسم كتاب (السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع) إلى ثلاثة أقسام رئيسة وهي: المعرفة بالأثر، وجدارية ستندال، والمنطقة البينية. لكن قبل أن يلج الكاتب في الحديث عن هذه الأقسام استهل كتابه بمقدمة عامة، بين فيها كيف تحوّل همُ الدراسات التي تهتم بالكتابة عن الذات من إثبات التطابق بين الكتابة والواقع إلى الاهتمام بالتداخل القائم بين التخييل والواقع في المحكيات الذاتية، وفي هذا السياق أشار الكاتب إلى إغفال (أرسطو) لحالات التجاذب بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل عند تقسيمه لأنواع المحكيات. كما قد حدد من خلال مقدمته موضوع دراسته المتمثل في البحث في المناطق الوسطى بين التخييل والواقع، بالاحتكام إلى المواقع التي يشغلها الكاتب، وذلك من خلال اشتغاله على متن متنوع من المحكيات الذاتية، معتمدًا على خلفيات سيميائية، ومراهنًا على شعرية موسعة لاستخلاص نتائج ملموسة وقابلة للتعميم.

وبالنظر في "المعرفة بالأثر"؛ نجد الكاتب يتطرق إلى أحد أنماط السرد -وهو السرد التاريخي- الذي يتموضع ظاهريًا في الحد الأقصى بحكم مرجعيته المفرطة، وقد اتضح بعد تحليله لعينة من نصوص السير الذاتية والغيرية مدى ملاءمة اعتمادها وثائقَ تسلّط الأضواء على وقائع لا يعيرها المؤرخ اهتمامًا في مقابل الشعري. فـ "التعريف" لـ (ابن خلدون) شهادة حية على كل الأحداث التاريخية التي كانت في الفترة التي يروي عنها؛ وهذا ما يجعل هذه الأعمال تجمع بين التوثيق والإمتاع، إلا أن الكاتب في هذا السياق يثير الحديث حول آلة مهمة في استرجاع الأحداث وهي الذاكرة، وفي صميم هذا يتساءل أسئلة جوهرية من قبيل: كيف تستخدم الذاكرة؟ ولأي غاية؟

لم يعد اليوم الاهتمام بتاريخ الذاكرة وسياساتها بقوة الاهتمام بشعرية الذاكرة، أي دراسة الاختلالات التي يتركها الكاتب عند نقل ظواهر استذكارية وفهم طبيعتها ووظيفتها. وهو ما انسحب على قراءة (محمد الداهي) لمجموعة من المحكيات الذاتية التي تهم الصدمة الجماعية والتي من بينها "أوراق" لـ (عبد الله العروي)؛ بحيث أثار الحديث عن ورقة لم ينتبه النقاد إلى فحواها والتي تعرب عن أشياء مناقضة لما يروج له الخطابان التاريخي والإعلامي، وهي كون أن مسألة توسيع الهوة بين الملك (محمد الخامس) وشعبه لم تكن نتيجة دهاء الفرنسيين فقط، وإنما للمغاربة أيضًا يد في هذا الحدث. كما بين الكاتب أن الذاكرة أضحت أرشيفًا يختزن الجراح الحسية والمعنوية، وقد غدا هذا واضحًا عند كتاب المحكي الذاتي. فهذه (فدوى طوقان) تمثل للذاكرة الفلسطينية الجريحة من خلال مشروعها السيَري (رحلة جبلية رحلة صعبة)، و(الرحلة الأصعب). إذ تسترجع لنا صراع الأمة الفلسطينية مع القوى الاستعمارية، التي تحاول تدمير الهوية الفلسطينية واستلابها، وهذا ما ساق الكاتب للحديث عن هشاشة اللغة لبيان ما تخلفه المرحلة الاستعمارية من ألفاظ ما زال مفعولها قويًا وصادمًا بسبب استعمالها وترويجها في نفسية الذات والآخر على حد سواء، ومن هنا انطلق (محمد الداهي) يقدم ما يخفف هشاشة اللغة، على سبيل المثال:

- تدخل الشعوب المتنازعة لحسم النزاعات الاستذكارية بإقرار حقيقة ما وقع، وتقديم الاعتذار إلى المظلوم إن اقتضى الأمر ذلك.

- توخي الدقة في صياغة المفاهيم وترويجها حتى لا تثير البلبلة، وتوعية المواطن بالمفاهيم المضللة التي تبين أن الصدمة تعيش في اللغة وتنقل بواسطتها. أما القسم الثاني "جدارية ستندال"؛ فقد ركز الكاتب على سرد السير الذاتية، الذي يتماثل مع السرد التاريخي في الخصيصة المرجعية، إذ اعتمد في ذلك على متون سير ذاتية تبرز كيف تشخصت معالم المرجعية فيها، أهي صورة للواقع؟ أم مجرد أثر له؟ آتيًا بمجموع الشروط اللوجونية التي تؤسس لهذا الجنس، مثل: -التطابق: وهو تطابق بين السارد والشخصية الرئيسة والمؤلف، وقد أشار (محمد الداهي) إلى مستتبعات التطابق.

- ميثاق السير الذاتية: ويتجسد في إيحاء الكاتب من خلال العنوان إلى انتساب سرده إلى المجال المعيّن، وقد يصرح علنًا بانخراطه في هذا المجال ممثلًا لشروطه. - الميثاق المرجعي: تعهد الكاتب بقول الحقيقة وكأنه يقول: أقسم بأن أقول الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.

- ميثاق القراءة: وهو أثر تعاقدي يتغير بتغير التاريخ، إذ يرتبط بشروط التلقي والقراءة الفردية.

يتضح من هنا أن هذه المواثيق تثير معضلة الحقيقة، حرصًا على إزالة ما علق بها من غموض وشبهة، نظرًا لتعذر استرجاع الأحداث المنصرمة بحذافيرها، وهذا ما يشبه أمر تآكل جدارية ستندال التي تستدعي ذهنها وطلائها لمعالجة خرومها وتصدعاتها، وهو الأمر الذي ينسحب على محكي الطفولة لـ (ابن جلون) "في الطفولة"؛ فعند محاولته إعادة بناء عوالم الطفولة اعترضته عوائق لغموض عالم الطفولة، وتخلل سرده مجموعة من البياضات.

وهذا ما يفتح باب المزاوجة بين التخييل والمرجعية، ويصبح المحكي الذاتي في هذه الحالة يؤدي نسبيًا دور الرواية، وهو ما تتولد معه متغيرات جديدة تقاس بمعياريين، هما:

- احتمال الوقوع: يتردد القارئ في تصديق الوقائع المسرودة في العمل السيَري بحكم المفارقات التي تتخلله وتقربه من الرواية.

- قابلية التحقق: يتعذر على قارئ السيرة الذاتية أن تتاح له إمكانية التحقق من معطياتها ووقائعها، بدعوى أن السارد هو الشاهد الذي يسرد ما عاينه وعاشه، ومن ثمة يصعب الجزم بالتصديق أو التكذيب، إلا أن الكاتب في هذا السياق يوضح أن بعض الأعمال يمكن أن نتحقق منها لاعتمادها على الحجة البرهانية، وحرصها على مطابقة الواقع والصدع بالحقيقة.

وهذا أيضًا ما يبرر حضور المشترك البشري (الصرخة الأولى/ الرضاعة/ الفطام...) في كل من عمل (ابن جلون) في "في الطفولة"، وفي "الضريح" لـ (عبد الغني أبي العزم)، وأيضا في "البئر الأولى" لـ (جبرا إبراهيم جبرا).

وبالوقوف على هذا العمل الأخير نجد الكاتب يرصد تجليات الخصائص السيَرية فيه، ويبين كيف ينصاع السارد إلى ما يمليه عليه تخيله حرصًا على اللغة الشفافة التي تدعم مرجعية خطابه، وهذا ما جعل الكاتب يوكل المهمة للقارئ لموضعة المؤشر في مكانه المناسب (المرجعية/التخييل).

كما أشار الكاتب في سياق دراسته للأعمال المشار إليها سالفا وخاصة "الضريح" إلى ما يدعم الميثاق التخييلي ويوسع دائرته، وما يضيق نطاق الميثاق السيَري، وهو بهذا الصنيع يدرجها ضمن نصوص التخييل الذاتي.

أما بالنسبة للقسم الأخير "المنطقة البينية "، فقد خصصه لدراسة المنطقة الفاصلة بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، وهي الحالة التي تركها (فليب لوجون) شاغرة إلى أن أصدر (سيرج دبروفسكي) مؤلفه "الابن/الخيوط" تحت مفهوم جديد وهو التخييل الذاتي.

إن ما أثار انتباه الكاتب في عمل (سيرج دبروفسكي) -بالإضافة إلى التخيلات الذاتية التي قرأها- هو الحضور الرمزي للأم، ونجد الباحث يبدي ملاحظات في غاية الأهمية بخصوص التخييل الذاتي، نذكر منها:

- أن التخييل الذاتي بطابعه الديمقراطي ينفتح على الشخصيات العادية أو الخيالية عكس السيرة الذاتية التي هي حكر على الشخصيات البارزة.

- أن التخييل الذاتي يتميز بتخييل أحداث ووقائع حدثت، أما السيرة الذاتية تراهن على استنساخ نسخة أصلية للواقع.

وقد بين الكاتب أن (دبروفسكي) أرسى دعامات كتابة جديدة -أي التخييل الذاتي- معتمدًا لإعطاء الشرعية لعمله باعتباره تخييلًا ذاتيًا على:

- التوفيق بين المسعيين الروائي والسيَري، مما أدى إلى الهجنة وصعوبة التمييز بين التخييل والواقع في عمله.

- يحمل المؤلف-السارد-الشخصية الرئيسة الاسم نفسه، وما يميز كاتب السيرة الذاتية عن المتخيل الذاتي أن الأول يكلف مثيله لاسترجاع ماضيه الشخصي، في حين يفوض الثاني شخصية خيالية لسرد تجاربه في الحياة، وبالتوغل في عمل سير (دبروفسكي) يتضح أنه يكلف شخصًا آخرًا يلتبس بهويته لاستجماع ما عاشه من تجارب متفرقة.

وبانتقال (محمد الداهي) إلى "ستعيشين للأبد" لـ (أرنو جونو) بيّن كيف يعي السارد -بحكم تكوينه النقدي- التناقضَ الحاصل بين حرصه على سرد محكي الطفولة بأمانة، وبين سعيه إلى إضفاء التخييل على ما عاشه فعلًا، مدرجًا بذلك عمله ضمن التخييل الذاتي.

ويجدر بالذكر في هذا السياق أن (الداهي) لم يقتصر على استجلاء معالم التخييل الذاتي في الأعمال الأجنبية فقط، وإنما نجده يتحدث عن عملي (عبد القادر الشاوي) "دليل العنفوان" و"دليل المدى"، فبيّن كيف يمكن اعتبار العمل الأول سيرة تخييلية؛ انطلاقًا من وضع السارد وهو يستوحي الأحداث التي عاشها مسافةً بينه وبينها، مشككًا في صحة بعض ما رواه. كما وضح الكاتب أن العمل الثاني يجسد الاستراتيجية الجديدة لصاحبه والتي تقوم على تقنيات، منها:

- التقنع: بتلبّس شخصية خيالية مفترضة (سعد الملقب بكرينكو) للمزاوجة بين التخييل والواقع، وتوسيع هامش الحرية لفهم ما وقع في سنوات الجمر والرصاص وممارسة النقد الذاتي لتقييم ما وقع.

- النقد: من خلال وقائع متفرقة من الماضي الأليم محفوفة بالنقد والتعليق، ومساءلة الأوهام الأيديولوجية وأضاليلها مستعينًا بالمحاكاة الساخرة، ومن ثم الكشف عن المفارقات بين ما تستضمره الذات وما تظهره للعيان.

وفي السياق نفسه رصد الكاتب معالم التخييل الذاتي في أعمال (أحمد المديني) والتي نذكر منها: "وردة للوقت المغربي" و"ممر الصفصاف".

أخيرًا، ختم (الداهي) دراسته بخاتمة عامة بيّن من خلالها أن جاذب اهتمامه في تحليل متن المحكيات الذاتية هو جملة من القضايا: الحقيقة، والواقع، وصورة الكاتب. وهو ما يوضح جليًا التغيير الجوهري الذي عرفته المحكيات الذاتية مع الإبدال المابعد حداثي؛ أي الانتقال من تمثيل الواقع إلى صورة مصطنعة له، فيصبح معه التخييل الذاتي النسخة الحداثية للسيرة الذاتية.

في الأخير يمكننا القول بعد تلقينا لكتاب (السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع) أن الكتاب ذو قيمة نقدية كبيرة، لا يستمدها الكاتب من تأملاته النظرية فقط، وإنما من مجموع الدراسات التطبيقية التي قام بها، والتي تعد إضافات نظرية جديرة بالتقدير والتأمل، خاصة وأن المتون التي اعتمدها الكاتب تتسم بالتنوع؛ إذ تجمع الاعترافات والمذكرات والتخييل الذاتي، والقديم والحديث، والعربي والأجنبي. بالإضافة إلى أن القارئ النبيه لهذه الدراسة قد يجد ضالته فيها إذا ما أراد تحليل محكيًا ذاتيًا، وذلك من خلال استنباطه لمجموع الآليات التي توسلها (الداهي) عند مقاربته للأعمال التي اشتغل عليها، خصوصًا وأن طبيعة الكتاب من حيث تميزه بسلامة العرض ووضوح المفاهيم ودقة التحليل تساعده على ذلك.


    المصادر و المراجع
  • [1] إشارة إلى فيليب لوجون، أكاديمي وكاتب فرنسي.