سارة سليم
هوية بعض النصوص الأدبية تنطلق من فكرة (اللا هوية)، أو من الانتماء إلى أي مكان لتأسيس هويتها الفعلية داخل الفضاء الإنسانيّ الرحب الذي تخلقه الرواية؛ حيث تستوعب (كل شيء) -على حدّ تعبير (عبد الفتاح كيليطو)- دون أن تفرض على النص الأدبي رؤية معينة من خارجه.
قد يُنظر إلى هذا النوع من النصوص على أنها دون هوية ما لم تذكر أمكنةً وحوادث لها علاقة بالواقع الذي يعرفه القارئ ويعرف من خلاله عن أي المدن تتحدث، لكنَّ حقيقتها الأدبية بخلاف ما تبدو عليه؛ إذ تبرز قوتها في قدرتها على الارتباط بالواقع أكثر من غيرها، ذلك أنها لم تحصر الهوية في مكان بعينه، بل تركتها مفتوحة للتأويل، لكنها في الوقت ذاته تنتمي للإنسان؛ (إنسان اليوم) بقلقه وإحباطه وشرّه. إنَّ الهوية في الأدب لا تأتي من اللا شيء، والأمر نفسه بالنسبة للخيال الذي يعبِّر عن الواقع أدبيًّا أكثر من إعادة تدويره روائيًا دون إبداع فني يذكر؛ فالرواية في الأخير ليست تجسيدًا للواقع كما نعرفه، بقدر ما تكون هي بنفسها رد فعل للواقع.
كتب قبل أكثر من خمسين سنة المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي (جاك بيرك) ما معناه: «الخيال هو في نهاية المطاف مجرد ردّ بسيط لواقع أكثر صدقًا منه». وعبارته تأخذنا إلى فكرة أنَّ الرواية بالأصل هي رد فعل على الواقع، لكنها لا تعيد تمثيله تفصيلًا، وإلا فما نفع الخيال وما قيمة الفن في حياة البشر؟
لعلَّ واقع اليوم يشبه إلى حد ما، ما كنا نعتقد في وقت سابق أنه خيال علمي، واقع امتزجت فيه الحقيقة بالأسطورة، وأسطورة هذا العصر هي التكنولوجيا؛ التقنيات المتعددة الشائكة التي حولت البشر إلى آلات في التفكير والتعامل وحتى في طريقة الحياة، أو لربما وجود هذا النوع من التطور في زمننا أظهَرَ الجانب المظلم من حياتنا؛ فإنسان اليوم هو نفسه إنسان الأزمنة السابقة، وحده عصر التكنولوجيا كشف حقائق نجهلها عن أنفسنا، وفي عصر الروبوتات والذكاء الاصطناعيّ يسهُلُ علينا اكتشاف هذا النوع من التحول الذي طرأ على حياتنا.
وهذا النوع من التساؤلات التي نطرحها في كل مرة - ونحن نرى أثر توغل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ- يجيب عنها الأدب بـ (طريقته الخاصة) إجابات عما يمكن أن نسميه الذكاء الاصطناعي في عالم مليء بالروبوتات المتوغِّلة والمتغوِّلة داخل المنظومة البشرية إلى درجة ما عدنا نفرِّقُ معها أيهما أكثر(روبوتيَّة) من الآخر. وكلمة (روبوتية) قمت بنحْتِها الآن وأنا أكتب مقالي هذا، ومعناها: أيهما الأكثر تحوُّلًا إلى آلةٍ من الآخر؟ هل هي الآلة المتمثلة في الروبوتات؟ أم البشر الذين تحولوا إلى روبوتات؟
تجيب عن هذا السؤال إحدى شخصيات رواية (رف اليوم) أولى أعمال الكاتبة السعودية (نجوى العتيبي): "لست بشريًا بالكامل... أنا شيء كالمسخ بين هذا وذاك حتى ما عدت أعرف نفسي".
وبرأيي؛ تمثِّلُ فكرةُ اعتقاد هذه الشخصية بأنها تحولت إلى مسخ وعيَها بأنَّ جزءًا منها تحوَّلَ إلى آلة، بينما بقي جزءٌ آخر منها بشريًّا، وهذه إجابة من داخل العمل نفسه على قدرة الإنسان في التحوّل إلى آلة طوعًا أو كرهًا؛ فيصير آلةً حين يكون قاسيًا، وحين يفقد إنسانيته بالظلم الذي يرخّص له عدم الرؤية خارج حدود أطماعه، وحين تتعاظم أنانيته في الاستحواذ على كل شيء، أنانية لا تعرف حدودًا ولا ضوابط لها سوى الجشع الذي حوَّلَ البشر إلى كائنات أشبه بالروبوتات.