ما وراء التخييل التاريخي

د. محمد الشحات

-1-

ثمة علاقات كثيرة بين الفعل "السردي" والحدث "التاريخي". فالتاريخ، كما كان يفهمه فريديرك چيمسون وجاياتري تشاكرافورتي سبيڤاك ، هو "تجربة الضرورة"، أو هو مقولة أو استراتيچية سردية narrative category، حيث يمثّل التاريخ السياسي لدى أي مجتمع من المجتمعات قاطرة التحوّل في هذا المجتمع، سواء في المستوى الفنّي أو العلمي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لذا، فقد رصد كثير من الباحثين السوسيولوجيين والنّقاد ومؤرّخي الأدب هذه الظاهرة المتمثلة في تبادل علاقات التأثير والتأثر بين الأدبي والسياسي، تطبيقًا على مجتمعات وبلدان عربية مختلفة؛ الأمر الذي يُبرز خطورة تلك العلاقة الجدلية التي حلَّلها إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism" مؤكِّدًا تلازم "الرواية" [أو "الثقافة" بالمعنى الواسع الذي يطرحه في كتابه] و"الإمبريالية" تلازما لا تنفصم عُراه، إلى الحدّ الذي يمكن معه القول إن تراكم "حزمة" من المرويّات حول موضوع بعينه، أو حول شخصية تاريخية بعينها ذات ثقل اجتماعي أو ديني (مثل حياة الإمام نور الدين السالمي (1284 ه/ 1868م - 1332 ه/ 1914م، العلَّامة والمُحقِّق والمُؤرِّخ والشاعر العماني الذي كان ينتمي إلى القرن التاسع عشر)، يمثّل"مؤسسةً أدبية" تستحق درسًا خاصًا يوازن بين الفنّي والاجتماعي، أو الجمالي والثقافي. وعلى من يتبنَّى مثل هذا المنظور في التحليل أنْ لا يستجيب لهيمنة أحد طرفي العلاقة على الآخر، وألَّا يخضع خضوعًا تامًّا لإغراء فكرة الانعكاس المرآوي التي راجت مع رواج النظريات الماركسية في تعاملها مع الآداب والفنون .‬‬

يبدأ النقد الأدبي، إذن، مَهَمَّته انطلاقًا من فنّ "القصة"، أما علم التاريخ فينتهي إليها. وفي مجال البحوث التاريخية، يتقدم التحليل على القصة، أما في ممارسة النقد فإنه يتبعها. وهذا يعني أن ما يكون بالنسبة إلى التاريخ نهايةً للنشاط المعرفي سوف يكون بالنسبة إلى النقد بداية العملية العقلية. وإذا حَكَم النقد التاريخي على سرد زمني بسيط، على سبيل المثال، بأنه سرد دقيق فإنه لا يُعامل حينئذ بوصفه مجرد حكاية بل بوصفه مصدرًا لمعطيات يمزجها المؤرِّخ بمهارة أو يُعيد مزجها بمعطيات أخرى في سلسلة أو متوالية جديدة. ومثل هذه الإعادة (أو السرد أو الوصف أو أي إطار توضيحي آخر) لمزج المعطيات في سلسلة جديدة هي ما يصنع مدوّنة التاريخ. وهنا، ينبغي لنا أن نفرّق بين السرد التاريخي والسرد الحكائي. فالحدث الماضوي الذي يحكيه المتن التاريخي لا يخضع للمعايشة اللحظية أو المعاينة الفعلية الآنية وإنما هو حدث تنتظم موتيفاته طبقًا لمبدأ التذكّر الذي هو مبدأ استرجاعي تشتغل عليه الذاكرة الإنسانية.

ليس التاريخ نصًّا مُقدَّسًا قطعي الدلالة والثبوت، بل هو مادة حكائية تُسرد من وجهة نظر بعينها هي وجهة نظر الأمم الغالِبة لا المغلوبة؛ الأمر الذي يجعلها قابلة للنقض والمراجعة والبرهان، في حين أن السرد الحكائي الخيالي هو استحضار متخيَّل لحدث ماضٍ، وخطابه هو محض زعم وافتراء، والأدب في نهاية المطاف ضرب من ضروب الكذب الفنّي واللعب الجمالي. أما قارئ الأدب فهو يعرف جيدًا، منذ البداية، أن ما يقرأه هو مجرد خيال أدبي، وبذلك لا تقوم علاقة الأديب بالقارئ على أساس الحجاج العقلي والإقناع بل على أساس المواءمة بين عالم النص المتخيّل وعالم القارئ الواقعي. ذلك هو المنظور الجمالي والثقافي الذي يمكن للقارئ أن يدلف منه إلى رواية "ربيع الإمام" للروائي والكاتب العماني المعاصر محمد بن سيف الرحبي التي تتمثّل حياة الإمام نور الدين السالمي الذي عاش حياة مترعة بالأحداث في القرن التاسع عشر.

-2-

تُفتتح رواية "ربيع الإمام"، وهي رواية سيرة (غيرية)، بمشهد يسرد اللحظات الأخيرة من عمر الشيخ في رحلته إلى "الداخلية"، مُستدعيًا بعض مواقفه من أجل عودة الإمامة برايتها البيضاء، بديلًا عن هيمنة الإنجليز على مسقط (أو "مسكد") برايتها الحمراء. وفي الطريق قرب "تنوف" تصعد روح الشيخ إلى بارئها. وهنا، تبدأ سردية الرواية التي تنقسم إلى قسمين كبيرين ومختتم سردي أخير.

يبدأ القسم الأول (وعنوانه ""الربيع سيأتي ولو متأخّرًا") منذ لحظة وفاة أم الشيخ السالمي الذي يشارك أخته زوينة صفة اليُتم وضعف البصر، وفي خلفية المشهد صراع قبائلي بين "السوالم" والخضوريين، بينما الأب حميد مشغول بمعالجة العيون الأربعة لطفليه وتحفيظهما القرآن الكريم وعلوم الدين. [ثمة علاقة مضمرة قد تتشكَّل في عقل القارئ بين الشيخ السالمي وطه حسين، في قدرتهما على مواجهة عاهة ضعف البصر بالحفظ والذاكرة الصلبة. وكان يمكن للكاتب استثمار هذه العلاقات التناصية المضمرة، لكنه لم يفعل!]. أُصيب الشيخ السالمي بكفّ البصر وهو الصبيّ الصغير ابن الثانية عشرة من عمره. يشِبُّ الشيخ عبد الله عن الطوق، ويتابع ما يحدث في مسقط من خلال موقعه الكائن في الرستاق، حيث يشتعل بداخله حلم عودة الإمامة (العُمانية) والرغبة في استخلاف نفسه عليها، استئنافًا لمسيرة الإمام الشهيد عزان بن قيس. وهنا، يتشكَّل وعي عبد الله السالمي عبر مواجهته كل أشكال المكابدات والفتن والحروب والمخاوف. لقد كان الشيخ عبد الله رجلًا منشغلًا بالتأليف والبحث جنبًا إلى جنب انشغاله المتوتّر بعالم السياسة واستعادة "الإمامة الضائعة" بوصفها رمزًا دينيًّا واجتماعيًّا تستعيد به الأراضي العمانية وحدتها ضد أعدائها المتربّصين بها في الداخل والخارج. يمثّل القسم الأول من الرواية، بما يتضمّنه من مرويَّات شتَّى، سردًا للسيرة المعرفية لحياة الشيخ عبد الله السالمي، ومواقفه ومناظراته وصعود نجمه في هرم العلم والفقه. لذا، تنحو الرواية منحى يغلب عليه سرد التواريخ والأحداث التي اتصلت بحياة الشيخ السالمي، ويخفت فيها مساحة التخييل، ويتراجع النَّفَس الروائي تراجعًا كبيرًا لحساب سردية الأحداث التاريخية تفصيلًا. من جهة مقابلة، سوف يتخلَّى السلطان فيصل حاكم مسقط عن مبايعة الشيخ السالمي إمامًا، ويتنكَّر لفعله الثوري؛ الأمر الذي يعقبه الإشارة إلى دُنُوّ أجل الشيخ السالمي وهو يؤدِّي مناسك الحج.

في القسم السردي الثاني من الرواية (وعنوانه "الربيع يزهر على مهل")، ينطلق الشيخ الإمام من "بديّة" (في محافظة الشرقية)، ويبقى فيها لفترة. ثم ينتقل السرد إلى المشهد الذي يُلقِي فيه الشيخ السالمي خطبة عيد الفطر وهو ممتلئ بمشاعر الإمام (المنتظر أو المرتقب) التي يرى نفسه فيها. لكنّ السلطان فيصل سوف يدبّر حيلة ماكرة للتخلص من السالمي الذي أزعجه كثيرًا صعود نجمه والتفاف الناس حوله. في عام 1913، يعلن السرد عن عودة "الإمامة" بتنصيب الإمام سالم بن راشد الخروصي على يد رفيق دربه الشيخ عبد الله بن حميد السالمي. ويتحقّق لهم الحلم. وهنا، يتوعَّد السطان فيصل بن تركي الشيخ عبد الله بن حميد وثورة الداخلية (الإمامة) التي كان يقودها، وكانت دافعًا إلى أن تنضمّ الكثير من الولايات العمانية إلى فكرة الشيخ السالمي بعودة الإمامة المُحمّلة بنوستالجيا الدولة العُمانية الموحَّدة، وتنضوي تحت لوائه الأبيض مقابلًا -ومضادًّا- لعَلَم مسقط الأحمر رمزًا للهيمنة الأجنبية وقوى الاستعمار. وبعد فترة ليست بالبعيدة، يموت السطان فيصل، ويتم تعيين ابنه تيمور خليفة له. في نهاية هذا الفصل، يشير السرد إلى توطيد حكم الإمامة، وعودة الشيخ السالمي إلى مزاولة مهنة التأليف والبحث ومدارسة العلم واستئناف مجالسه.

-3-

في المختتم السردي، يعود السرد إلى زمكان المفتتح مرة أخرى، على سبيل إغلاق القوس السردي الكبير الذي يرى العالم من منظور الزمن الدائري. بيد أن السرد يُبئِّر على عودة الإمام السالمي إلى "الداخلية"، وفي الطريق يسقط الرجل سقوطه شبه الأخير من على راحلته مكسور الرأس ناجيًا من الموت بأعجوبة. يمرض الشيخ لفترة، لكنه -نظرًا لبصيرته التي استعاض بها عن بصره- سوف يتوقّع يوم وفاته، ويموت بالفعل في اليوم المشهود، ويُدفن في "تنوف"؛ موقع قبره حتى الآن. في خاتمة هذه الرواية، سرد لأحداث اصطدام جيش الإمامة بمسقط وحاكمها الذي تدعمه قوات الإنجليز، حيث تبدَّد حلم الإمامة الضائعة. نحن أمام رواية تاريخية، أو "تخييل تاريخي" بامتياز، إذا استعملنا مصطلح عبد الله إبراهيم، حيث تقوم أحداثها على سرد سيرة الإمام السالمي سردًا مشحونًا بنوستالجيا واضحة. بيد أن ميزان الثقل للرواية يذهب نحو التاريخ، لا الرواية، وحضور التخييل فيها شحيح باهت. وعلى الرغم ممَّا قد تُصدّره الرواية من متعة لقارئها في كثير من مشاهدها المتوتّرة التي تتقصّى الأحداث التاريخية لفترة أثيرة من تاريخ عمان في القرن التاسع عشر، فإن الرؤية السردية غائبة، يعتورها بعض الضبابية وبعض التشتّت. ويبدو أن استجابة الكاتب لجاذبية السردية الجمالية لم تكن على قدر استجابته لغواية السردية التاريخية، سواء في احتفائه بسيرة الإمام السالمي نفسه أو في تشييد سرديّته الروائية بوصفها شكلًا من أشكال الحنين إلى ماضي الإمامة القديم أو أي عامل سوسيوثقافي آخر كان موجِّهًا لبوصلة التخييل.