حسن عبد الموجود
إن طالعت صفحة الكاتبة المصرية عنايات الزيات على ويكيبيديا تصدمك العبارة التعريفية بها، فهي بحسب تلك الصفحة "واحدة من أبرز الكاتبات المصريات المنتحرات"، وبغضِّ النظر عن الركاكة في التعبير الذي افترض – على غير الحقيقة – أن هناك عدداً ضخماً من الكاتبات المصريات أنهين حياتهن بإرادتهن، فإن أبرز معلومة عن عنايات الزيات هي انتحارها في سن السابعة والعشرين، بعد مرحلة اكتئاب طويلة مرَّت بها في حياتها.
هذه المعلومة استفزت شخصية الباحث الكامنة في أعماق الشاعرة والأكاديمية المصرية إيمان مرسال، خاصة بعد أن وقعت في يدها الرواية الوحيدة لعنايات الزيات "الحب والصمت"، وقررت أن تعود في رحلة إلى الماضي، لا لتطَّلع على حياة الكاتبة المنتحرة وتطلعنا عليها، فـ"عرض حياة شخصٍ ميتٍ هو مشاركة في التسطيح والتفريغ المستمر للماضي من معناه" كما تقول، وإنما لتنتصر، بشكلٍ ما، لتلك الإنسانة التي قهرها المجتمع الذكوري، ورفضتْ مؤسسات الثقافة الرسمية الاعتراف بها روائية، لكن إيمان مرسال اصطدمت بحواجز منيعة، فالأرشيف ليس به الكثير عنها، والخيوط التي يمكن أن تقود إليها صعبة للغاية، إذ إنَّ عنايات بحسب إيمان "لا توجد إلا في هوامش نجت من سيطرة المؤسسات والأسرة والأصدقاء"، وبالتالي كان على إيمان أن تتبع آثارها في "الهالِك" بتعبيرها، أي في "بقايا الأشياء"، وكذلك في جغرافيا عاشت وماتت فيها، كالشارع الذي تسكن فيه والمقبرة والمدرسة الألمانية ومعهد الآثار الألماني، وفي قانون الأحوال الشخصية وقضية الطلاق من زوجها المتسلط، وفي الأحلام والصداقة والحب والاكتئاب والموت، وقد بدت لإيمان قصص كلِّ مَن تقاطعت حياته مع حياة عنايات، كأنها جزء من قصتها، وبالتالي قررت، كما تحكي، أن تعرفهم واحداً واحداً، وهكذا تنقَّلت في رحلة شاقة وممتعة بين حي الدقي الذي عاشت فيه عنايات الزيات، وبيت صديقتها نادية لطفي (بولا)، وبيت شقيقتها الصغرى عظيمة الزيات، وبيت جارتها، وكذلك مقار الأرشيفات في مؤسسات الصحف القومية الكبرى، ودار الوثائق، ومكتب المساحة بالدقي، وحتى مقبرتها فكرت فيها بل وزارتها.
لم يكن في يد إيمان سوى معلومات قليلة، ومع هذا قررت أن تصل إلى حل اللغز، لغز انتحار عنايات الزيات، وبدأت في التحرك، ومحاولة إيجاد ثغرة تمكِّنُها من إيصالنا إلى الحقيقة، على طريقة شيرلوك هولمز أو هيركيول بوار أو الآنسة ماريل.
وربما هذا هو السبب في أن بناء الكتاب يشبه بناء الألغاز، فإيمان ما إن تصل إلى طبقة حتى تفاجأ بطبقة أخرى أسفلها أكثر سُمكاً وتزيلها، فتصدمها طبقة ثالثة، وهكذا. اكتشفت إيمان أن عنايات عانتْ من الاكتئاب منذ طفولتها المبكرة، وأنها تُعالج في مصحة نفسية، وقد تضافرت أسباب في صنع غمامة الاكتئاب الثقيلة التي أحاطت بروحها ودفعتها للانتحار، فزوجها كمال شاهين مارس تسلطه عليها، وضايقها بتصرفات حقيرة جعلتها تشعر بالندم على تركها الدراسة والزواج به، وعائلته هددت بحرمانها من طفلها الوحيد؛ لأنها تجرأت وطلبت الطلاق، والدار القومية رفضت نشر روايتها "الحب والصمت"، أي أنها لم تعترف بموهبتها، وصديقتها نادية لطفي انشغلت عنها دائماً بتصوير أفلامها، وأبوها الشخص المسالم لم يستطع أن يوفر لها الحماية اللازمة من شرور العالم.
إيمان كانت تتوقف أحياناً، في ذروة البحث، يائسة أو محبطة، حتى أنها تسأل نفسها: "ما الذي أبحث عنه بالضبط؟ إنني حتى لا أعرف ما الذي سأفعله بهذه الصور والأوراق التي وعدتني بها بولا إذا حصلت عليها. هل أنا ألعب أم أهرب من حياتي بالبحث عن أي خيط يدلني على حياة امرأة كتبت رواية وماتت في شبابها؟ ألم أقرأ روايتها مرات؟ هل الرواية مهمة لدرجة البحث عن صاحبتها؟ هل قرارها المبكر بالموت هو ما يشدني إليها أم احتمالات مستقبلها ككاتبة لم تتحقق؟ ألم تحك لي بولا عنها في حواراتنا التليفونية ما يكفي لأتخيل حياتها؟"، لكن إيمان سرعان ما تنفض الإحباط عنها وتواصل رحلتها حتى تصل إلى حل اللغز في النهاية: "حاربت عنايات من أجل فرديتها وانتظرت مكافأة النصر من الدار القومية للنشر، من نفس المجتمع الذى حاربت ضده. كان الطلاق مكافأة، وكتابة الرواية مكافأة، والعمل فى مركز الآثار الألمانى مكافأة. لكن خسران قضية الحضانة هزيمة، ورفض الرواية هزيمة، وانشغال صديقتها عنها هزيمة، والتضحية بالحب من أجل الأمومة هزيمة. لا يكون أمام الفرد الحر أمام كل هذه الهزائم إلا أن يقفز مرة أخيرة فى الفراغ".