لغز الشرّ في الروايات والواقع كما يراه (تيري إيغلتون)..

ليلى عبد الله

في الحقيقة الداعي الذي دفعني لكتابة هذه المقالة عن مفهوم وماهية "الشرّ" هو شخصية (كاثي) أو (كيت) للروائي الأمريكي (جون شتاينبك) في روايته (شرقيّ عدن)؛ فالعنوان بحد ذاته هو اقتباس من سفر التكوين يشير إلى الجهة التي انسحب إليها قايين [أو قابيل] بعد أن قتل أخاه هابيل. ومن المعروف أن (جون شتاينبك) يعنى في عموم رواياته بالتغيرات التي تحتدم في الروح البشرية في صراعاتها ما بين الخير والشر، وبين الأمن والتهديد، وبين الفقر والغنى.

ففي روايته (شرقي عدن) يكمن الشر في شخصية (كاثي)، ولا تكاد تجد -حال قراءتك- مسوغات لشر هذه الشخصية الخاوية من الضمير الإنساني. لعل هذا ما دفعني إلى عوالم نظريات الكاتب والناقد البريطاني (تيري إيغلتون) في سعيه إلى القبض على ماهية "الشر"، ليس في العالم فحسب بل في عوالم الروايات أيضًا، بفعل حادثة حرّضته وقعت في بريطانيا قبل خمسة عشرة عامًا؛ جناتها طفلان في العاشرة من عمرهما عمدا فيها إلى تعذيب وقتل طفل يصغرهما سنًا.

ما أثار إيغلتون في هذه الحادثة ليس الطفلين القاتلين؛ بل الرأي العام الذي نظر إليهما كشريرين دون معرفة أسباب ودواعي الجريمة، فإضفاء صيغة "الشر" -وفقًا لـ (إيغلتون)- على سلوكهما ينفي التسامح معهما ويلغيه؛ فهو يؤمن بأن الأطفال مخلوقات شبه اجتماعية ويحدث أن تظهر هذه السلوكيات الوحشية من وقت لآخر، مستندًا على نظريات (فرويد) الذي أكد من خلال تجاربه بأن الأطفال أضعف إحساسًا بالأنا العليا وأضعف حسًا أخلاقيًا.

يطرح (إيغلتون) في هذا الكتاب اتجاهين مختلفين في تفسير الأعمال الشريرة وأسبابها التي من الممكن أن نطلق عليها أفعالًا سيئة بدلًا من شريرة. الاتجاه الأول هو الذي تبناه الليبراليون؛ وهم يعزون الشر إلى الدوافع البيئية المتمثلة في الظروف الاجتماعية. أما الاتجاه الثاني الذي تبناه السلوكيون المعتدلون؛ فينص على أن هنالك مؤثرات في الشخصية تتحكم في سلوك الفرد.

فكرة الشر في هذا الكتاب ممتدة عبر ثلاثة فصول، يحاول (إيغلتون) من خلالها تفسير مفهوم الشر استنادًا على الكتابات الأدبية التي طالعها وأطلق عليها تسمية "روايات الشر"؛ كرواية (بنتشر مارتن) لـ (وليام غولدنغ)، ورواية (أمير الذباب) ورواية (الفردوس) لـ (جون ميلتون). وحين طالعت وجهات النظر التي استقاها من روايات الشر وجدتني أندفع بدوري إلى طرح أمثلة روايات قرأتها شخصيًا في وقت ما، تكاد تهجس بالمسوغات التي ذهب إليها (إيغلتون). فاستنادًا على حتمية البيئة؛ يمكن القول بأن غياب العدالة الاجتماعية يمكن أن يخلق من شخصية هشة وضعيفة وحشًا بشريًا يسعى للتشفي من ظالميه، كشخصية (ماكس أومبيلنت) في رواية (شحاذو المعجزات) للروائي (قسطنطين جورجيو) الرجل الأمريكي الأسود، الوسيم، الثري، الذي يملك كل المؤهلات ليكون مواطنًا صالحًا وشريفًا، لكن عوضًا عن ذلك، صار رجلاً متعتعًا بالسكر، ومحرضًا على القتل. لقد استحال (ماكس) من رجل طيب إلى كائن شيطاني بالمعنى البشع للكلمة. وهناك أسباب عديدة خلقت هذه الهيئة الوحشية، لأنه أسود تخونه حبيبته البيضاء، يتعرض لخديعة شديدة الوطأة على نفسيته -كونه رجلًا- ليس لأن حبيبته تنكر صلتها به؛ بل لأنه أخصي على يد شقيقيها الأبيضين. وبعد عرض القضية على المحكمة يخسر (ماكس) أمام خصومه ويتعرض لظلم شديد، فالسلطة القضائية اصطفت مع بني جلدتها.

كان (ماكس) نموذجًا صارخًا لتحول الكائن البشري، يذكرنا بأبرز الروايات العالمية التي تناولت المسألة من الزاوية عينها، كرواية (فرانكشتاين) لـ (ماري شيلي)، ورواية (دكتور جيكل ومستر هايد)، ورواية (الفيسكونت المشطور) للروائي إيتالو كالفينو. يكاد بطل الروائي (قسطنطين جيورجيو) يماثل مسخ (فرانكشتاين)، ولكن الفارق أن بطل (فرانكشتاين) خلق قبيحًا، ووحيدًا، وغير مكتمل، بينما بطل (جيورجيو) هو إنسان وسيم وثري ومثقف ويعيش في كنف أسرته، أي أنه إنسان مكتمل خلا بشرته السوداء التي تعكّر عليه صفو حياته؛ بل سيتعرض للتشوه بسبب لونه هذا، فيسعى من خلال التشويه إلى تدمير كل شيء حوله. يستحيل إلى نسخة أفريقية مشحونة بكم هائل من الكراهية للجنس الأبيض، وعلى تناقض حاد أيضًا مع شخصية بطل الروائي الإنجليزي (روبرت لويس ستيفنسون)؛ فبطله رجل أبيض، لا يعاني من العنصرية، بل يعيش برفاهية، غير أنه من خلال تجاربه يصنع مشروبًا سحريًّا يحوله إلى كائن شرير. ولعل شخصية بطل (إيتالو كالفينو) يماثل في كينونته المتغيرة (أومبيلنت)؛ إذ يتخبط في تناقضات هائلة ما بين الخير والشر تتصارعان في كيانه، لكن جرعة الشرّ في روح (ماكس) تكتسح آدميته كليًّا. ربما لأن تحول بطل (شحاذو المعجزات) هو صنيعة مجتمع غير عادل، مجتمع عنصري، التحول الذي حطم فيه كل قيم النبل والخير ليحل محلها الشرّ، الشرّ المحض ولا شيء آخر.

ومن حتمية البيئة إلى حتمية الشخصية أذهب لأستعيد شخصية (كاثي) -صنيعة الروائي الأمريكي (جون شتاينبك)- هذه الشخصية التي حمّلها (شتاينبك) اسمين، فهي تمر بمرحلتين في حياتها دون أن يبدو لتغيير الاسم دورًا في تقهقر الشر في كيانها الشيطاني. فـ (كاثي) تفر من مكان ولادتها بعد أن تحرق منزل عائلتها بوالديها النائمين فيه بعد أن تستولي على أموالهما، ويغيب أثرها لاعتقاد الجميع أنها وقعت ضحيةً في حريق المنزل. لعل أغرب ما في هذه الشخصية؛ أنها تسعى لأن تكون عاهرة في مبغى، ويتحقق مرادها عبر ارتكاب العديد من الأعمال الشريرة، ومع ذلك ففي سعيها المريع لتدمير من حولها والتشفي منهم؛ دمرت ذاتها أيضًا.

ولا أرى بوصفي قارئةً أية مسوغات للشر الكامن في شخصية (كاثي) -فالحياة السوية كانت ماثلة أمامها لكنها تخيّرت بإرادتها الطريق المحفوف بالمخاطر- سوى ما ذهب إليه (تيري إيغلتون) في تفسير جانب من جوانب الشر "فهؤلاء يمارسون الأعمال الشريرة هم أشرار أصلًا، لا من أجل تحقيق هدف ما بل لكونهم أناس أشرار". واستنادًا على رأي الفيلسوف (هيجل): "كلما ازدادت الحرية الفردية كان الشر في حالة نشاط". فبقدر تمتع المرء بالحرية؛ فإن احتمالية الشر في كيانه تتضاعف؛ فالشرير -كما يرى (إيغلتون)- شخص فخور بنفسه ومتعال ومتكبّر، بلا استثناء. فهذه الحرية التدميرية قد تكون نتائجها كارثية على الفرد نفسه وعلى الآخرين حين تدور رحى الزمن الانتقامي، وتواجهنا بكل جبروت القدَر المستعصي في الحاضر، وبهذا نكون نحن من خلق أعمالنا الخاصة!

لكن إذا كان الشر نابعًا من أصل الشخصية، فهل يمكن اعتبار مقترفيه مذنبين بفعل جيناتهم التي ورثوها من آبائهم وأجدادهم؟ وما الفرق بينهم وبين طفل يحمل جينات مرضية؟ ألا يؤكد السعي الصارم إلى معاقبتهم بأنهم فعلًا ضحايا القوى الشريرة مع كونهم غير قادرين على مجابهتها؟ إذن لوجبت عليهم الشفقة بدلًا من الإدانة.

يطرح (إيغلتون) افتراضاته هنا وهو يستدعي الصفة التي أطلقها مستشار الأمن الوطني البريطاني على الإرهابيين بأنهم "مضطربين عقليًا"، ويسخر من هذا التسويغ؛ فإذا ما كانوا مجانين وغير واعين لما يفعلونه إذن يجب معالجتهم ووضعهم في مصحات للعلاج النفسي، وليس محاكمتهم وزجهم في أقبية سجون سرية، إن إدانتهم هنا دون الرجوع لأسباب اقترافهم لجرمهم هو بحد ذاته فعل يسقط فرض معاملتهم بمعاملة إنسانية ونزيهة. ويزيد مدعمًا حجته بسؤال: إذن فالشر حين يكون خارج التفسيرات المنطقية بوصفه لغزًا مبهمًا كيف لنا أن نحصل على معلومات كافية عنه كي ندين فاعليه؟

لذا في الفصل الثاني استند إلى افتراضية بأن الشر قد ينبع من "المتعة الفاحشة"، متكئًا لاستدعاء معانيه على مسرحية (ماكبث) لـ (شكسبير)، من خلال شخصية الساحرات الثلاث على وجه الدقة؛ حيث رأى أنهن مفعمات بالكراهية، ويهددن النظام الاجتماعي والسلطة السياسية، فمن خلال المتاجرة بالألغاز يتلاعبن بالعقول ويضربن جذور الاستقرار الاجتماعي ويستهزئن بالسلطة الذكورية، كونهن خارج المجتمع السياسي وليس لهن أهداف أو طموحات، بل يعشن في زمن دائري -نسبة إلى دورات القمر- يفتقد الطموح. مقابل الزمن الخطي -وهو زمن (ماكبث) وكل امرئ طبيعي- وهو زمن يرنو إلى الطموح والإنجاز. ومن خلال معرفتهن المسبقة بالأمور التنبؤية حطمن النظام الأسكتلندي الهرمي عبر نقل سلبياتهن لـ (ماكبث) الذي تصير نهايته إلى مأساة.

لكن ماذا عن الشر في العالم المعاصر؟ تلك الحروب وأزمات الإنسانية المتفاقمة وكوارث الطبيعية؟ ما موقف الإله منها؟

يستعرض (إيغلتون) في فصله الثالث الأخير من الكتاب "مُعزّو الشر" الذين يندرجون تحت عِلم (ثيوديسي) ويعني حرفيًا: تبرئة الإله. جاء بعد سعي الناس إلى سؤال لماذا الإله لم يتدخل لوقف الكوارث البشرية كالحروب والأمراض؟ والأزمات الطبيعية كالزلازل والبراكين ونحو ذلك؟

يحاول علم الثيوديسي سرد أسباب وجود الشر بطريقة تخرج الإله من الاتهام، في مسعاهم للدفاع عن الإله يستعرضون عدة مسوغات لأهمية وجود الشر في العالم وذلك من أجل بناء الشخصية الأخلاقية. وفق (إيغلتون) فـ"سيكون العالم بلا شر لطيفًا جدًا إلى درجة أنه لا يستفزنا إلى عمل الفضيلة"، فالسلبية مطلوبة في الكون التي من دونها يتفجر الانسجام التام والنظام المطلق ويُنهي كل شيء.

على هذا النحو يمكن القول بأن الرأسمالية التي انتقد دوافعها الكاتب الأمريكي (جون شتاينبك) في روايته (عناقيد الغضب) التي أثارت عاصفة من الغضب والاحتجاج عليه، إلى حد إحراق نسخ من الكتاب في موطنه ساليناس بكاليفورنيا وتهديد حياته شخصيًا؛ فالشر في روايته هو النظام الرأسمالي الأمريكي، متمثلًا في كبار ملاك الأراضي وأصحاب الشركات الكبرى الذين تعمّد فضحهم بسوء معاملة العمال المزارعين، واستغلالهم حين كانوا تحت وطأة الكساد الاقتصادي الذي اجتاح أمريكا في الثلاثينات. هذه الرأسمالية -وفق النظرية المطروحة- كان نموّها في تلك الفترة ضرورة وحتمية من أجل بروز الاشتراكية، على حد قول (إيغلتون): "هل يمكن أن يكون هناك اشتراكية من دونها؟ أليست الرأسمالية ضرورية لتطوير ثروة المجتمع إلى الحد الذي تستطيع الاشتراكية فيه الاستيلاء عليها وإعادة تنظيمها لمنفعة الجميع؟".

الماركسية مثال على الثيوديسية، فهي تنطوي على محاولة تسويغ الشرور التاريخية، بالإصرار على الخير الذي سينبثق منها في النهاية. وجهة نظر بعض الماركسيين أن العبودية في العالم القديم -مهما كانت مؤسفة أخلاقيًا- فهي ضرورية في كونها أدت إلى نظام أكثر تقدمية للإقطاع.

يبدو أن الشر هو قدَر العالم الجديد الذي يربو عدد سكانه على سبع مليارات؛ حيث تسعى الأنظمة الفاشية والرأسمالية إلى اختراع وسائل تختزل الأرض للطبقات النخبوية فحسب، ولعل من أبرز أنواع الشرور الحالية -ليس اختراع الحروب التي تزهق كثيرًا من الأرواح فحسب- بل استحداث أساليبَ أخرى أكثر خبثًا تكمن في اختراع الأمراض المستعصية واللقاحات المعالجة لها جنبًا إلى جنب متكئة على سياسة ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن لم يقضِ نحبه بالأمراض فسوف تتولى اللقاحات الإجهاز عليه. وعلى مدى بعيد تفلح غاياتها في كنس الأرض من الحمولة الزائدة، وتقليصها للأصفياء فحسب... أليست هذه مؤامرة كونية نابعة عن الشرّ المحض؟!