ثيمة الموت في الرّواية الفلسفية: انقطاعات الموت لـ (جوزيه ساراماغو) نموذجًا

سفيان البرّاق

"فأما الموتُ فإنّما هو من تمامِ طباعنا. فلو لم يكن موتٌ لما كان الإنسان، لأنّ حدَّ الإنسان: الحي النَّاطقُ المائت".
- يعقوب بن إسحاق الكِندي، في الحيلة لدفع الأحزان، ص28.

مقدمة:

قد لا يختلف اثنان على أنّ أجَلَّ عقدة وجوديٍّة عجِزَ الكائن البشري عن تقديم إجابةٍ شافية وواضحة لها هي عقدة الموت، وقد شهدت نظرة الفلاسفة الغربيين إلى الموت تباينًا جليًّا؛ إذ اختلفت رؤاهم وإجاباتهم عن هذه المُعضلة الوجودية الباعثة على التحيُّر. فالموت تجربة وَسَمَتْ رحلة الإنسان واقترنت به، وعلّمته أنّ الدنيا بالرغم من وفرة ملذاتها، وتنوع نعمها، بيد أنّها تبقى -في نهاية المطاف- فناء وزوال، مُقدّرٌ على الإنسان الاستتار والاحتجاب عنها ولو بعد حين. إنّ ديدن الموت هو ألا يُفاضل بين البشر، وألا يُفرق بينهم في اعتبار مكاناتهم الاجتماعية، وجنسهم، والرؤى الفكرية والأيديولوجية التي تبنّوها، كما أنّه تجربة حتميةٌ لا محيد عنها مهما عمَّر الإنسان في الحياة. ومن ثمة ينشأ أنّ هذا الموت إذا كان متصفًا بالعدل، ولا يفاضل بين ذي المناقب وصاحب المثالب، وبين العائش في كنف أسرة موسرة وبين الواقع في حفرة الفقر، وبما أنّه هو "الأكثر أمانًا" كما كتبَ (لوكريتيوس) في كتابه: "طبيعة الأشياء"، وأنّ الألم دأبهُ أن يكون قبل الموت لا بعده؛ فلماذا يَكِبُّ الإنسان كلّ الإكباب على التفكير فيه؟ ولماذا استمر نظر البشر إلى الموت سلبيًا؟ رغم أنّه خلاص الكائن البشري من أعباء الحياة؟

1. تيمة الموت في رواية "انقطاعات الموت":

لعلّ من بين المحامد التي انضوت عليها جائحة كورونا -التي شلّت عجلة الحياة- جبرها الكائن البشري على التفكير جديًّا في هذا اللغز الوجودي، بعدما استلبتهُ دوامة الدنيا، وإرغامه على التمعن في هذه التجربة؛ إذ أنّ الموت أضحى يُحاصر الإنسان، ويتربص به متحيّنًا الفرصة لشنّ غارته على طريدته ليُمنى هذا الإنسان الضعيف دائمًا أمام الموت بهزيمةٍ نكراء ما فتئت تتكرر دون أدنى مجالدةٍ منه. لعلّ تجربة كورونا جعلت الأسئلة تتكاثر في عقل الإنسان بلا توقف، وقد يكون السؤال الآتي في طليعة هذه الأسئلة: بما أنّ الموت لا يستطيع الإنسان الهرب منه، والألم يكون قبله بالضرورة، وهو الخلاص الوحيد القادر على انتشالي من سراديب الوجع والمشاق، فلماذا أمنحهُ مساحة واسعة من التفكير وأخاف منه؟ ليس بخافٍ أنّ عددًا لا يحصى من الناس من مختلف المراتب الاجتماعية والبلدان، على مر التاريخ، جرّبوا الموت فلماذا أتوجس منه الآن؟ إذا كان الموتُ قد تكاثر في عزّ الجائحة، وداهم جميع الأمكنة، ولم يرأف بضحاياه، فماذا لو أنّ هذا الموت انقطع لعدة سنوات ووقع هدنة مع بني الإنسان، فكيف سيتقبل الإنسان هذا الانقطاع الصّاعق؟ أثرى الروائي البرتغالي (جوزيه ساراماغو) -الحائز على جائزة نوبل سنة 1998م- المكتبة العالمية بروايةٍ وسمها بـ: "انقطاعات الموت"[1]، وقد صدرت طبعتها سنة 2005م في 220 صفحة من القطع المتوسط، انبرى لترجمتها صالح علماني. وهي رواية تنبني على فكرة متخيلة انضوت على منسوبٍ عالٍ من الإقناع والصّواب البشريّ، لكنها مفاجئة للغاية؛ مضمونها أنّ الموت قد توقف عن مداهمة الأرواح في إحدى الرقع الجغرافية، وذلك يظهر في تصريح رئيس حكومة ذلك القُطر حينما أكّد أنّ الموت لم يكتسحهم لسنةٍ كاملةٍ ونيّفٍ، ليشرع السارد في رصد مشاعر مواطني ذلك البلد ووصفها، فضلًا عن الإبانة عن مدى تفاعلهم مع هذه المسألة المباغتة، وكأن (ساراماغو) يثير بذلك قضية "خلود الجسد". نقرأ في هذا المضمار من الرّواية: "حتى يوم أمس كان هناك أناسٌ يموتون ولم يكن يخطُر لبال أحد أن يكون ذلك مثيرًا للذعر، (....) الموتُ أمرٌ عاديٌّ"[2]. ولعلّ أَجَلَّ التفاعلات التي من شأنها أن تلامس أوتار قلب المتلقي هو وصف السارد ما يعتلج في قلب تلك الأرملة التي فقدت رفيق دربها بأيامٍ قليلة، وما إنْ اكتشفت أنَّ الموتَ ضلّ السبيل إليها حتى تسرّبت إلى خاطرها مشاعر متأرجحة بين غبطةٍ عارمة لأنّها ستوسمُ بالخُلود، وبين تكدُّرٍ ظاهر لكونها تيقّنت من عدم لقيا بعلِها في العالم الآخر (يُنظر: ص17). ومن بين القضايا المفاجئة التي أبانها هذا النّص هي أنّ انقطاع الموت كان بشارة خيرٍ عند لفيفٍ من الناس، إلا أنّ طائفة أخرى رأت فيه مصيبةً عظيمة وهم من درجوا على حفر القبور ودفن كلّ من عانقه الموت؛ إذ أنّ البَوار غمرَ مهنتهم لذا طالبوا الحكومة بإيجاد حلٍّ فوريٍّ لهم (يُنظر: ص20)، لم تكن هذه الفئة الوحيدة التي تضرَّرت من انتفاء الموت، بل حتى القائمين على المستشفيات والمصحات لم يستحسنوا ذلك وناشدوا الحكومة بأنْ تُساعدهم على تجاوز هذه الأزمة لكونهم تبرموا من تكاثر المرضى؛ الشيء الذي أدى لاكتظاظ المصحات والمستشفيات، لأن المرضى لا يموتون رغم أنّ المرض ينخرهم، فالموت الذي كان يساعد على تناقصهم تدريجيًا اختفى بصورة كلية (يُنظر: ص21)، وفي المقابل فإنّ انفجارًا ديموغرافيًا بات يهدد البلد؛ لأنّ الولادات في تزايد وتنامٍ واضحين وهذا يشي بالانكباب على ملذات الحياة (الجنس والرغبة في الإنجاب)، والموت لايزال غائبًا؛ الشيء الذي سيخلقُ أزمة اقتصادية عصيبة ومعضلة اجتماعية خانقة ستُرغِم الحكومة على الانغمار في سراديب الشبهات بالتورط مع المافيات بعدما عجزت عن إيجاد حلٍّ واقعيٍّ سليم، لتكون الحكومة حينها حكومةً فاسدة عجّلت بتناسل الخونة والانتهازيين (ينظر: ص87)، وهذا ما عجل بفورة الشعب وعقده العزم على القيام بثورةٍ مضادة لهذا الفساد الذي بدأ يومئ بقيام عصرٍ استبدادي يطمح إلى التحكم في كل شيء، وجمع مختلف السلط: التشريعية والتنفيذية والقضائية في يدٍ واحدة، ونسف الحريات، وهضم الحقوق، ومحاولة التحكم في الموت حتى (ينظر: ص112). أومأ (ساراماغو) في نصه هذا إلى أن تواري الموت خلق معضلةً في دفع أقساط تأمين الحياة، بما أنَّ الناس خالدون، ولا يوجد تاريخ لوفاتهم، فمن ثمة لا توجد ضرورة تحتمُ عليهم دفع رسوم التأمين. ابتكر رئيس اتحاد شركات التأمين المتضررة حلًّا ظريفًا تمثل في وضع بندٍ ينصُّ على أنّ الإنسان حينما يبلغ "السن الثمانين يصير إنسانًا ميّتًا افتراضيًا فقط"[3] لا فيزيقيًا، ومن ثمة يظلّ المرء دائبًا على دفع واجبات التأمين إلى أن يبلغ عيده الثمانين ويموت موتًا إجباريًا.

تُبيِّن هذه الرّواية التحول الذي طرأ على مفهوم الموت خلال القرن العشرين؛ حيث أضحى نعمة في نظر الباقين على قيد الحياة، ونقمة في تصور الذين أحبوا أناسًا ماتوا وبهم رغبة شديدة للقائهم في العالم الموازي، كما صار الموت مصيبة في نظر من يعملون في مهنٍ تحفلُ بالموت وتُكرمُ الموتى كحفَّاري القبور. تطوّرت أحداث الرّواية التي جعلت السارد يصدم القارئ بتبيان أنّ أهالي ذلك البلد سئموا غياب الموت، وتاقوا إلى عودته، فبالرغم من جودة الحياة، إلّا أنّ الشوق إلى الأيام الحزينة قد داهمهم. لقد عاد الموت إلى حياتهم وخطف -بعد أن عاد وفي ظرفٍ وجيز- زهاء سبعين ألفَ شخص دفعة واحدة، وكأن موتهم كان مؤجلًا أو معلقًا لفترة من الزمن، وهذا ما دفع (ساراماغو) إلى القول على لسان سارده: "الموت هو من يقود الرقصة، خالدون لوقت قصير، محكومون بالموت من جديد"[4].

2. إشكالية عدالة الموت في الرّواية:

تتمظهر غرابة هذا النص الروائي في أن الموت، باعتباره عادة روتينية طبيعية، غاب في البلد الذي يعيش فيه السارد، لينقل لنا فيه التحولات التي نجمت عن هذا الاستتار، والمشاعر التي اكتسحت قلوب الأهالي بعدما ودّعوا دوران الأيام المنهكة عليهم. لكن الموت لم يغب عن البلدان المجاورة لهذا البلد الاستثنائي الذي عقد معه الموت هدنةً لما يربو عن سبعة أشهر، نقرأ على لسان السارد: "الناس خارج حدودنا يموتون بصورةٍ طبيعية"[5]. وهنا ستطرح إشكالية عدالة الموت بشكلٍ بائن، فإذا كان الموتُ عادلًا لا يميز بين غارفٍ من الأبهة وغضارة العيش وبين غارقٍ في بركة الإملاق فما معنى أنّ قطرًا واحدًا من أقطار العالم يعيش حياة هانئة مكتظة بالطمأنينة والحبور بعدما انتهى الموت واختفى، بينما أقطارٌ أخرى لازالت تتجرعُ الأسى والحزن ويكتسحها هازم الملذات بلا مهادنة؟ لماذا استثنى الموت بلدًا واحدًا وما زال يغزو بقية البلدان؟ كتب السارد مُبرِزًا التحول الذي وسمَ مفهوم العدالة وقتذاك: "الوضع الجديد الناشئ هو أنّ العدالة في البلد الذي بلا موت وجدت نفسها مجرّدة من المرتكزات التي تتيحُ لها العمل قانونيًا"[6]. لمّح (ساراماغو) في هذا النص المليء بالإشارات والإيماءات الرمزية التي تحقق الإظهار وتمنح القارئ مساحة واسعة لتأويل وقراءة النص قراءات متعددة ومتباينة -وهذه إحدى رهانات الرّواية الحديثة- لمّح إلى أنّ غياب العدالة لم يكن في استثناء انتفاء الموت في دولة معينة وبقائه في أخرى، بل إنّ تبدد العدالة مسّ أيضًا غياب الموت عند الإنسان بينما الحيوانات والنباتات وبالرغم من أنها لا تعرف معنى الموت، ولا تفكر فيه، ولا تتوجس منه، إلّا أنّها كانت تنفق وتنتهي، والإنسان -في المقابل- باقٍ ويتجدد، وفي طريقه إلى ضمان الخلود. ولأن الحيوانات لم تسلم من الموت فقد تفطّنت الحكومة إلى أنّ بإمكان العاملين في حفر القبور ودفن الموتى أنْ يعتنوا بدفن الحيوانات وينالوا مقابلًا عن ذلك، وهكذا تكون الحكومة قد انتشلتهم من دوامة الكساد، ووجدت لهم حلًّا مؤقتًا يخمد لهيب ثورتهم ومطالبهم (يُنظر: ص19).

3. الفرد في مواجهة سلطة الكنيسة:

لقد حاول (ساراماغو) في انقطاعات الموت تفخيم فكرة الفردانية، والانتصار إلى الفرد المُتمتِّع بحريته في التفكير والمبادرة، وتحريره من المشاعر والانفعالات السلبية وفي مقدمتها الخوف، كما أنّه تغيّا تعظيم الإنسان المتنعم بالاستقلالية في كلّ شيء حتى يكون قادرًا على التجديد والإبداع، لا أن يظل حبيسَ الاتباع والاتكال والارتعاب. ومن كل هذا ينشأ أن هذه الرواية قد أحرجت الكنيسة الكاثوليكية بالتحديد؛ إذ أنّها جعلت من نصبوا أنفسهم مالكين للحقيقة (القساوسة/رجال الدين)، وقادرين على تأويل النص الديني وقراءته قراءةً تحمل نسبة عالية من الصحة والصواب الخالي من الاختلال وسوء الفهم، وهم وحدهم المتمتعون بالوساطة بين الرب والفرد، وتخليص الإنسان من الآثام عبر صكوك الغفران. فبما أنّ الموت غائب ولم يعد له حضور في الحياة، فبماذا سينفعون الإنسان وهو الذي لا ينتظره أي عقاب أو حساب لأنّه خالد في الحياة؟ ولعل ما يزكِّي هذا الزعم هو ما كتبهُ (ساراماغو) على لسان السارد: "التاريخ المقدس سينتهي دون مفر إلى طريق مسدود (...) الأديان جميعها مهما قلّبناها لا مسوِّغَ لها في الوجود سوى الموت"[7]. لقد جاءت ثورة الإصلاح الديني خلال القرن السادس عشر مع (مارتن لوثر) و(كَالفِنْ)، انقلابًا وردة فعلٍ لهذه السلطة غير المشروعة التي امتلكتها الكنيسة، وشلّت بها حياة الفرد الأوروبي، وعطّلت قدرته على التفكير، وبثّت الخوف فيه، وقمعت حريته في شقّيها: الوجداني والعقلي، ودرَّبتهُ على الخضوع والرضوخ لتعاليمها وأوامرها، وأن يكون دأبه الاتباع، وديدنه التقليد لا التفكير والتجديد والإبداع. لقد أحدثَ هذا الإصلاح الديني نقلةً جديّةً في الأوساط الأوروبية -حينما اعترف باستقلال الأفراد- دخلتْ في علاقة مباشرة مع الرب دون الحاجة إلى الوسيط، وأضحت محكومة بالحق في الحرية والاختيار، وكل فردٍ له المقدرة على اختيار السبيل الأنسب ليتخلَّصَ من آثامه بالطريقة التي يريد، وبالشعائر التي يختار، لا أن يفرض عليه أحد ما اتّباع مسلكٍ معينٍ.

4. بعض ملامح الرِّواية الحديثة في نص "انقطاعات الموت":

تنمُّ هذه الرواية عن اشتغالٍ واعٍ من طرف صاحبها المنتمي بلا شك إلى مدرسة الرواية الجديدة/الحديثة، وهذا ظاهرٌ أساسًا من خلال نزعه إلى الاقتصاد الواضح في اللغة، وتحاشيه لمصيدة الإسراف فيها، وهذا الاقتصاد هو ما يجعل المتلقي غائصًا في أحداث الرواية المتشابكة والمتشعبة دون أن يتسلل إليه التأفف، ومركزًا في الحيل السردية التي يجنح إليها الكاتب؛ لكون التكلف اللغوي والقفز على أحابيل اللغة بمبالغة زائدة هو أمرٌ قد يُنفر القارئ ويفلتُ خيط السرد من بين يديه. إن اللغة في الرواية الحديثة صارت تكتسي طابعًا جديدًا بعدما تقلدت وظيفة نقل الفكرة والتعبير عن الرؤى، ولم تعد هدفًا في حدّ ذاته يجعل الكاتب متوخيًا تحقيق طراوة اللفظ، وفخامة المعنى، ليهمل القضية والتقنيات السردية وبناء الشخوص، وهذه التفاصيل الأخيرة أهم من الانكباب على العبارات الرائقة، والمعاني المونقة. يظهر أيضًا انتماء (ساراماغو) إلى الرّواية الحديثة من خلال الطريقة التي اتَّبعها في ابتداع شخوصه؛ حيث قدّم شخوصه بلا ملامح جليّة وسهلة الانكشاف، ولا يوجد عنده بطلٌ واحد، بل عدة أبطال، والسارد وضعهُ (ساراماغو) على سطح مبنى عالٍ ومرتفع يتيح إليه النظر بكل أريحية وبشكلٍ بانورامي ليراقب ما يقع وينقلَ ذلك إلى القارئ واصفًا وساردًا الأحداث، دون أن تكون له يد فيما يحدث، وهذا يؤدي إلى ذكر الرواية البوليفونية/متعددة الأصوات، التي تمنحُ لكلّ شخصية مساحةً محددة لتعبر عن آرائها وتبرز همهومها وشواغلها والتطلعات التي ترغب في تحقيقها، وتتميز هذه التقنية الحديثة (تعدد الأصوات) -حسب (باختين)- بإمكانية "إتاحة الحوار على نطاق واسع، وهيمنة العلاقات الحوارية"[8] والتقليص، في المقابل، من دائرة السَّرد. ولعل هذه السمة التي اتسم بها هذا النص قد تقودنا إلى الحديث عن التخلي الذي قامت به الرواية الجديدة في طريقة اختلاق الشخصيات؛ إذ تخلت عن فكرة البطل الإشكالي وهمَّشتهُ، وأقصته نهائيًا، وصار تأثيره محدودًا للغاية، وتقلّصت مساحة هيمنته في النص السردي، ومردّ هذا التحول هو أن الرواية الحديثة لم تعد تؤمن بالشخصية المهيمنة/البطل الإشكالي، بل صار تركيزها، بعد التحولات العميقة التي شهدها العالم غداة الحرب العالمية الثانية، منصبًّا على إثبات وترسيخ " قيمٍ جديدة تتسمُ بغياب الذات، مما يفسح المجال أمام المقولات الفكرية"[9]. هذا النزوع إلى الشخوص الحديثة التي تكون غامضة وباعثةً على الارتياب أكّده (ساراماغو) في حوارٍ صحفيٍّ أجرته معه مجلة باريس ريفيو: "لا أظن أنّ وصف كيف يبدو أنف الشخصية أو ذقنها أمر يستحق الشرح"[10]. لقد اعتمدت الرواية الحديثة على الاهتمام بالتقلبات النفسية التي تعيشها الشخصية، وفضح تشوهاتها واعتلالاتها المضمرة، وتعرية همومها التي تستبد بها، وإظهار الإشكالات التي تلفُّ هذه الشخصية، متغافلةً عن الوصف الفيزيقي الذي كانت تسرف فيه الرواية الكلاسيكية/التقليدية، التي كانت تهتمّ بأدق تفاصيل الشخصية في شقها الفيزيقي فقط، دون أن تتسلل إلى نفسيتها وتبرز ما يجول فيها. نقرأ في هذا المضمار: "تُعاملُ الشّخصية في الرّواية التقليدية على أساس أنّها كائن حيٌّ له وجودٌ فيزيقي؛ فتوصفُ ملامحها، وقامتها، وصوتها، وملابسها، وسحنتها، وسنّها، وأهواؤها، وهواجسها، وآمالها، وآلامها، وسعادتها، وشقاوتها...؛ ذلك بأنّ الشّخصية كانت تلعبُ الدّور الأكبر في أيّ عملٍ يكتبهُ كاتبُ روايةٍ تقليديّ (نجيب محفوظ)"[11]. منح (ساراماغو) لنفسيات شخوصه معنى واهتمامًا واضحين؛ فبعدما أهمل ملامحهم الفيزيقية انكب، في المقابل، على إبانة الشواغل التي تمور في أنفسهم، كما أظهر الاعتلالات النفسية التي مارست حقها فيهم بلا رأفة؛ لأنّ هاجس الموت لا ينعكس على الجسد كبنية فيزيقية بقدر ما تكون له داهية عصيبة على نفسية الإنسان وتؤثر فيها بشكلٍ بالغ، ولعلّ داهية الدواهي هي أنْ تلازمه هذه الاعتلالات إلى مساء عمره، ومن ثمة يستخلص أنّ شخصيات رواية انقطاعات الموت هي شخصياتٌ "مركبة"، وفي غاية التعقيد؛ لكون انتفاء الموت وخلقه لأزمات غير متوقعة (نفسية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية) جعل النفسيات متأثرة وغارقةً في لججها الناجمة عن هذا التعارض الشعوري الداخلي: الشوق للكرب، الفرح بغياب الموت وتحقق الخلود، الحزن لعدم لقاء الأحبة في العالم الآخر...إلخ. ويعني هذا الشكل الجديد (الشخصية المركبة) -الذي هو لصيق بالرّواية الحديثة- أنّ هذه "الشّخصية المركّبة هي نتاجُ مشاعر مُعقّدة تجعلها تعيشُ ازدواجيّة أخلاقية واجتماعية تنعكسُ على سلوكها وتتحكّمُ في المواقف المُتعارضة التي تتّخذها"[12].

على سبيل الختام:

لعلّ ما يُستشف من هذه الرواية هو أنَّ تجربة الموت هي تجربة حتمية لا مقدِرة للإنسان على الإفلات منها فهي السبيل الأيسر للخلاص من مضائق الحياة ودروبها العصيبة، وهي المسلك الأخصر للانفكاك من الآلام والانفعالات السلبية المتراكمة، ومن ثمة ينشأ أنّه لا ضيم إذا تخلى الإنسان عن المبالاة به ومنحه قدرًا كبيرًا من التفكير والخوف منه، ولعلّ نفس الفكرة قد دافع عنها صاحب رواية (العمى) حينما كتب: "الناس حياتهم كلها والخوف معلَّقٌ برقَابِهم، وعندما تحينُ ساعتهم، يتقبّلون الموتَ كخلاصٍ"[13]. كما أن ما يمكن استشفافه من الغوص في النّص هو أنّ الموت لم يعد عادلًا حينما وقّع هدنة مع رقعة جغرافية بينما واصل زحفه في بلدانٍ أخرى، فضلًا عن أنّ هذا النّص كشف أنَّ دأب الإنسان هو الملل السّريع من الاستكانة لنمط واحدٍ في العيش، والسأم من التقوقع في المحيط، والتأفف من انصرام الأيام والنّظر خلالها إلى نفس الوجوه، وديدنه هو التشوف إلى التجدد؛ فلو أَلِفَ إنسانٌ ما، في قطرٍ جغرافيٍ معين، رخاء العيش، والتنعم بما يبتغيه من مال وجاهٍ، فإنّ نزوعًا إلى لوعة الحزن وضنك الحياة -ولو مؤقتًا- سيلمس قلبه؛ لأنّه اعتاد المسرة، وصار في حاجةٍ إلى شعورٍ لم يتعرّف عليه من قبل يمنحه نكهةً أخرى لمواصلة المسير في الدنيا، علاوة على أنّ الإنسان في أصله هو كائنٌ تجريبيٌّ وفضولي؛ فبما أنّه جرّب جميع الملذات المبهجة فإنّه سيحتاج إلى اختبار مدى اصطباره أمام نظيرتها المُفجعة؛ لكون السعيّ وراء التجدد والتجديد هما مطمحين دائمين للإنسان في درب الحياة.


    المصادر و المراجع
  • [1] جوزيه ساراماغو، انقطاعات الموت، ترجمة: صالح علماني، الهيئة المصرية العامة للكِتاب، القاهرة، د.ط، د.ت.
  • [2]المصدر نفسه، ص10.
  • [3] نفسه، ص27.
  • [4]نفسه، ص114.
  • [5] نفسه، ص14.
  • [6] نفسه، ص68.
  • [7] نفسه، ص31.
  • [8] ميخائيل باختين، شعريّة دوستويفسكي، ترجمة: جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1986، ص59.
  • [9] ميلود الهرمودي، الدينامية الثّقافية في الخطاب الرّوائي لعبد الله العروي، دار نشر الفاصلة، طنجة، ط1، 2021، ص28.
  • [10] مقابلة صحفية مع الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو، أجرتها: دونزلينا باروسو، ترجمة: حسام الدين خضر، مجلة: الآداب العالمية، دمشق، ع163-164، يوليوز، 2015، ص248.
  • [11] عبد الملك مرتاض، في نظريّة الرّواية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر، 1998، ص 76.
  • [12]حسن بحراوي، بنية الشّكل الرّوائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1990، ص 315.
  • [13] انقطاعات الموت، ص31.