سفيان البرّاق
"فأما الموتُ فإنّما هو من تمامِ طباعنا. فلو لم يكن موتٌ لما كان الإنسان، لأنّ حدَّ الإنسان: الحي النَّاطقُ المائت".
- يعقوب بن إسحاق الكِندي، في الحيلة لدفع الأحزان، ص28.
مقدمة:
قد لا يختلف اثنان على أنّ أجَلَّ عقدة وجوديٍّة عجِزَ الكائن البشري عن تقديم إجابةٍ شافية وواضحة لها هي عقدة الموت، وقد شهدت نظرة الفلاسفة الغربيين إلى الموت تباينًا جليًّا؛ إذ اختلفت رؤاهم وإجاباتهم عن هذه المُعضلة الوجودية الباعثة على التحيُّر. فالموت تجربة وَسَمَتْ رحلة الإنسان واقترنت به، وعلّمته أنّ الدنيا بالرغم من وفرة ملذاتها، وتنوع نعمها، بيد أنّها تبقى -في نهاية المطاف- فناء وزوال، مُقدّرٌ على الإنسان الاستتار والاحتجاب عنها ولو بعد حين. إنّ ديدن الموت هو ألا يُفاضل بين البشر، وألا يُفرق بينهم في اعتبار مكاناتهم الاجتماعية، وجنسهم، والرؤى الفكرية والأيديولوجية التي تبنّوها، كما أنّه تجربة حتميةٌ لا محيد عنها مهما عمَّر الإنسان في الحياة. ومن ثمة ينشأ أنّ هذا الموت إذا كان متصفًا بالعدل، ولا يفاضل بين ذي المناقب وصاحب المثالب، وبين العائش في كنف أسرة موسرة وبين الواقع في حفرة الفقر، وبما أنّه هو "الأكثر أمانًا" كما كتبَ (لوكريتيوس) في كتابه: "طبيعة الأشياء"، وأنّ الألم دأبهُ أن يكون قبل الموت لا بعده؛ فلماذا يَكِبُّ الإنسان كلّ الإكباب على التفكير فيه؟ ولماذا استمر نظر البشر إلى الموت سلبيًا؟ رغم أنّه خلاص الكائن البشري من أعباء الحياة؟
1. تيمة الموت في رواية "انقطاعات الموت":
لعلّ من بين المحامد التي انضوت عليها جائحة كورونا -التي شلّت عجلة الحياة- جبرها الكائن البشري على التفكير جديًّا في هذا اللغز الوجودي، بعدما استلبتهُ دوامة الدنيا، وإرغامه على التمعن في هذه التجربة؛ إذ أنّ الموت أضحى يُحاصر الإنسان، ويتربص به متحيّنًا الفرصة لشنّ غارته على طريدته ليُمنى هذا الإنسان الضعيف دائمًا أمام الموت بهزيمةٍ نكراء ما فتئت تتكرر دون أدنى مجالدةٍ منه. لعلّ تجربة كورونا جعلت الأسئلة تتكاثر في عقل الإنسان بلا توقف، وقد يكون السؤال الآتي في طليعة هذه الأسئلة: بما أنّ الموت لا يستطيع الإنسان الهرب منه، والألم يكون قبله بالضرورة، وهو الخلاص الوحيد القادر على انتشالي من سراديب الوجع والمشاق، فلماذا أمنحهُ مساحة واسعة من التفكير وأخاف منه؟ ليس بخافٍ أنّ عددًا لا يحصى من الناس من مختلف المراتب الاجتماعية والبلدان، على مر التاريخ، جرّبوا الموت فلماذا أتوجس منه الآن؟ إذا كان الموتُ قد تكاثر في عزّ الجائحة، وداهم جميع الأمكنة، ولم يرأف بضحاياه، فماذا لو أنّ هذا الموت انقطع لعدة سنوات ووقع هدنة مع بني الإنسان، فكيف سيتقبل الإنسان هذا الانقطاع الصّاعق؟ أثرى الروائي البرتغالي (جوزيه ساراماغو) -الحائز على جائزة نوبل سنة 1998م- المكتبة العالمية بروايةٍ وسمها بـ: "انقطاعات الموت"[1]، وقد صدرت طبعتها سنة 2005م في 220 صفحة من القطع المتوسط، انبرى لترجمتها صالح علماني. وهي رواية تنبني على فكرة متخيلة انضوت على منسوبٍ عالٍ من الإقناع والصّواب البشريّ، لكنها مفاجئة للغاية؛ مضمونها أنّ الموت قد توقف عن مداهمة الأرواح في إحدى الرقع الجغرافية، وذلك يظهر في تصريح رئيس حكومة ذلك القُطر حينما أكّد أنّ الموت لم يكتسحهم لسنةٍ كاملةٍ ونيّفٍ، ليشرع السارد في رصد مشاعر مواطني ذلك البلد ووصفها، فضلًا عن الإبانة عن مدى تفاعلهم مع هذه المسألة المباغتة، وكأن (ساراماغو) يثير بذلك قضية "خلود الجسد". نقرأ في هذا المضمار من الرّواية: "حتى يوم أمس كان هناك أناسٌ يموتون ولم يكن يخطُر لبال أحد أن يكون ذلك مثيرًا للذعر، (....) الموتُ أمرٌ عاديٌّ"[2]. ولعلّ أَجَلَّ التفاعلات التي من شأنها أن تلامس أوتار قلب المتلقي هو وصف السارد ما يعتلج في قلب تلك الأرملة التي فقدت رفيق دربها بأيامٍ قليلة، وما إنْ اكتشفت أنَّ الموتَ ضلّ السبيل إليها حتى تسرّبت إلى خاطرها مشاعر متأرجحة بين غبطةٍ عارمة لأنّها ستوسمُ بالخُلود، وبين تكدُّرٍ ظاهر لكونها تيقّنت من عدم لقيا بعلِها في العالم الآخر (يُنظر: ص17). ومن بين القضايا المفاجئة التي أبانها هذا النّص هي أنّ انقطاع الموت كان بشارة خيرٍ عند لفيفٍ من الناس، إلا أنّ طائفة أخرى رأت فيه مصيبةً عظيمة وهم من درجوا على حفر القبور ودفن كلّ من عانقه الموت؛ إذ أنّ البَوار غمرَ مهنتهم لذا طالبوا الحكومة بإيجاد حلٍّ فوريٍّ لهم (يُنظر: ص20)، لم تكن هذه الفئة الوحيدة التي تضرَّرت من انتفاء الموت، بل حتى القائمين على المستشفيات والمصحات لم يستحسنوا ذلك وناشدوا الحكومة بأنْ تُساعدهم على تجاوز هذه الأزمة لكونهم تبرموا من تكاثر المرضى؛ الشيء الذي أدى لاكتظاظ المصحات والمستشفيات، لأن المرضى لا يموتون رغم أنّ المرض ينخرهم، فالموت الذي كان يساعد على تناقصهم تدريجيًا اختفى بصورة كلية (يُنظر: ص21)، وفي المقابل فإنّ انفجارًا ديموغرافيًا بات يهدد البلد؛ لأنّ الولادات في تزايد وتنامٍ واضحين وهذا يشي بالانكباب على ملذات الحياة (الجنس والرغبة في الإنجاب)، والموت لايزال غائبًا؛ الشيء الذي سيخلقُ أزمة اقتصادية عصيبة ومعضلة اجتماعية خانقة ستُرغِم الحكومة على الانغمار في سراديب الشبهات بالتورط مع المافيات بعدما عجزت عن إيجاد حلٍّ واقعيٍّ سليم، لتكون الحكومة حينها حكومةً فاسدة عجّلت بتناسل الخونة والانتهازيين (ينظر: ص87)، وهذا ما عجل بفورة الشعب وعقده العزم على القيام بثورةٍ مضادة لهذا الفساد الذي بدأ يومئ بقيام عصرٍ استبدادي يطمح إلى التحكم في كل شيء، وجمع مختلف السلط: التشريعية والتنفيذية والقضائية في يدٍ واحدة، ونسف الحريات، وهضم الحقوق، ومحاولة التحكم في الموت حتى (ينظر: ص112). أومأ (ساراماغو) في نصه هذا إلى أن تواري الموت خلق معضلةً في دفع أقساط تأمين الحياة، بما أنَّ الناس خالدون، ولا يوجد تاريخ لوفاتهم، فمن ثمة لا توجد ضرورة تحتمُ عليهم دفع رسوم التأمين. ابتكر رئيس اتحاد شركات التأمين المتضررة حلًّا ظريفًا تمثل في وضع بندٍ ينصُّ على أنّ الإنسان حينما يبلغ "السن الثمانين يصير إنسانًا ميّتًا افتراضيًا فقط"[3] لا فيزيقيًا، ومن ثمة يظلّ المرء دائبًا على دفع واجبات التأمين إلى أن يبلغ عيده الثمانين ويموت موتًا إجباريًا.
تُبيِّن هذه الرّواية التحول الذي طرأ على مفهوم الموت خلال القرن العشرين؛ حيث أضحى نعمة في نظر الباقين على قيد الحياة، ونقمة في تصور الذين أحبوا أناسًا ماتوا وبهم رغبة شديدة للقائهم في العالم الموازي، كما صار الموت مصيبة في نظر من يعملون في مهنٍ تحفلُ بالموت وتُكرمُ الموتى كحفَّاري القبور. تطوّرت أحداث الرّواية التي جعلت السارد يصدم القارئ بتبيان أنّ أهالي ذلك البلد سئموا غياب الموت، وتاقوا إلى عودته، فبالرغم من جودة الحياة، إلّا أنّ الشوق إلى الأيام الحزينة قد داهمهم. لقد عاد الموت إلى حياتهم وخطف -بعد أن عاد وفي ظرفٍ وجيز- زهاء سبعين ألفَ شخص دفعة واحدة، وكأن موتهم كان مؤجلًا أو معلقًا لفترة من الزمن، وهذا ما دفع (ساراماغو) إلى القول على لسان سارده: "الموت هو من يقود الرقصة، خالدون لوقت قصير، محكومون بالموت من جديد"[4].
2. إشكالية عدالة الموت في الرّواية:
تتمظهر غرابة هذا النص الروائي في أن الموت، باعتباره عادة روتينية طبيعية، غاب في البلد الذي يعيش فيه السارد، لينقل لنا فيه التحولات التي نجمت عن هذا الاستتار، والمشاعر التي اكتسحت قلوب الأهالي بعدما ودّعوا دوران الأيام المنهكة عليهم. لكن الموت لم يغب عن البلدان المجاورة لهذا البلد الاستثنائي الذي عقد معه الموت هدنةً لما يربو عن سبعة أشهر، نقرأ على لسان السارد: "الناس خارج حدودنا يموتون بصورةٍ طبيعية"[5]. وهنا ستطرح إشكالية عدالة الموت بشكلٍ بائن، فإذا كان الموتُ عادلًا لا يميز بين غارفٍ من الأبهة وغضارة العيش وبين غارقٍ في بركة الإملاق فما معنى أنّ قطرًا واحدًا من أقطار العالم يعيش حياة هانئة مكتظة بالطمأنينة والحبور بعدما انتهى الموت واختفى، بينما أقطارٌ أخرى لازالت تتجرعُ الأسى والحزن ويكتسحها هازم الملذات بلا مهادنة؟ لماذا استثنى الموت بلدًا واحدًا وما زال يغزو بقية البلدان؟ كتب السارد مُبرِزًا التحول الذي وسمَ مفهوم العدالة وقتذاك: "الوضع الجديد الناشئ هو أنّ العدالة في البلد الذي بلا موت وجدت نفسها مجرّدة من المرتكزات التي تتيحُ لها العمل قانونيًا"[6]. لمّح (ساراماغو) في هذا النص المليء بالإشارات والإيماءات الرمزية التي تحقق الإظهار وتمنح القارئ مساحة واسعة لتأويل وقراءة النص قراءات متعددة ومتباينة -وهذه إحدى رهانات الرّواية الحديثة- لمّح إلى أنّ غياب العدالة لم يكن في استثناء انتفاء الموت في دولة معينة وبقائه في أخرى، بل إنّ تبدد العدالة مسّ أيضًا غياب الموت عند الإنسان بينما الحيوانات والنباتات وبالرغم من أنها لا تعرف معنى الموت، ولا تفكر فيه، ولا تتوجس منه، إلّا أنّها كانت تنفق وتنتهي، والإنسان -في المقابل- باقٍ ويتجدد، وفي طريقه إلى ضمان الخلود. ولأن الحيوانات لم تسلم من الموت فقد تفطّنت الحكومة إلى أنّ بإمكان العاملين في حفر القبور ودفن الموتى أنْ يعتنوا بدفن الحيوانات وينالوا مقابلًا عن ذلك، وهكذا تكون الحكومة قد انتشلتهم من دوامة الكساد، ووجدت لهم حلًّا مؤقتًا يخمد لهيب ثورتهم ومطالبهم (يُنظر: ص19).