محمد الحميدي
يقصدُ بالفضاء الكرنفالي "الحيز الذي يجمع بين الأضداد والمتناقضات الاجتماعية، ويستوعب في الوقت ذاته التأرجح بين الجد والهزل" [1]، مرتكزًا على المحاكاة الساخرة، وهذا ما نجده في قصيدة "تغريبة القوافل والمطر" [2] للشاعر (محمد الثبيتي)؛ حيث تمتلئ بالمتناقضات، وتتأرجح بين الجد والهزل، رغبة منها في إيصال رسالة إلى المتلقي.
الفضاء الكرنفالي أحد عناصر القصيدة البوليفونية؛ التي تتعدد فيها الأصوات والشخصيات والرؤى والأفكار والأيديولوجيات [3]، فتضجُّ بالحركة والحياة ويتعمق الصراع وصولًا إلى الهدف المنشود، المتمثِّل بكشف الحقيقة أمام المتلقي، وبهذا يكون الشاعر قد أتم خطابه وأنهى قصيدته.
ترافقت المتناقضات مع بداية القصيدة وافتتاحيتها بصوت الشاعر، إذ أفسحت لنفسها مكانًا إلى جوار بقية الأصوات الموجودة؛ كصوت (القهوجي)، وصوت كاهن الحي، حيث "تتسم بالبعد الحواري، ويتخذ فيها السرد نطاقه، ويكسو ذلك كله البعد التعبيري الذي يعد السمة المميزة للشعرية" [4].
يتميز صوت الشاعر بالخطابية المباشرة فتكرار اللازمة "أدر مهجة الصبح"، ينقل الاستجابة إلى متلقي الخطاب، الذي يمثِّله في القصيدة (القهوجي)، فحينما ينتهي من الدوران على الحضور يمسك بـ"الربابة" ويبدأ الترنم بـ"المواويل"؛ لينتقل المشهد إلى (كاهن الحي)، الذي يعد صوته الأعمق والأكثر حكمة؛ إذ يتميز بالإخبار عن الماضي وتغيراته والتنبؤ بالمستقبل، وهو ما يعني أن "كل شخصية تقدم فكرتها، وتعرض أطروحتها، ويمكن للكاتب أن يشارك بفكرته إلى جانب الأفكار الأخرى للشخصيات دون أن يرجح كفة أطروحاته على باقي الأطروحات الأخرى" [5].
أولًا صوت الشاعر [6]:
"أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
صُبَّ لنَا وطنًا فِي الكُؤُوسْ
يُدِيرُ الرُّؤُوسْ
وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ
المُسْتَطَابَةْ"
تتداخلُ الأصوات والشخوص منذ البداية، حيث ذات الشاعر ليست وحدها، فلم تعد القصيدة "أسيرة للرؤية الأحادية من قبل الشاعر، بل أمست حقلًا لعدة أصوات متحاورة" [7]؛ إذ تخاطب (القهوجي)، وتطلب منه أن يصب "وطناً في الكؤوس"؛ لتأتي النتيجة "يدير الرؤوس"، وهنا ستتبدى أولى اختلالات العلاقة بين الذات والوطن، فعوض الانتماء حضرت القطيعة، حيث الذات تهرب من وطنها الفعلي لتخترع وطنًا لا يدير الرؤوس، بل يحافظُ على أبنائه من الضياع والشتات، ولذا لا غرابة أن يكون الوطن البديل ممزوجًا بالأسى والحزن، مثلما أن القهوة "المستطابة" تكون "ممزوجة باللظى" [8]:
"أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ مَمْزُوجَةً بِاللَّظَى
وقَلِّبْ مواجعنَا فوقَ جَمْرِ الغَضَا
ثُمَّ هَاتِ الرَّبَابَةَ
هاتِ الرَّبَابةْ:"
القهوةُ والربابة من سمات البداوة، ولا يحلو الجلوس والسمر في المساءات إلا مع الرشفات والأنغام، وهو ما تتجهُ إليه القصيدة في إبراز التناقض الاجتماعي، إذ القهوةُ لا تقتصر وظيفتها على تنشيط الذهن وتنبيهه، بل هي كذلك تدير الرؤوس وتُذهب العقل؛ ما يعني الحاجة إلى الربابة. فمع ذهاب العقل تحضر الروح، وهما النقيضانِ في القصيدة، ولا بد لأحدهما أن يرحلَ كي يأتي الآخر، وبهذا تتعمق مأساة الذات ولا يكون لها حل.
ثانيًا صوت (القهوجي) والغناء على الربابة [9]:
"أَلا أيُّها المخبُوءُ بينَ خيامِنَا
أَدَمْتَ مِطَالَ الرملِ حتَّى تَورَّمَا
أَدَمْتَ مِطَالَ الرملِ فَاصْنَعْ لَهُ يَداً
ومُدَّ لهُ فِي حانةِ الوقتِ مَوسِمَا"