الرواية الخضراء

مقولة ثقافية في الماهية والرؤية

د. محمد الشحات

تأسَّست ماهية الدراسات الثقافية الخضراء حول جملة أسئلة من قبيل: ما الطبيعة؟ ما موقع الإنسان فيها؟ هل وُجدت الطبيعة فقط من أجل تلبية احتياجات الإنسان؟ كيف لنا اليوم أن نفكّر في الطبيعة واضعين في اعتبارنا الكوارث الإيكولوجية المتتالية؟ ما الإسهامات التي يمكن أن يقدّمها الأدب أو الدراسة الأدبية بالنسبة إلى الإيكولوجيا؟ ما التأثير الذي قد تمارسه الإيكولوجيا ومفاهيمها (كالمنظومة البيئية، والمجتمع الإيكولوجي، والاعتماد المتبادل، والترابط الشامل، وشبكة الحياة) على الدراسات النقدية والثقافية المعاصرة؟ هل يمكن لهذه الدراسات أن تتلاقح مع الفكر الإيكولوجي بمدارسه المتنوعة في فروع معرفية ذات صلة بالاثنين، كالتاريخ والفلسفة والأخلاق وتاريخ الفن؟ هل ينفتح العلمُ –وهو "البنية ذات الهيمنة" والأكثر تأثيرًا في رسم ملامح المستقبل البيئي- على التحليل الأدبيّ، كما سبق وانفتح الأدب نفسه على المناهج العلمية؟ ما حدود مثل هذا الانفتاح، إذا حدث، وما شروطه؟

يُعَدُّ النقدُ الإيكولوجي eco-criticism أو النقد البيئي أو النقد الأخضر واحدًا من أحدث فروع الدراسات البينية Interdisciplinary Studies التي علا مدُّها بالتزامن مع بزوغ الدراسات الثقافية. يحمل النقد الإيكولوجي على عاتقه مَهمّة تحليل الدور الذي تلعبه البيئة الطبيعية في تشكيل مخيّلة جماعة ثقافية ما في لحظة تاريخية بعينها، بغية التعرّف إلى الطريقة التي تُرى بها العلاقة المتوتّرة بين البشر والطبيعة. وهو نمط من الدراسات النوعية التي تصل بين العلوم الطبيعية والنقد الأدبي أو بينها والنقد الثقافي، على اعتبار أن العلم هو النسق المعرفي الأكثر تأثيرًا على الطبيعة في المجتمع الثقافي الغربي. لقد ساند العلمُ دعاوى "الخُضْر" الذين ندَّدوا بمظاهر تدهور البيئة مُمثَّلةً في ثقب الأوزون وانقراض الأنواع الحيّة وتآكل التربة الزراعية، وغيرها من كوارث لا تتوقف. لذا، يجد نقّاد الأدب أنفسهم، منذ ظهور فلسفة التفكيك Deconstruction وحركات ما بعد الحداثة والنقد التاريخي الجديد والدراسات الثقافية، في حالة قلق مستمر تجاه محاولة رسم حدود دقيقة أو فاصلة بين مفاهيم يُقصِي بعضُها بعضًا أو على الأقل يُزيح بعضها الآخر في مسار النظرية النقدية المعاصرة؛ أقصد إلى مفاهيم من قبيل الطبيعة nature والثقافة culture والتاريخ history والمجتمع society، فيحاولون عقد صلات مع هذه الاختصاصات بطرق متعددة، سواء كانت هذه الصلات دلالية أو تاريخية أو سياسية أو اجتماعية. لذلك، يواجه النقد الأدبي الأخضر طيفًا مُلوَّنًا من المقاربات البيئية. فهناك أولًا البنية الخطابية التي تندفع إلى المدى الذي يصبح فيه التمييز بين الطبيعة والثقافة في حدّ ذاته مُتَّكِئًا على قيم ثقافية خاصة، وثانيًا البنية الجمالية التي تنظر إلى منظومة القيم في الطبيعة بوصفها نسقًا موازيًا لما تتصف به النصوص من شعرية أو بريَّة، وثالثًا البنية السياسية التي تشدِّد على دور المصالح السلطوية في إضفاء القيمة على الطبيعة أو نزعها عنها، ورابعًا البنية العلمية التي تهدف إلى وصف وظائف المنظومات الطبيعية كما تنعكس على نصوص الأدب. لذا ينبغي لأي تحليل نقدي إيكولوجي أن يُموضع نفسه في علاقة طازجة مع هذه الخطابات أو الأبنية الأربعة، وأن يتحرَّى نقديًّا عن إسهامها في المشاريع الإيكولوجية الكبرى.

ثمة ندرة واضحة في البحوث والدراسات المكتوبة باللغة العربية[1] في موضوع "النقد البيئيّ" أو "النقد البيئويّ"[2] أو "النقد الإيكولوجي". وفي مقابل ذلك، ثمة عدد كبير ومتنوّع بشكل لافت للنظر من مراجع وبحوث ومقالات مكتوبة باللغة الإنجليزية على وجه الخصوص تقع في هذا المجال منذ ثمانينيات القرن الماضي. يندرج النقد الإيكولوجي ضمن إطار أكثر عمومية هو دراسات ما بعد الحداثة التي تمثّل مِظلّة معرفية كبرى تضمّ تيّارات ما بعد البنيوية والنسوية والتاريخانية الجديدة وما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية. يتّفق النقّاد والدارسون وباحثو الدراسات الثقافية المعاصرون على أن ثمة أعلامًا هم مَن فتحوا المجال لاشتغالات فكرية لاحقة شكّلت تيّارًا نقديًا هنا أو مذهبًا فنّيًّا هناك. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، إذا كان التاريخانية الجديدة

New Historicism قد ارتبطت باسم الباحث ستيفن جرينبلات Stephen Greenblatt أو ارتبط النقد الثقافي Cultural Criticism باسم فنسنت ليتش Vincent B. Leitch، فإن النقد الإيكولوجي Eco-criticism -من حيث الاصطلاح- قد اتصل باسم ويليام روكيرت William Rueckert[3] عام 1978 أولًا، ثم جاءت بعده بسنوات شيريل جلوتفيلتي Cherylle Glotfelty في التسعينيات التي استطاعت أن تبلور الموضوع وفق رؤية منهجية وجدت لها في أزمة البيئة أرضًا خصبة لبلورة نظرية موسّعة استطاعت أن تجذب إليها الكثير من الباحثين ونقّاد الأدب والفنون من بلدان مختلفة.

يمكن للباحث الثقافي (العربي) أن يفكّر في الشعر مثلًا (في قصائد من قبيل "الأرض" لمحمود درويش، أو "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيَّاب) أو الشعر المكتوب بالإنجليزية (مثل قصيدة "الأرض الخراب" لإليوت)، أو في القصة القصيرة العربية (من قبيل "نخلة على الجدول" للطيب صالح، أو "منحنى النهر" لمحمد البساطي، أو "بحيرة المساء" لإبراهيم أصلان) أو الرواية العربية، وما أكثرها في هذا السياق (مثل رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، و"نزيف الحجر" لإبراهيم الكوني، و"صخب البحيرة" لمحمد البساطي، و"حديقة حياة" للطيفة الدليمي، و"الإسكندرية 2050" لصبحي فحماوي، و"حرب الكلب الثانية" لإبراهيم نصر الله، و"تغريبة القافر" لزهران القاسمي، و"رماد العابرين" لياسر عبد الحافظ)، أو غيرها من السرديّات العربية التي تشتغل على مفهوم الطبيعة في تجلياتها العُليا، سواء كانت تُبئِّر على ثيمة "الأرض" أو "الصحراء" أو "البحر" أو "الطبيعة البرّية" أو "الرعوية".


    المصادر و المراجع
  • [1] لا يزال النقد البيئي فتِيًّا في الدراسات العربية. وتُعَدّ مقالة محمد أبو الفضل بدران ("أهمية النقد الأدبي البيئي في الدراسات النقدية"، المؤتمر الدولي الرابع للغة العربية، المجلس الدولي للغة العربية، 2015) المقالة العربية الأولى، رغم ما يمكن رصده عليها من تفكّك وتكرار وتسرّع في التطبيق، لكنها تظل المقالة صاحبة الريادة في هذا المضمار. ويمكن الرجوع إليها هنا: https://www.alarabiahconferences.org/wp-content/uploads/2019/09/conference_research-802789851-1436354361-1238.pdf ومما يجدر الإشارة إليه هنا أن الباحث الجزائري حفناوي بعلي قد استعمل مصطلح "النقد البيئي" قبل مقالة أبو الفضل بدران، تحديدًا في كتابه "مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن" (2007). وقد سبقهما كتاب "الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية" الذي ترجمه معين رومية (الذي أعُدّه أكثر الباحثين والمترجمين العرب اهتمامًا بالدراسات الإيكولوجية) ونشرته سلسلة "عالم المعرفة" بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت عام 2006. أما أحدث الدراسات العربية فهما إصداران مُهِمَّان: أولهما العدد الخاص الذي أصدرته مجلة فصول تحت عنوان "النقد الأدبي وتداخل الاختصاصات" (المجلد 26/2، العدد 102، شتاء 2018)، وتضمّن ملفًّا خاصًّا بعنوان "النقد البيئي". وثانيهما: الكتاب الرصين الذي أشرف عليه وحرَّره كل من معجب العدواني وأبو المعاطي الرمادي تحت عنوان: النقد البيئي: مفاهيم وتطبيقات، مؤسسة الانتشار- بيروت، وحدة السرديات بجامعة الملك سعود، الرياض، 2022.
  • [2]يُعَدّ كتاب جرج جرارد: "النقد البيئوي" الذي ترجمه إلى العربية عزيز صبحي جابر، وأصدرته هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث عام 2009 واحدًا من أهم الكتب التي أُتيحت للقارئ العربي الذي لا يعرف الإنجليزية في هذا الباب في السنوات القليلة الماضية. وهو مرجع معتمد في هذا المجال. يتناول الكتاب الطرق التي تتجسّد من خلالها العلاقة بين البشر والبيئة في مجالات الإنتاج الثقافي المتعدّدة، ابتداء بأعمال ووردزورث و ثورو وانتهاء بوثائقيّات ديزني وهيئة الإذاعة البريطانية عن الطبيعة. يتطرّق الكتاب إلى الحركات البيئية الحديثة، بحيث يوجّه إليها سهام النقد، ويستكشف أهم الموضوعات التي شغلت النقّاد البيئويين، مثل قضايا "التلوّث" و"الحياة البرّية" و"الرؤيا" و"السكن" و"الحيوانات" و"الأرض". لقد أسهم هذا الكتاب في إحداث تحوّل مفصلي في مسيرة تطور الدراسات الثقافية والنقد الأدبي بصفة عامة؛ إذ يستمدّ قوته المنهجية وشرعية وجوده من انتشار حركات حماية البيئة التي نشطت مجتمعيًّا منذ ستّينيات القرن العشرين حتى اللحظة الراهنة، خصوصًا بعد جائحة كوفيد-19 التي مثّلت ذروة عبث الإنسان مع البيئة. راجع: جرج جرارد: النقد البيئوي، ترجمة: عزيز صبحي جابر، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2009. وعنوان الكتاب بلغته الإنجليزية هو: Greg Garrard; Ecocriticism: The New Critical Idiom, Routledge, London and New York, 2004.
  • [3] يُعدّ ويليام روكيرت أول من استخدم مصطلح ecocriticism عام 1978 في مقالة له بعنوان "الأدب وعلم البيئة: تجربة في النقد البيئي ''Literature and Ecology: An Experiment in Ecocriticism.