د. محمد الشحات
يُعَدُّ النقدُ الإيكولوجي eco-criticism أو النقد البيئي أو النقد الأخضر واحدًا من أحدث فروع الدراسات البينية Interdisciplinary Studies التي علا مدُّها بالتزامن مع بزوغ الدراسات الثقافية. يحمل النقد الإيكولوجي على عاتقه مَهمّة تحليل الدور الذي تلعبه البيئة الطبيعية في تشكيل مخيّلة جماعة ثقافية ما في لحظة تاريخية بعينها، بغية التعرّف إلى الطريقة التي تُرى بها العلاقة المتوتّرة بين البشر والطبيعة. وهو نمط من الدراسات النوعية التي تصل بين العلوم الطبيعية والنقد الأدبي أو بينها والنقد الثقافي، على اعتبار أن العلم هو النسق المعرفي الأكثر تأثيرًا على الطبيعة في المجتمع الثقافي الغربي. لقد ساند العلمُ دعاوى "الخُضْر" الذين ندَّدوا بمظاهر تدهور البيئة مُمثَّلةً في ثقب الأوزون وانقراض الأنواع الحيّة وتآكل التربة الزراعية، وغيرها من كوارث لا تتوقف. لذا، يجد نقّاد الأدب أنفسهم، منذ ظهور فلسفة التفكيك Deconstruction وحركات ما بعد الحداثة والنقد التاريخي الجديد والدراسات الثقافية، في حالة قلق مستمر تجاه محاولة رسم حدود دقيقة أو فاصلة بين مفاهيم يُقصِي بعضُها بعضًا أو على الأقل يُزيح بعضها الآخر في مسار النظرية النقدية المعاصرة؛ أقصد إلى مفاهيم من قبيل الطبيعة nature والثقافة culture والتاريخ history والمجتمع society، فيحاولون عقد صلات مع هذه الاختصاصات بطرق متعددة، سواء كانت هذه الصلات دلالية أو تاريخية أو سياسية أو اجتماعية. لذلك، يواجه النقد الأدبي الأخضر طيفًا مُلوَّنًا من المقاربات البيئية. فهناك أولًا البنية الخطابية التي تندفع إلى المدى الذي يصبح فيه التمييز بين الطبيعة والثقافة في حدّ ذاته مُتَّكِئًا على قيم ثقافية خاصة، وثانيًا البنية الجمالية التي تنظر إلى منظومة القيم في الطبيعة بوصفها نسقًا موازيًا لما تتصف به النصوص من شعرية أو بريَّة، وثالثًا البنية السياسية التي تشدِّد على دور المصالح السلطوية في إضفاء القيمة على الطبيعة أو نزعها عنها، ورابعًا البنية العلمية التي تهدف إلى وصف وظائف المنظومات الطبيعية كما تنعكس على نصوص الأدب. لذا ينبغي لأي تحليل نقدي إيكولوجي أن يُموضع نفسه في علاقة طازجة مع هذه الخطابات أو الأبنية الأربعة، وأن يتحرَّى نقديًّا عن إسهامها في المشاريع الإيكولوجية الكبرى.
ثمة ندرة واضحة في البحوث والدراسات المكتوبة باللغة العربية[1] في موضوع "النقد البيئيّ" أو "النقد البيئويّ"[2] أو "النقد الإيكولوجي". وفي مقابل ذلك، ثمة عدد كبير ومتنوّع بشكل لافت للنظر من مراجع وبحوث ومقالات مكتوبة باللغة الإنجليزية على وجه الخصوص تقع في هذا المجال منذ ثمانينيات القرن الماضي. يندرج النقد الإيكولوجي ضمن إطار أكثر عمومية هو دراسات ما بعد الحداثة التي تمثّل مِظلّة معرفية كبرى تضمّ تيّارات ما بعد البنيوية والنسوية والتاريخانية الجديدة وما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية. يتّفق النقّاد والدارسون وباحثو الدراسات الثقافية المعاصرون على أن ثمة أعلامًا هم مَن فتحوا المجال لاشتغالات فكرية لاحقة شكّلت تيّارًا نقديًا هنا أو مذهبًا فنّيًّا هناك. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، إذا كان التاريخانية الجديدة