د. حصة المفرح
حضور الحيوان في الرواية العربية، وفي الأدب العربي عمومًا ليس مستغربًا بما أنه مكون مهم من مكونات الحياة الطبيعية، لكن ذلك لا يمنع من ربط هذا الظهور بالحركات التي كانت تطالب بحقوق الإنسان في دفعها لقضية الحيوان إلى المركز بعد أن كانت هامشًا، بداية من صدور كتاب (تحرير الحيوان) في عام 1975 لـ (بيتر سينجر)، وما تلاه من مؤلفات، حتى وصلنا إلى المؤلفات ذات العلاقة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية.
وفي مجال الأدب والنقد، هناك ثلاثة اتجاهات مهمة لفهم طبيعة الدراسات المعنية بالحيوان عمومًا، وقد نشأت هذه الاتجاهات بتأثير من حركة حماية حقوق الحيوان التي تركز على إعادة النظر في العلاقة بين الإنسان والحيوان، وهي: دراسات الحيوان، وسرد الحيوان، ونقد الحيوان.
ودراسات الحيوان، دراسات عامة لا تخص الأدب والنقد وحدهما، وإنما يُدرس الحيوان فيها من منظورات مختلفة: جغرافية، وتاريخية، وفنية، وعلمية، وسينمائية، واجتماعية، وجزء من هذه الدراسات ذهب إلى السؤال الأخلاقي؛ بدءًا من إجراء التجارب والبحوث العلمية عليها، ووصولًا إلى فكرة النظر في تحيز الإنسان ضد الحيوان، وإساءة تجسيد سلوكه الطبيعي في البيئات على اختلافها، وغيرها من القضايا.
أما سرد الحيوان: يعني حضور الحيوان في الأعمال الأدبية؛ بهدف رصد علاقته بالمجتمع الإنساني، والشواهد على هذا السرد كثيرة في الأدب القديم والحديث، وعلى مستوى الأجناس الأدبية المختلفة من: شعر، ورواية، وقصة، ورحلة، وغيرها.
ويُعنى نقد الحيوان بدراسة سرد الحيوان في الأدب، ووظائفه المتنوعة مع بعده الثقافي؛ منطلقًا من المنظورات المباشرة، أو ذات الحضور الرمزي سواء كانت سياسية، أو بيولوجية، أو اقتصادية، أو علمية، أو غير ذلك. حتى نصل إلى البعد البيئي أو (الإيكولوجي) الذي يفكك المركزية الإنسانية، ويتحدث عن معاناة الحيوان بفعل ظروف بيئية مثل: التلوث، أو نفوق الحيوانات بسبب الصيد، وتعرضها للانقراض، وغيرها من المشكلات البيئية.
وللربط بين الحيوان والنقد البيئي، سأتحدث عن الإبل تحديدًا، وأركز على الرواية العربية أيضًا؛ انطلاقًا من خصوصية الإبل الثقافية في المجتمعات العربية لا سيما حين نتحدث عن منطقة شبه الجزيرة العربية، والمناطق الصحراوية الممتدة في أجزاء كثيرة منها، وفي مناطق عربية متفرقة، ولم تحل محلها أي دابة أخرى أو تنافسها إلا الخيول العربية، ولا أدل على هذا الاهتمام، وهذه الخصوصية الثقافية، من اتخاذ وزارة الثقافة السعودية شعار عام الإبل ليمثل عام 2024 ثقافيًا؛ امتدادًا لخصوصيتها العربية، وحضورها في الثقافة العربية، ثم في الأدب خاصة شعرًا وسردًا، وبوصفها عنصرًا ثقافيًا مهمًا في الهوية السعودية.
والاحتفاء بالقيمة الثقافية للإبل في منطقة الجزيرة العربية منذ القدم وحتى يومنا هذا، ينطلق أيضًا من حضور الإبل بوصفها كائنًا حيًا يعيش في هذه الصحراء، ويتفاعل مع الحياة فيها بما أودعه الله -عز وجل- فيه من خصائص تعين على هذا التفاعل، وبما تمثله من قيمة للإنسان الذي يشاركه العيش في هذه الصحراء. وقد تحضر الإبل في الرواية والأدب عمومًا بطبيعتها المعتادة، أو تحضر حضورًا معماريًا، والمعمار جزء من عوالم البيئة لا سيما إذا ارتبط بمنحوتات الجبال التي بدت على هيئة هذا الكائن، كما في موقع اكتشف في منطقة الجوف شمال المملكة نرى فيه أثرًا لهذه المنحوتات التي مثلت (أيقونة الإبل)، وقد نشهد توظيفًا لمثل هذه المسارات في الأعمال الأدبية البيئية. والإبل قرينة للبيئة الصحراوية؛ لذا فإن دراستها بيئيًا ينطلق من حضورها داخل هذه البيئة وخصوصيتها.
وربما السؤال المطروح الآن، وقد تقف عليه بعض الدراسات المهتمة بالبيئة، وعلاقة الأدب بها، هو سؤال وجيه: لماذا يهتم أدباء هذا العصر بالإبل في أعمالهم الأدبية، ويبنون أحداثها على عوالم البداوة والصحراء؛ ليستحضروا هذا الكائن تحديدًا، ويكون مؤثرًا في سياقه؟ ولا تكون المسألة مجرد استدعاء يتجانس مع استدعاء تلك الفترات الزمنية المبكرة، أو الحوادث التاريخية التي تعاد صياغتها لتلائم عوالم التخييل. وما يهمنا هنا كيف يمكن أن تكون هذه الشخصية فاعلة في السرد من منظور بيئي؟
النقد البيئي من مجالات ما بعد الحداثة، التي تربط بين العلوم باختلافها، وصلتها بالكون ومكوناته من منظورات مختلفة، لكنها تتجانس في بعد بيني إذا ما رمنا النظر إليها ضمن علاقات التأثير والتأثر بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية. ولصلته بالأدب والنقد؛ فإنه سيعنى بهذا التأثير في العملية الإبداعية نفسها؛ إذ يشير هذا النقد إلى عقد ترابطات نصية وخطابية بين الأدب والطبيعة، والأرض والمكان والبيئة في ضوء قراءات متنوعة؛ مستفيدًا من علوم الحيوان والنبات والأرض والمناخ، وهو يتناول البيئة عمومًا بمحتوياتها
ومع تنوع اتجاهات النقد البيئي، إلا أنها عادة تذهب إلى موضوعات بيئية ذات ارتباط بالأخلاق البيئية، أو جماليتها في النصوص الأدبية خاصة والثقافة عامة
وما نتفق عليه جميعًا أن الأدب لا ينفصل عن البيئة، والأديب هو ابن بيئته كما يقال، إلا أن النقد البيئي يعنى بالبيئة، ويهجس بمعاناتها وهمومها من منظور خاص يتضمن" الحوار بين الإنسان وغير الإنسان" وهو ما يذهب الناقد البيئي إلى رصده
ولعل الوعي الذي ننشده في السرد البيئي، ثم ما يركز عليه النقد البيئي وجد مكانه في الرواية الجديدة كما يسميها (ميشال بوتور)