محمد إبراهيم يعقوب
تتأسس التجربة الشعرية في المملكة العربية السعودية على عدة تحولات، مثلها مثل العديد من التجارب الشعرية في الوطن العربي. ولا شكّ أن حركة الحداثة في الثمانينيات شكّلت علامة فارقة في هذه التحولات. وإن تميّزت هذه الفترة بغنى فكريّ ونقديّ ـ حتى لا نقول صراعات فكرية في معظمها ـ فإنها أنتجت لنا زوايا نظر جديدة، وسمات لما يمكن أن نسمّيه نصّاً شعريّاً سعودياً، وقد التفت إلى هذه السمات نقّاد تلك الفترة بشيءٍ من التفصيل، في محاولة لتوصيف ما كانت تلك النصوص تحاول أن تقوله، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، كتاب الدكتور سعد البازعي "ثقافة الصحراء" المهمّ في حينه، وما زال.
من أبرز هذه السمات الانتماء إلى الوطن ـ الصحراء، "والذي لا شكّ فيه أنّ انتماء الأدب إلى محيطه الثقافي وبيئته هو طريقه الحقيقي إلى الشمولية الإنسانية" [1]، وغنيٌ عن القول أن الحداثة الشعرية في المملكة العربية السعودية تميزت بالعديد من السمات إن على مستوى تقنيات القصيدة شكلا ولغة، وأيضاً على توجهات الرؤية الشعرية التي تبنّاها كثير من الشعراء الشباب وقتَها، مثل: سعد الحميدين وأحمد الصالح وعبد الله الصيخان ومحمد جبر الحربي ومحمد الثبيتي وعبد الكريم العودة وأحمد عائل فقيهي وعلي الدميني وفوزية أبو خالد وآخرين [2].
إلا أنّ هذا الانتماء إلى الوطن ـ الصحراء، وتمثّل روح البدويّ، ظهر جلياً عند محمد الثبيتي منذ ديوانه الأول، فنجده يقول
يا حادي العيس في ترحــالك الأملُ
يا حادي العيس قد نفنى وقد نصلُ
قد يحتوينا سهيــــــــلٌ أو يرافقنا
وقد يمدّ لنا أبعــــــــــــاده زحلُ
قد نحضن الفجر أو نحظى بقبلتهِ
وقد تجفّ على أفواهنا القُبلُ [3]
وفي ديوانه الثاني يتأكّد هذا المسعى من الثبيتي، يقول في نصّ "فواصل من لحنٍ بدويٍّ قديم":
مشرعٌ كالسيفِ
وجهٌ بدويّ
من رياح الليل مولودٌ
ومن طول السفر [4]
وفي نصّ "صفحة من أوراق بدويّ" يتعالى هذا الصوت انتماءً، لا تستطيع أن تفصل فيه بين الذات الشاعرة والصحراء، يقول:
أتيت أركض والصحــــــراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي
هذي الشقوق التي تختال في قدمي
قصائد صاغهـا نبض المســـــافات [5]
إلا أنّ تجربة ديوان "التضاريس" تبدو أكثر كثافةً، وتشبّثاً بهذا الرمل، وهي التي تتوّج الثبيتي سيّداً للبيد فيما بعد، يطفح ديوان "التضاريس" بهذا النشيد البدويّ الواثق والموجع في آنٍ، بدءاً من "جئت عرّافاً لهذا الرمل أستقصي احتمالات السواد" [6]، إلى:
أدر مهجة الصبح
صبّ لنا وطناً في الكؤوس
يدير الرؤوس
وزدنا من الشاذليّة حتى تفيء السحابه
أدر مهجة الصبح
واسفح على قلل القوم قهوتك المرّة المستطابه [7]
إلى أن يختم ديوان "التضاريس" بمقطوعةٍ كأنه يكلّم نفسه، يقول:
حسناً أيها الفارس البدويّ
هل تجرّعت حزن الغداة وصبر العشيّ
أرى وجهك اليوم خارطةً للبكاء
وعينيك تجري دماً أعجميّ [8]
وحتى عندما تتشّعب تجربة الثبيتي وتتّسع، لا يملك إلا أن يكون وفيّاً لقاموسه النفسيّ الفنّي، وأن يُسمّي ديوانه الرابع بعنوان "موقف الرمال" الذي يلمح فيه الدكتور عبد العزيز المقالح الذي كتب مقدمة هذا الديوان، يلمح فيه "حلم الرغبة في كتابة ما لم يُكتب" [9]
ينطلق ديوان الشاعر سلطان الضيط "الحداءُ على أبواب أطلنتس" من تعالق نصيّ عن قصد مع تجربة محمد الثبيتي، وهذا في حدّ ذاته وعيٌّ بالتجربة الشخصيّة، كما هو وعيٌّ بإرثها الشعريّ. ومحمد الثبيتي قد يُعدّ لدى البعض من أكثر مثّل التجربة الشعرية الحداثية في المملكة، وهو وإن لم يُستدعَ عند البعض كقاموسٍ شعريّ، فقد استُدعي كحالةٍ شعريّةٍ تنتمي لنا وتمثّلنا إن كمنجزٍ شعريّ، وإن كتجربةٍ إنسانيةٍ، استطاعت مع آخرين، أن تمدّنا بنماذج، لعلنا حاولنا البناء عليها، ولعلنا نجحنا في ذلك.
يُشير مصطلح "التعالق النصي" لـــــ"وجود علاقةٍ ما تربط بين نصّ شعري وسواه من النصوص الشعرية سواءً كانت هذه العلاقة جزئية أم كلية، إيجابية أم سلبية" [10] ، وأصبح أكثر جلاءً ربما منذ كتاب "علم النصّ" لجوليا كريستيفا [11] ، التي توصّلت إلى أنّ " كلّ نصّ هو عبارة عن لوحة فسيفساء من الاقتباسات، وكلّ نصّ هو تشرّب وتحويل لنصوص أخرى" [12] .
وقد يلتبس مصطلح التعالق النصي مع مصطلحات أكثر شيوعاً مثل التناصّ مثلاً، لكن مصطلح التعالق النصي الذي نحن بصدده قد يبدو "أكثر انفتاحاً لجميع أنواع العلاقات ومستوياتها مما يمكن أن ينعقد بآصرته بين نصّ وآخر دون الالتزام بمستوى محدد" [13].
في ديوان الضيط لن تنتظر طويلاً لتكتشف أنه يتمثّل تجربة الثبيتي بوعيّ شعريّ لافت، ليس على مستوى نصوصيّ ـ إن صحّ التعبير ـ ولكن على مستوى روحيّ، على مستوى الحالة ككلّ، القاموس والتجذّر والطقوس والذكرى والالتفات. والضيط إذ يقسّم الديوان إلى أربعة أقسام هي: "حُداء البدء" و "حُداءٌ لتلويحة الآل" و " حداءٌ لأسراب الحِداء" و "حُداء الصحارى والمطر" فإنه يبدأ كل قسمٍ باقتباسٍ من شعر الثبيتي كعتباتٍ دالّة، وهذا يذّكرنا باقتباسٍ للشاعر غازي القصيبي عند نشر قصيدته "صدى من الأطلال" يتعالق فيها نصّياً مع قصيدة الأطلال للشاعر إبراهيم ناجي، وقدّم القصيبي للقصيدة بمقدّمة تناصّية صريحة، يقول "إلى ذكرى ناجي العظيم، صاحب الأطلال، أهدي هذه القصيدة التي تحمل نفسه وروحه وعذابه دون أن تحمل ـ وا ـ موهبته" [14].
في ديوان سلطان الضيط، وإن كنت تحسّ بروح الثبيتي تُحلّق حول الديوان، في مثل " تراتيل نجدية" و "طفولة بدوية" والاشتغالات اللغوية في نصّ "فرسان عاجيان" منذ صيغة المثنى إلى التقابلات الثنائية من مثل " القنابل والسنابل" و "الحناجر والمحاجر" التي تذكّرنا بالتقابلات الثنائية عند الثبيتي في نصّ "موقف الرمال" من مثل"المسالك والمهالك" و "الخوارج والبوارج"، ـ بالرغم من تحليق روح الثبيتي ـ إلا أنّ النصّ عند الضيط يصنع سماواتٍ خاصةً به عبر تقنيات وموضوعات حديثة تعني الشاعر وحده وتخصّه وحده.
يبرز أول ما يبرز في ديوان "الحُداء على أبواب أطلنتس" هذه الجمل القصيرة الحادة والمكثفة التي تكتفي بنفسها، يقول الضيط:
في خيامٍ من الفضّة الخالصةْ
وُلدت هذه البنتُ لكنّها وُلدت ناقصةْ [15]
ويقول في مقطعٍ آخر:
أخاف البداية
إنّ البدايات لا تنتهي
أخاف ولكنني أشتهي [16]
ويقول في لحظة تجلٍّ صادقة:
لقد أوشك الملح أن ينتهي يا صديقي
وأوشك أن يبدأ السلسبيلْ
فمدّ يديك التي سُمّرت في الكؤوس إلى النهر واشرب
فنخبك يا صاحب العمر نخبك
هذا العذاب الجميلْ [17]
وأمّا إذا استدعى الضيط بداوته، وعلّقها على قارعة الطريق رايةً للعابرين إلى مكنونات قلبه، فإنه يبتكر بداوته هو، طفولتها وجغرافيتها ووجعها وشغبها، يقول: