هيثم حسين
تمضي الروائيّة السعوديّة بدرية البشر في روايتها "سرّ الزعفرانة" في رحلة عميقة عبر الزمن، حيث تتشابك خيوط الماضي بالحاضر لتروي حكايات نساء تحدّين العادات والتقاليد وظروف الحياة الصعبة. وتنتقل من عالم البداوة والتقاليد القروية إلى عالم الحداثة والتمدّن، بحيث ترسم لوحة بانوراميّة للمجتمع بأكمله - وليس للنساء فقط - مع كلّ تعقيداته ومتغيّراته.
يتمتّع عنوان "سرّ الزعفرانة" (دار رشم، الرياض، ٢٠٢٣) بجاذبيّة خاصّة، ما يدفع القارئ إلى التساؤل عن طبيعة هذا السرّ وما يمكن أن يكون مخفيّاً وراءه. والسرّ هنا ليس فقط ما تخبّئه الزعفرانة من أسرار شخصيّة، بل يتعدّى ذلك ليشمل الحكايات المتشابكة التي تربط الأزمنة والأمكنة والشخصيّات ببعضها بعضاً. فكلّ شخصيّة تحمل سرّها الخاص، وكل سرّ هو مفتاح لفهم أعمق للتجارب الإنسانيّة التي تمرّ بها النساء في مواجهة التحدّيات الاجتماعيّة والثقافيّة. يكمن سحرُ السرّ هنا في كونه يتكتّم على جانب من المجهول والغامض، وهو ما يجذب القارئ ويدفعه لاكتشاف ما وراء الأحداث والشخصيّات، وقد نجحت الكاتبة في جعل هذا السرّ محوراً يدور حوله السرد بأكمله، وأضفت بذلك على الرواية بعداً من الغموض والإثارة.
مواجهة التحدّيات
تنتقل الروائيّة بين أزمنة مختلفة، حيث تستعرض تطوّر الأوضاع الاجتماعيّة والثقافيّة للمرأة عبر مراحل تاريخيّة متعدّدة، وتتيح بذلك الفرصة للقارئ لفهم التغيّرات التي مرّت بها، وكيف أثّرت تلك التغيّرات على هويّتها وشخصيّتها، كما تبرز التفاعل بين العادات والتقاليد المتوارثة والمستجدّات التي طرأت على المجتمع نتيجة التطوّر والتحديث. وتشير إلى كيفيّة مساهمة هذا التفاعل في بلورة هويّة الشخصيّات وتحديد مساراتها ورسم مصائرها.
الذاكرة في الرواية عنصر فعّال في بناء الشخصيات وتطوّرها. فالذكريات تُروى بتفاصيلها الدقيقة، لتظهر على شكل مشاهد نابضة بالحياة، وتضفي على الرواية جوّاً من الحنين والألم والأمل في آن واحد. هذه الذاكرة الجمعيّة التي تنقلها شخصيّات الرواية، خاصّة نفلة، تدفع القارئ لإدراك كيف يمكن للمرأة أن تتحمّل الصعاب وتنقل تجاربها للأجيال القادمة، حاملةً معها حكمة الماضي وأمل المستقبل. تلعب الذكريات والرموز والأحلام التي تتخلّل السرد دوراً حيويّاً في كشف الأبعاد النفسيّة للشخصيّات، ما يجعل القارئ يشعر بأنّه يشاركها رحلاتها النفسيّة والشخصيّة ويسير برفقتها في محطّات حياتها. والشخصيّات النسائيّة، وعلى رأسها نفلة وزعفرانة، تحمل في داخلها ذكرياتٍ وأحلاماً وأسراراً تتعلّق بتجاربها وصراعاتها، وهذا ممّا يدفعها للمصابرة والمواجهة. تسلّط بدرية البشر الأضواء على الروابط الإنسانيّة التي تتشكّل بين النساء في مواجهة التحدّيات المشتركة. فالعلاقات النسائية ليست فقط صداقات عابرة، بل هي شبكات دعم تتيح للنساء مواجهة مصاعب الحياة بثقة أكبر. هذه الروابط تبرز خاصة في الأوقات الصعبة، حيث تجد النساء في بعضهنّ البعض ملاذاً من قسوة الحياة.
زعفرانة، الحكيمة الشعبيّة، تقدّم لنا نموذجاً للمرأة التي تتجاوز أدوارها التقليديّة لتكون قائدة ومعلّمة وراعية، تجمع حولها النساء لتعلّمهنّ وتساعدهنّ. وهناك كذلك نفلة التي تلعب دوراً مؤثّراً في تشكيل شخصيّتها وتقوية عزيمتها لمواجهة المشقّات التي تعترض طريقها.