المغالطات المنطقية في رفض أتعاب المحاماة

دراسة في ضوء نظرية الحجاج

عمر الشريف

المقدمة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبدالله وعلى آله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن حماية كلية العقل التي هي إحدى الكليات الخمس التي حافظت عليها الشرائع مقصد شريف حضَّ عليه الشارع، ولكمال كلية العقل في النفس لابد من أمرين: أن يعرف الإنسان كيف يفكر بطريقة صحيحة، وأن يعرف ما الطرق الخاطئة في التفكير، ومعرفة الشطر الثاني تتأكد لكل من باشر القضاء وهو مضمون هذا البحث، الذي سيتناول دراسة مركزة للاستدلال القضائي في رفض أتعاب المحاماة، من خلال فحص دقيق لحكم صدر عن محكمة الاستئناف الإدارية وقع في مغالطات منطقية، كاشفًا بذلك عن زاوية من علاقة مهمة للاستدلال القضائي بالجدل والمنطق، كما أنها محاولة من الباحث لتقديم منهجية جديدة لدراسة الاستدلال القضائي من خلال الأحكام المنشورة، لما للاستدلال القضائي من أهمية بالغة في طمأنة أطراف النزاع، وإيضاح وجهة العدالة لهم وفقًا لأدلة ثابتة، وتحليل سليم صحيح للوقائع، ولما يُستند عليه من قواعد ومبادئ منطقية.

التعريفات

المغالطات المنطقية– أتعاب المحاماة– نظرية الحجاج.

المغالطات المنطقية: الغلط: أن تعيا بالشيء فلا تعرف وجه الصواب فيه، والمغالطات المنطقية اصطلاحًا: أنماط شائعة من الحجج الباطلة التي يمكن كشفها في عملية تقييم الاستدلال غير الصوري، والمنطق غير الصوري هو استخدام المنطق في تعرف الحجج وتحليلها وتقييمها، كما تَرِدُ في سياقات الحديث العادي، والجدل السياسي والقضائي، وقد أشار المعجم الفلسفي إلى أن المغالطات المنطقية هي المركبة من مقدمات شبيهة بالحق ولا يكون حقًا، وبالرغم من تعدد تعريفات المغالطات المنطقية إلا أنها اجتمعت على تعريف المغالطة بأنها استدلالات تشبه الحق باعتبار ظاهرها الموحي بمطابقتها لطرائق وقواعد الاستدلال وصياغتها على هيئة أقيسة، كما اجتمعت على أنها فاسدة وخاطئة ولا تؤدي المطلوب .

أتعاب المحاماة: هي أتعاب المحامي وفقًا للاتفاق الذي يعقده الموكل معه، وذلك الاتفاق هو المرجع الذي يُستند إليه، في تحدد أتعاب المحامي وطريقة دفعها، فإذا لم يكن هناك اتفاق، أو كان الاتفاق مختلفًا فيه أو باطلًا، قدّرتها المحكمة التي نظرت في القضية عند اختلافهما بناء على طلب المحامي أو الموكل بما يتناسب مع الجهد الذي بذله المحامي والنفع الذي عاد على الموكل.

نظرية الحجاج: الحجاج هو: غلبة بالحجة، وحاجّه محاجّة، وحجاجًا: جادله، واحتج عليه أقام عليه الحجة، وعارضه مستنكرًا فعله، وتحاجوا تجادلوا، والحجة الدليل والبرهان. ويظهر من هذا أن الحجاج يكون لخصومة ما بين طرفي العملية التخاطبية، حيث إن هدف كل من طرفي الخطاب التأثير في الآخر وإظهار حجته عليه، كما يلاحظ أيضًا من التعريف المساواة بينه وبين مصطلح الجدل، على نحو ما قام به بعض العلماء المتقدمين، كابن خلدون وغيره من العلماء، والمعنى اللغوي المناسب للمعنى الاصطلاحي، الذي له علاقة مباشرة بمصطلح الحجاج، هو معنى القصد على نحو ما أورده ابن فارس -رحمه الله- في مقاييس اللغة، فالحجة تقصد، أو بها يقصد الحق المطلوب، ولذا يقال حاججت فلانًا فحججته أي غلبته بالحجة، وذلك الظفر يكون عند الخصومة، ذلك أن عملية الحجاج، وترتيب الأدلة، وتكثير الحجج، إنما جاءت لغاية ومقصد محددين ألا وهما التأثير في المتلقي وإقناعه بقضية معينة.

أسباب اختيار الموضوع
  • إن التعبير الواضح عن الحجة ركن من أركان الحكم الذي يصدره القاضي.
  • لا يكفي للقاضي لكي يحكم بشكل جيد على أي قضية أن يرى الأخطاء أو المخالفات في أقوال الآخرين وفي دفوعهم، بل لابد له أن يستند في حكمه إلى أفضل الحجج التي يمكنه ابتكارها في الوقت المتاح لفصل النزاع، وهذا يتطلب منه غالبًا التفكير في اعتبارات أخرى ذات صلة بالقضية غير ما يُعرض فيها من أدلة ودفوع وإجابات.
  • إن التفكير الناقد هو نوع من أنواع التفكير التقييمي، الذي يهتم بصورة خاصة بجودة المنطق أو الحجة التي تُقدّم لدعم الاجتهاد القضائي في فصل النزاعات.
  • إن المنطق يقوم بأنماطه الاستدلالية المتعددة في صياغة الاستدلالات القضائية التي يمارسها القضاة في الفصل في النزاعات في الدرجة الابتدائية، كما يمارسها قضاة الاستئناف في تقييمهم للأحكام الابتدائية وفي تسبيبهم عند تصديهم للفصل في بعض النزاعات.
  • الرغبة في إيجاد سبل لتحليل الاستدلال القضائي وتقييمه، سُبل يمكن أن تدرج جزءًا من الدراسة الفنية للأحكام والسوابق القضائية، ويمكن أن تُرْشِدَ التفكير القضائي وترتقي بالمناقشات حول الاجتهاد القضائي وأدوات الاستدلال له.
الدراسات السابقة

مدونة البحث: الأحكام القضائية لعام 1438هـ المنشورة في الموقع الإلكتروني لديوان المظالم تحت مسمى مجموعة الأحكام والمبادئ الإدارية لعام 1438هـ.

تتعدد الدراسات التي تتناول أتعاب المحاماة في الأحكام القضائية إلا أنها وفقًا لاطلاع الباحث لم تناقش وقوع الاجتهاد القضائي تحديدًا في المغالطات المنطقية للتسبيب برفضها، فعامة الأبحاث تتناول الحكم بأتعاب المحاماة ومدى الأخذ باتفاق الأتعاب من عدمه وأسباب عدول القضاء عن الأخذ به، وكيف تقدر المحكمة الأتعاب في حال عدم وجود اتفاق، وتسعى تلك الأبحاث في جملتها إلى رسم الملامح العامة لتقدير أجرة المحامي من المنظور القضائي، دون أن تتطرق في حديثها عن أسباب الرفض إلى وقوع الاجتهاد القضائي في مغالطات منطقية، وأما بحوث التعليق على الأحكام أو القرارات القضائية فهي بحوث تتناول الجانب الفني (الاستدلال بالنظام وبالقواعد وتحقيق متطلبات أنظمة المرافعات ...إلخ)، ولا تتناول ما يتعلق بالتفكير النقدي الذي يكشفه الحكم القضائي، أو تتعرض لوجود مغالطات منطقية في الاستدلال القضائي، أما الأبحاث التي تركز على التسبيب القضائي فإنها مع إشارتها إلى صور العيب في فساد الاستدلال وبحثها له، إلا أنها تقصر عن ربطه بالمغالطات المنطقية، وإثراء ذلك الربط بالأمثلة التطبيقية من واقع الأحكام المنشورة. فرضية البحث: يُسبب في عدد من الأحكام القضائية (بمجانية التقاضي) لرفض طلب المدعي التعويض عن أتعاب المحاماة، مع عدم النظر في المقتضيات الحقيقية للحكم بالتعويض عن ذلك الطلب، مع وجود أحكام قضائية أخرى صدر فيها الحكم بالتعويض استجابة لطلب المدعي بتسبيب واف لتلك الاستجابة. أهمية دراسة المغالطات المنطقية في تسبيب الأحكام القضائية:

التَّسبيب هو ترجمةٌ للاجتهادِ والعمَل الذِّهني الذي يقومُ به القاضي عندَ الفصلِ في القضيةِ والتوصُّلِ إلى الحُكم فيها، وهو مِرآةٌ تَظهر فيها الخُطواتُ التي سَلَكها القاضي حتى الحُكمِ في القضيَّة، ومن تعريفاته الاصطلاحية: ذِكْر القاضي ما بَنَى عليه حُكمَه القضائيَّ مِن الأحكامِ الكليَّة، وأدلَّتها الشرعيَّة، وذِكْر الوقائِع القضائيَّة، وصِفة ثُبوتها بطُرقِ الحُكم المُعتدِّ بها . وتكمن أهمية دراسة أسباب الأحكام القضائية من جهة ما اشتملت عليه من مغالطات منطقية، فوجود تلك المغالطات تعني وقوع القاضي في صورة من صور عيب الفساد في الاستدلال، ومعنى ذلك العيب: عدم مطابقة أسباب الحكم للمنطق ويتحقق إذا كانت الأسباب الموجودة التي اكتفي بها لا تؤدي عقلًا إلى النتيجة التي انتهى إليها القاضي في حكمه، أي ألا يكون استدلال الحكم بالأدلة التي استند إليها مؤديًا إلى النتيجة التي استخلصها منها، وهذا الاستخلاص هو نتيجة لعملية عقلية يقوم بها القاضي، إلا أنه إذا كان الاستخلاص مخالفًا للمنطق كان تقديره غير سائغ بما يتحقق معه عيب الفساد في الاستدلال، كما تتحقق شائبة الفساد في الاستدلال نتيجة تعسف القاضي في الاستنتاج أو استناده في الحكم إلى أدلة غير مقبولة، أو مسخ القاضي وتحريفه لعناصر إثبات الواقعة. أما عن صورة العيب الذي حصل عند الاستدلال بالمغالطة المنطقية فهو: عدم اللزوم المنطقي للنتيجة التي خلصت إليها المحكمة، [أي أن المحكمة استنبطت نتائج غير صحيحة من مقدمات الاستدلال المنطقي (القضائي) الذي أجرته نتيجة قيام الخلل والارتباك في مرحلة المقارنة التي يقوم بها القاضي بين المقدمة الكبرى والصغرى في القياس القضائي بغية الوصول إلى حسم النزاع]، وكل ذلك بالمخالفة للطبيعة المنطقية للتسبيب التي تقتضي بأن يتبع القاضي في فهمه للواقعة أو تقديره للأدلة التي تثبتها أو تنفيها قواعد المنطق، وذلك بأن يحلل الواقعة إلى عناصرها وأن يقدر الأدلة وفقًا لمضمونها ومعناها، ثم ينتج عن ذلك تكوين اقتناع موضوعي وسائغ، بحيث تؤدي المقدمات التي يستند إليها وفق قواعد العقل والمنطق إلى النتيجة التي انتهي إليها .

نص المغالطة المنطقية

نصت محكمة الاستئناف الإدارية في حكمها في القضية الإدارية رقم 2010/3 ق لعام 1433هـ المقيدة لديها برقم 2306/ق لعام 1438هـ في جلستها بتاريخ: 06/05/1439هـ -وذلك بعد تصديها للنزاع ونقض الحكم الابتدائي الذي حكم برفض الدعوى بالكلية- بأنه: [وأما عن طلب المدعي تعويضه عن أتعاب المحاماة بمبلغ قدره (290.178) مئتان وتسعون ألفًا ومئة وثمانية وسبعون ريالًا، فبما أن التقاضي مجاني في المملكة، ولا إلزام على المدعي بأن يقيم محاميًا عنه، وليس هناك رسومًا على التقاضي، كما أن المحكمة لم تحكم إلا بطلب واحد من طلبات المدعي، لذا فإن المحكمة تنتهي إلى رفض هذا الطلب وهو ما تقضي به]. وقبل الخوض في إيضاح ما اشتمل عليه حكم محكمة الاستئناف من مغالطات منطقية تلزمنا الإشارة إلى أن من أهم وظائف الحجة "الوظيفة البرهانية" أي وظيفة إزالة الشك (أو خفضه)، التي تفترض الإطار الآتي للحوار: ثمة طرف (المتلقي) لديه شكوك أو تساؤلات تتصل بنتيجة معينة، وثمة طرف آخر (صاحب الحجة) مهمته في الحوار هي إثبات هذه النتيجة إثباتًا يُقنع المتلقي ويرضيه وفقًا لمقتضيات عبء البرهان المناسبة لنوع الحوار وللحالة المعنية، ولهذا فإن من شأن الحجة السديدة لإثبات دعوى معينة أن تقدم دليلًا مستقلًا لتبرير الاعتقاد بهذه الدعوى، وأن تتجنب الاعتماد على الدعوى، أو شطر من الدعوى، لإثبات ذاتها. وما يكون لعاقل أن يفترض، كدليل أو بينة، ذات الشيء الذي يحاول أن يثبته، لأن الأصل في البرهان أن يكون أوضح وأوثق معرفة مما يراد البرهنة عليه. وقد اشتمل تسبيب محكمة الاستئناف الإدارية على نوعين من أنواع المغالطات المنطقية:

المغالطة الأولى: مغالطة المصادرة على المطلوب أو المصادرة على المطلوب الأول: وهي جعل نتيجة الدليل إحدى مقدمات الدليل بتغيير في اللفظ يكون سببًا لتوهم المغايرة بين النتيجة والمقدمة، وبعبارة أخرى: أن تكون معرفة المقدمات متوقفة على معرفة النتيجة، فالتسليم بالمسألة المطلوب البرهنة عليها من أجل البرهنة عليها!، وذلك بأن يفترض المستدل صحة القضية التي يريد البرهنة عليها ويضعها بشكل صريح أو ضمني في إحدى مقدمات الاستدلال. فهو بذلك يجعل النتيجة مقدمة ويجعل المشكلة حلًا ويجعل الدعوى دليلًا، ويدخل في هذا المعنى الاستدلال الدائري فهو صورة من صور المصادرة، ومع أن الاستدلال الدائري ليس مغالطةً في صميمه -على ما سيأتي إيضاحه- إلا أنه يغدو كذلك عندما يستخدم لكي يموه على فشل في حمل عبء البرهان، وتنجم المشكلة حيثما كانت النتيجة المراد إثباتها مفترضة أصلًا داخل المقدمات التي يتعين على الخصم أن يُسَلِّم بها ويبدأ منها. ويدخل فيها أيضًا ما يعبر عنه كثيرًا عند الأصوليين بالاستدلال بمحل النزاع أو محل الخلاف . وتتلون المصادرة على المطلوب بألوان كثيرة، وتتخذ أشكالًا متعددة، وتجيد التخفي أحيانًا في هيئة يتعذر كشفها إلا على المنطقي الخبير، ومن أبسط صورها وأكثرها شيوعًا أن تجعل المقدمة صيغة أخرى من النتيجة المراد البرهنة عليها ونورد لذلك مثالين:

أ) تستلزم العدالة أجورًا مرتفعة، وذلك لأن من الحق والصواب أن يكون الناس أقدر على الكسب الوفير (وهي لا تعدو أن تقول إن العدالة تتطلب زيادة الأجور لأن العدالة تتطلب زيادة الأجور!).

ب) السرقة فعل غير مشروع، لأنها لو لم تكن كذلك لما كان حرمها القانون، فهي حجة تتظاهر بأنها تبين السبب الذي من أجله تعد السرقة خطأ أو عملًا غير مشروع، مع أنها ليست أكثر من تكرار للقول نفسه بصيغة أخرى، ولا تعدو في نهاية التحليل أن تقول: السرقة ضد القانون لأن السرقة ضد القانون؛ أو السرقة غير مشروعة؛ لأن السرقة غير مشروعة. كما أن هناك أحوالًا أخرى لا يُفترض فيها مباشرة صحة المطلوب معبرًا عنه في المقدمات بطريقة أخرى، وأما الذي يُفترض فهو شيء تتوقف صحته على صحة النتيجة، أي لا يمكن البرهنة عليه إلا بالنتيجة فيكون هنا حينئذٍ دور يمكن تجريد الصورة المنطقية له على النحو الآتي: (أ) صادقة لأن (ب) صادقة و(ب) صادقة لأن (أ) صادقة، وبهذا نكون أمام شكل من أشكال المصادرة على المطلوب يعتمد فيه صدق الدعوى المقدمة على دليل يعتمد بدوره على الدعوى ذاتها التي يُفترض أن يبرهن عليها. وبذلك يدور البرهان في دائرة مغلقة وتعتمد كل قضية فيه على الأخرى، وهذا ما اصطلح على تسميته بالاستدلال الدائري، الذي يُعد مغالطة لنفس السبب الذي يجعل المصادرة على المطلوب مغالطة، فهو لا يقدم لنا دليلًا مستقلًا عن الدعوى ذاتها، كما أنه يفشل في أن يربط لنا ما هو غير معروف أو غير مقبول بما هو معروف ومقبول، وكل ما يفعله الاستدلال الدائري أنه يقدم لنا مجهولَين (أو أكثر) كل منهما مشغول بتعقب ذيل الآخر بحيث لا يتسنى له أبدًا أن يصل نفسه بالواقع، وبهذا يتضح بأن الحجج الدائرية ليست مغالطة بالضرورة، وإنما يتوقف الأمر على السياق الحواري للحجة وعلى الالتزامات الاعتقادية لدى المتحاورين، ولذا يمكننا أن نقول: إن المصادرة على المطلوب أو الحجة الدائرية هي "مغالطة تداولية" أي قصور يتعين تقييمه بالنظر إلى الطريقة التي استخدمت بها الحجة في سياق حواري معين لا تكون المصادرة على المطلوب مغالطة إلا إذا فشلت في تحقيق وظيفة مهمة من وظائف الحجة هي الوظيفة البرهانية، فإذا لم تغير شيئًا في درجة الثقة التي يكنها الخصم في النتيجة المعنية (المسألة المطلوب إثباتها)، فالأمر هنا يتوقف على ما يعتقده متلقي الحجة وعلى درجة الثقة التي كان يوليها للمسألة التي يُبرهن عليها، ويتفاوت بحسب الالتزامات الاعتقادية الأصلية للطرف المتلقي، فإذا كانت الحجة تكرر النتيجة في المقدمات (أي تثبت المسألة بذاتها أو تفترض ما يطلب الخصم إثباته) متوجهة بذلك إلى خصم لا يعتقد أصلًا في هذه النتيجة ولا يلتزم بها، فإنها عندئذ لا تؤدي وظيفتها البرهانية المنوطة بها، وهي بهذا المعنى وفي هذا السياق تُعدّ مغالطة .

إن الأصل في البرهان أن يكون أوضح وأوثق معرفة مما يراد البرهنة عليه والمصادرة على المطلوب لا تتجه في هذا الاتجاه، فهي موهمة بالتجديد وليست كذلك، قال ابن تيمية -رحمه الله-: وكثيرًا ما يستعملها هذا الجدلي في أغاليطه بل كثير من الأغاليط إنما تروج بها فإنه يغير العبارة ويكثر الأقسام ويطيل المقدمات ويجعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه من حيث لا يشعر الغبي، فافطن لهذا المعنى.

وبالنظر إلى تسبيب حكم محكمة الاستئناف الإدارية نجد أنه قدم حجة دائرية فشلت في تحقيق الوظيفة البرهانية فلا إلزام على المدعي بإقامة محامٍ، ولذا فالصواب ألا يستحق المدعي تعويضًا عن أتعاب المحاماة، فهو تسبيب لا يعدو أن يقول: أتعاب المحاماة ليست إلزامية؛ لأنه لا إلزامية على المدعي بإقامة محام، وبما أنه لا إلزامية فلا أتعاب، ولذا فالتسليم بعدم الإلزام تعني عدم استحقاق التعويض عن أتعاب المحاماة.

فمحكمة الاستئناف الإدارية افترضت صحة القضية التي تريد البرهنة عليها (عدم استحقاق التعويض عن أتعاب المحاماة) ووضعتها بشكل صريح في إحدى مقدمات الاستدلال (لا إلزام على المدعي بأن يقيم محاميًا عنه)، وجعلت النتيجة مقدمة والمشكلة حلًا والدعوى دليلًا، فقدمت المحكمة حجة دائرية لكي تلقي عن كاهلها حمل عبء البرهان.

المغالطة الثانية: تجاهل المطلوب (الحيد عن المسألة): وفي هذه المغالطة يتجاهل المرء الشيء الذي يتوجب أن يبرهن عليه، ويبرهن على شيء آخر، وقد يبدو استدلاله معقولًا بحد ذاته، ولكن المغالطة هنا في أنه يبرهن على نتيجة أخرى غير النتيجة المطلوبة التي يتعين عليه أن ينصرف إليها دون غيرها. بذلك تتسم الحجة بسمتين: أنها قد خرجت عن الهدف المحدد لها، وأنها قد اتجهت مباشرة إلى نتيجة أخرى، وهذا الانصراف يُعدّ مغالطة حتى وإن كان القياس صحيحًا بأركانه فالخصم يطالب ببرهان قضية، فالانصراف عنها خروج عن المطلوب، وإيهام بحصول ما تجاهله، ومن أمثلة ذلك أن يقف محامي الادعاء في جريمة قتل، وبدلًا من أن يبرهن بالحجة على أن المتهم هو مرتكبها، يشرع في إثبات بشاعة القتل وبشاعة الجريمة، فمع أن الادعاء قد ينجح في تقديم مرافعة عصماء ويثبت هول جريمة القتل بألف حجة، غير أنه إذا جعل من ذلك دليلًا على أن المتهم مذنب بها يكون قد ارتكب مغالطة "تجاهل المطلوب"، وهذه المغالطة تتمتع بجاذبية خفية، وتكمن قوتها في أن هناك نتيجة أُثبتت على نحو صائب، وهذا الصواب هو الذي يصرف انتباه المستمعين بعيدًا عن المغالطة .

فمحكمة الاستئناف الإدارية تجاهلت ما تحمله المدعي من أتعاب للوصول إلى حقه أو جزء منه مع أنها نصت على أنها حكمت له بطلب واحد من طلباته، فضلًا عما ناله من طول في مدة التقاضي التي بلغت قرابة الست سنوات (من عام 1433هـ إلى عام 1439هـ)، وما صاحبها من تكرر في نقض أحكام الدائرة الابتدائية، وتعقد موضوع الدعوى والحكم له ببعض طلباته، وانصرفت عن كل ذلك إلى بيان مجانية التقاضي وعدم وجود أي رسوم عليه، وما يعنيه ذلك من عدم إلزام إقامة المحامي.

وجه فساد كل من المصادرة على المطلوب وتجاهل المطلوب:

المغالطات عمومًا من اسمها مغالطة فهي مردودة، ولهذا عدها العلماء -رحمهم الله- من أوجه الخطأ في البرهان؛ وعلة ذلك أنها لا تفيد يقينًا بل مجرد الشك والشبهة، وقد حكم على مغالطة: المصادرة على المطلوب بخصوصها بالفساد من جهة أن النتيجة ليست مغايرة للمقدمتين فلم يحصل علم زائد عليها، قال ابن تيمية -رحمه الله-: أما المصادرة على المطلوب، أو الاستدلال على المقدمة بنفس ما يدل على المدعى فقبيح بالاتفاق، وقال في موضع آخر: وهو من المصادرات القبيحة المردودة بإجماع العقلاء، ولهذا يمكن القول إن فوات شرط الإنتاج هو قطب رحى فساد المصادرة على المطلوب .

أثر حكم محكمة الاستئناف الإدارية على الواقع:

وقبل الشروع في بيان أثر ذلك الحكم مع ما تضمنه من مغالطات منطقية تحسن الإشارة إلى اجتهاد آخر لذات دائرة الاستئناف قبل أقل من سنة على صدور حكمها محل الدراسة وتحديدًا حكمها الصادر في جلسة: 15/06/1438هـ في القضية المقيدة لديها برقم 3590/ق لعام 1437هـ، كانت قد أيدت حكمًا صدر عن دائرة ابتدائية بالتعويض عن أتعاب المحاماة.

وأما عن أثر حكمها فيمكن إجماله في قسمين:

القسم الأول على الاجتهاد القضائي للقضاء الإداري في ذات المدونة: حيث ظهر حكم محكمة الاستئناف بمظهر الاجتهاد القضائي المتخبط لمحكمة أساس عملها ينصب على التقييم لاجتهادات المحاكم الابتدائية، فضلًا عن عدم إدراكها لما يصدر عن محاكم الاستئناف الإدارية أو عن ذات دائرة الاستئناف من تأييد أو استدلالات قضائية وتأصيلات موسعة في حال التصدي استجابة لذلك الطلب المقدم في الدعاوى الإدارية، ولإيضاح ذلك بشكل تطبيقي نورد مثالين هما:

أ) أحكام قسم العقود من ذات المدونة تناولت موضوع أتعاب المحاماة في عشر قضايا غير القضية محل الدراسة (أي بما مجموعه 11 قضية)، حكم في أربع منها بأتعاب المحاماة على اختلاف في تقدير القيمة، وخمس منها رفضت بناء على الحكم برفض الدعوى من أساسها والأتعاب فرع عنها، وقضية رفض الطلب؛ لأن المدعي لم يقدم ما يثبت الطلب، والحكم الأخير هو الحكم محل الدراسة.

ب) ذات المدونة أفردت قسمًا عنون بـــ: أتعاب المحاماة، تضمن القسم ثلاثة أحكام قضائية حكم فيها جميعًا بأتعاب المحاماة، الحكمين الأولين أيدت فيها محكمة الاستئناف الإدارية الأحكام الابتدائية التي صدرت في هذا الطلب الأول بمبلغ (15 ألف ريال) خمسة عشر ألف ريال، والثاني بمبلغ (30 مليون ريال) ثلاثين مليون ريال، وأما الحكم الثالث فقد تصدت له محكمة الاستئناف الإدارية بجدة وحكمت بأتعاب المحاماة بمبلغ (13.700.250 ريالًا) ثلاثة عشر مليونًا وسبعمائة ألف، ومئتين وخمسين ريالًا، ولا شك بأن ذكر تلك النماذج لا يعكس حقيقة ما يعانيه هذا النوع من الطلبات من تخبط في الاستدلال القضائي، خاصة بالنظر لما سيرد في القسم الثاني.

القسم الثاني: على المشهد القضائي بشكل أوسع:

  • أن جهات الإدارة أصبحت تستند إلى تلك المغالطة المنطقية في اعتراضها على الأحكام القضائية التي تصدر عليها، وتتضمن الحكم بدفعها لأتعاب المحاماة ومن ذلك القضية في المحكمة الإدارية 1367 لعام 1443هـ المقيدة في محكمة الاستئناف الإدارية برقم 5769 لعام 1443هـ.
  • استمرار محكمة الاستئناف الإدارية في استخدام تلك المغالطة المنطقية في أحكام جديدة صدرت في عام 1443هـ، منها: الحكم في القضية 4900 لعام 1441هـ المقيدة في محكمة الاستئناف الإدارية برقم 7700 لعام 1442هـ جلسة الاستئناف بتاريخ: 21/03/1443هـ.
  • أقدم حكم قضائي تناول أتعاب المحاماة ورفضها بناء على تسبيب مقارب في المضمون لما صدر عن محكمة الاستئناف هو الحكم في القضية رقم 132/2/ق لعام 1417هـ الحكم الابتدائي 25/د/إ/9 لعام 1419هـ المؤيد من هيئة التدقيق برقم 48/ت/1 لعام 1420هـ، وأقدم حكم ماثل حكم الاستئناف في جزئية أنه لا إلزام على المدعي بأن يقيم محاميًا عنه هو الحكم في القضية رقم 248/3/ق لعام 1423هـ الحكم الابتدائي 22/د/إ/15 لعام 1425هـ المؤيد من هيئة التدقيق برقم 128/ت/1 لعام 1425 هــ.
الخاتمة

الحمد لله أولًا وآخرًا، وبعد هذا العرض الموجز بما وقفت عليه تعقبه جملة من التوصيات:

  • المغالطات أنماط من الحجج الباطلة التي تتخذ مظهر الحجج الصحيحة، ويمكن كشفها في عملية تقييم الاستدلال غير الصوري.
  • في معرفة المغالطات في الاستدلال القضائي فائدة عظيمة في كشف طرق الاستدلال القضائي الصحيحة وبناء النقود والردود بناء سليمًا.
  • التفكير النقدي والعلمي ليس شيئًا فطريًا نتوقعه من القاضي بمجرد تعيينه في العمل القضائي؛ وإنما هو عمل حرفي يتطلب حِذقًا ومهارة، ولذا ليس من الصحيح أن نتوقع تفكيرًا واضحًا ونقديًا من القاضي بغير تعلم وتدريب وبغير ممارسة.
  • دراسة المغالطات في الاستدلال القضائي ليست بديلًا عن دراسة مبادئ الاستدلال الصحيح؛ إلا أن تفشيها في بعض الأحكام القضائية على مدى زمني طويل، حقيق بأن يَرُدَّ إلى نظرية المغالطات أهميتها على الساحة القضائية فمن غير الكافي في تمييز الاستدلال القضائي أن نحدد شروطه بل لابد أيضًا ليكون التمييز واضحًا كل الوضوح أن نبين أين وجد الغلط.
  • تكشف المغالطات المنطقية عن أوجه الاستدلال الصحيح، وأساليب الدفع للحجاج، وتعرفنا جوهر الحجة المقبولة.
التوصيات:
  • دعوة مجلس القضاء الإداري والمجلس الأعلى للقضاء إلى جعل تسبيب الأحكام القضائية من عناصر تقييم كفاءة القضاة عند ترقيتهم أو المفاضلة بينهم، وتمييز القاضي الكفء عن غيره ببيان قدرته على تسبيب الأحكام التي يصدرها وقدرته على التحليل والاستنتاج، إضافة إلى إعمال هذا الأمر على قضاة محاكم الاستئناف عند تصديهم للقضايا ونظرهم لها.
  • دعوة المحكمة الإدارية العليا إلى إصدار مبدأ قضائي خاص بمنع القضاة من رفض أتعاب المحاماة بناء مغالطة المصادرة على المطلوب.
  • الاهتمام بتحليل الأحكام القضائية ودراستها وفقًا لنظرية الحجاج.
  • دعوة المتخصصين من غير القضاة لفحص الاستدلال القضائي في الأحكام القضائية المنشورة وخاصة ما ورد فيه من مغالطات منطقية.
  • تخصيص برامج تدريبية تطبيقية للقضاة وخاصة حديثي التعيين تركز على التفكير النقدي ومهارات الاستدلال والبحث والمناظرة.

    المصادر و المراجع
  • الدمنهوري، أحمد عبدالمنعم، إيضاح المبهم شرح السلم، (ط القاهرة، البابي الحلبي، 1342).
  • ابن فارس، أحمد القزويني، مقاييس اللغة، تحقيق عبدالسلام هارون (ط دار الفكر 1979 م).
  • المالكي، أسعد بن سالم، ما بين الحجاج والبرهان والاستدلال، مجلة كلية التربية، جامعة المنصورة، العدد 120، أكتوبر 2022م.
  • الخميس، إيمان بنت عبدالله، مغالطة المصادرة على المطلوب دراسة نظرية تطبيقية، (مجلة الدراسات العربية، كلية دار العلوم، جامعة المينا، المجلد: 38، العدد 4 - ديسمبر 2018م).
  • عادل مصطفى، المغالطات المنطقية فصول في المنطق غير الصوري، (ط 1، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة 2007م).
  • مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، (دار الدعوة، القاهرة).
  • مراد وهبة، المعجم الفلسفي (دار قباء الحديثة، القاهرة 2007م).
  • الأمين والعربي، بن سليم الأمين، مراد العربي، بين الجدل والحجاج دراسة وصفية مقارنة للمصطلح بين الفكر العربي والنظرية الحجاجية الحديثة (مجلة الصوتيات، المجلد 18، العدد 2، ديسمبر 2022 م).
  • ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبدالحليم، تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (ط3، 2019، دار ابن حزم بإشراف مجمع الفقه الإسلامي).
  • الأنصاري، زكريا بن محمد شيخ الإسلام، المطلع شرح إيساغوجي (ط بولاق، 1282).
  • فرج، سعيد بن أحمد صالح، المغالطات في الجدل الأصولي دراسة استقرائية تحليلية تطبيقية (مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بكفر الشيخ، العدد 6، الإصدار الثاني، ج 1، العام 2023م).
  • عساف، حسين شاكر خلف، تسبيب الأحكام المدنية، (المجلة الأردنية في القانون والعلوم السياسية، المجلد 15 العدد 4، 2023م).
  • ظاهر، حسين، التنظيم القانوني لتسبيب الأحكام القضائية الفلسطينية في المواد القانونية المدنية والتجارية (دراسة مقارنة)، (رسالة ماجستير، جامعة النجاح الوطنية، 2019م).
  • النقض المصرية، حكم محكمة النقض المصرية (نقض مدني مصري 55/6335) حكم منشور على شبكة الإنترنت.
  • التكروري، عثمان، الكافي في شرح قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية (ط4، المكتبة الأكاديمية، فلسطين 2019 م).
  • الزهراني، عائشة عبدالله، تسبيب الأحكام القضائية دراسة تحليلية وفقًا للنظام السعودي (مجلة البحوث الفقهية والقانونية، كلية الشريعة والقانون بدمنهور، جامعة الأزهر، العدد 43، أكتوبر 2023م).
  • بدوي، عبدالرحمن، المنطق الصوري والرياضي (ط 3، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1968 م).
  • حشاني، عباس، مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته، (مجلة المخبر، أبحاث في اللغة والأدب الجزائري، العدد 9، لعام 2013 م، جامعة بسكرة، الجزائر).
  • الميداني، عبدالرحمن حسن، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، (ط 4، دمشق، دار القلم، 1414 - 1993م).
  • الشنقيطي، عبدالعزيز بن يحيى المولود، المصادرة على المطلوب وأثرها في مناقشات الأصوليين، (مجلة الجامعة الإسلامية للعلوم الشرعية، العدد 191، ج الثاني).
  • ابن منظور، محمد بن مكرم جمال الدين، لسان العرب، (ط 3، بيروت دار صادر 1414).
  • الزبيدي، محمد بن محمد الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مجموعة من الباحثين، (ط 2، الكويت، حكومة الكويت، 2001م).
  • الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني، آداب البحث والمناظرة، تحقيق سعود العريفي، (ط 1، مجمع الفقه الإسلامي، دار عالم الفوائد).
  • البابرتي، محمد محمود، الردود والنقود شرح مختصر ابن الحاجب، تحقيق ضيف الله العمري وترحيب الدوسري (ط 1، الرياض، مكتبة ابن رشد 2005 م).
  • المحاماة، نظام، نظام المحاماة، الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/38 وتاريخ: 28-07-1422هـ.
  • عمر، نبيل إسماعيل، الفساد في الاستدلال أهم عيوب تسبيب الأحكام القضائية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2011م.
  • الرهوني، يحيى بن موسى، تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول، تحقيق الهادي شبيلي ويوسف الأخضر، (ط 1، دبي، دار البحوث للدراسات، الإمارات 2002 م).
  • المظالم، ديوان المظالم، مجموعة الأحكام والمبادئ الإدارية لعام 1439هـ، نشر إلكتروني على موقع ديوان المظالم.
  • ذنون، ياسر باسم، دور الاستدلال المنطقي لفهم الوقائع والأدلة في الدعوى المدنية (مجلة الرافدين للحقوق، المجلد 9، س الثانية عشر، العدد 33، عام 2007م).