المترجمون جسر مرتزقة بين الثقافات

حسين إسماعيل

جلست مرارًا قبال لوحة مفاتيحي محاولًا الإتيان بمقدمةٍ مناسبة لموضوع هذه المقالة. مرة كنت سأفتتحها بما دار بخاطري عام 2019 حينما تجولتُ في أزقة جامعة أوربينو الإيطالية على هامش حضوري ورشة عمل جيولوجية. توقفت عند مكتبة صغيرة، وبحثت في اكتظاظ الكتب الإيطالية عن أية عناوين مألوفة أو مفهومة. وصادف أن وقعت عيناي على غلاف يحمل خريطة مبسطة للشرق الأوسط. أخذت الكتاب وطالعت صفحاته الأولى. كان أطروحة في الاقتصاد السياسي لمنطقة الخليج العربي، وقد نُشر أول مرة بالإنجليزية قبل أقل من عام. أخرجت جوالي وسارعت بالبحث عن عنوان الكتاب أو المؤلف بالعربية علني أجد الكتاب تُرجم للغتي التي يقال أن عدد متحدثيها يفوق بثلاثة أضعاف متحدثي الإيطالية. وكانت خيبة الأمل أن نتاج البحث صفري.

وكنت أعتزم من وراء البدء بالحكاية التساؤل عن مواطن القصور في عملية نقل المعارف المنتجة عنا إلى لغتنا الأم. لم أكن مهتمًا حتى بذكر بسياسات إنتاج المعرفة أو بفك ارتباط تصورات مستقبلنا عن التاريخ التطوري المنحوت في أسس العديد من المجالات المعرفية. جل ما شغل بالي هو الانهماك المفرط على ترجمة أنواع أو تيارات معينة من الكتب والموضوعات، في حين تظل كثيرٌ من المعارف المنتجة حول ظواهرنا المعاصرة خارج نطاق الاهتمام.

ولكن هذه الافتتاحية بدت أضعف مما يجول بخاطري اليوم. ولذا عدلت عنها مبدئيًا باتجاه أخرى تتناول إحدى إشكاليات ترجمة بول تيرنر الإنجليزية التي تحمل عنوان التاريخ الحقيقي: لوشيوس، أو الحمار، وهما قصتان كتبهما لوقيانوس السميساطي.[1] اتخذ المترجم قرارًا باستخدام مفردة "الشيوعيون" لينقل لنا تصورًا أفضل حول نظام إحدى الدول الفاضلة بالكتاب. وبرغم دفاعه في المقدمة التي كتبها عما استقر عليه من تغليب المفارقات التاريخية في سبيل إحياء النص لمخيلة قارئ اليوم (أي الخمسينيات حين نُشرت ترجمة الكتاب)، إلا أن عقلي بدأ يطرح التساؤلات الواحد تلو الآخر.

وأغلب ما راودني حيال قرار المترجم مرتبط بالكيفية التي تكتسب المفردات فيها تجريدًا من شأنه تشويه أو تضليل الواقع الذي تصفه تلك المفردات. فعلى سبيل المثال، حتى لو صح افتراض المترجم بكون مفردة "الشيوعيون" أقرب لقارئ اليوم، إلا أنها تمتلك بطبيعة الحال إرثًا فكريًا محددًا (ماركسيًا-لينينًا-ستالينيًا) يرتبط بلوازم أخرى عن مفهوم الدولة والنظام الحاكم والأحزاب السياسية والمواطنة فضلًا عن أخريات. ومن هذا المنطلق، فإن قرار المترجم بتغليب الحاضر سيحرم القارئ المسكين إشكاليات المفردة التي استخدمها لوقيانوس، والتي قد تفتح بابًا لمزيد من التساؤلات حول شبكة المعاني الأصلية التي تنوجد الكلمة في كنفها.

وبعدما تعمقت في إشكاليات هذا القرار على ضوء فلسفات تأريخ الأفكار المختلفة، رأيت أن هذا الأسلوب لن يخدم نقاطًا أخرى وددت التطرق إليها حول سياسات الترجمة عمومًا. ولذا سرعان ما أعدت تقليب أفكاري باحثًا عن مقدمة مُثلى أكثر. وظننت أني عثرت على ضالتي لما تذكرت اليد الخفية التي تلعبها القوى الإمبريالية في توجيه حركات الترجمة وصياغة المشهد الأدبي.[2] لم أكن مهتمًا بما أورده جويل ويتني حول استعمال وكالة الاستخبارات لكتّاب مثل إرنست هيمنغواي أو غابرييل غارسيا ماركيز سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بل ركزت اهتمامي على الكيفية التي لعبت فيها روايات جورج أورويل دورًا في بث آيديولوجيات الجبهة الغربية الرأسمالية ضد كل مد اشتراكي شيوعي في الشرق الأوسط. وليس أوضح على ذلك مثالًا من دعم الاستخبارات الأمريكية لأولى ترجمة عربية لرواية مزرعة الحيوان، وهي الصادرة عن دار المعارف بترجمة عباس حافظ.[3]

ثم ساورتني الشكوك حول ملاءمة هذا النقد لما سأعرج عليه من تأملات حول عملية الترجمة، لا سيما وأن العلاقة بين الأدب والسلطات ليست دائمًا بالشكل الذي تتخذه الصيغة أعلاه. وغني عن القول أني حددت كل ما على صفحة الوورد وضغطت زر المسح.

وكنت قاب قوسين أو أدنى من استحضار صدور كتاب معالم الحداثة وما تلاه من كتابات تحتفي بأهمية الكتاب ونصوصه في تعريف القارئ العربي بمعالم هذه الحركة التي غيرت وجه العالم. وقد تساءلت في تلك المحاولة عن معنى صدور مثل هذا الكتاب أواخر عام 2021، أي بعد نصف قرن من تصدّر الأطروحات المعارضة لمفهوم الحداثة المشهد الأكاديمي الذي ينحدر منه مترجم النصوص. كما استرسلتُ في الحديث عن تأريخ مفردة لم يتبلور معناها الذي يتبناه الكتاب (الذي يغطي حقبة زمنية تمتد من القرن السابع عشر حتى العشرين) إلا مطلع القرن التاسع عشر، الأمر الذي يسلط الضوء بدوره على دور التأريخ المتخيل في إعادة فهمنا للتاريخ والحاضر، فضلًا عن تبعات اعتبار الحداثة (أي حداثة) حركة أساسها فكريّ انعكس لاحقًا على الواقع الغربي الملموس.[4] لكن لسوء حظي وحسن حظكم، وصلت لطريق مسدود في إعادة صياغة الأطروحة على ضوء الفكرة التي نويت طرحها عن الترجمة بشكل أعم.

والحقيقة أن هذا الطريق المسدود مصيرٌ اشتركت فيه مقدمات أخرى، كالتي كتبتها عن الحذف الذي لحظته في الترجمة العربية لرواية المسلخ رقم 5، أو التي كتبتها عن التشويه الذي طال ترجمة الحارس في حقل الشوفان بدءًا من العنوان ومرورًا بحذف كلمات مفتاحية وليس انتهاء بإساءة فهم مشاهد تشكل لب الرواية، أو التي كتبتها عن مرةٍ انتُقدت فيها ترجمتي الخاصة لقصة ريموند كارفر المعنونة بـ "الكاتادرائية" بحجة استحالة أن تكون لغة القصة سهلةً ويومية كما ظهرت بترجمتي العربية، إذ أن ريموند كارفر أديبٌ أمريكي كبير، ولا شك قياسًا على ذلك بكون لغته أدبية رفيعة لا يبلغها العوام (تنويه: لم يكن صاحب هذه الملاحظة يتقن لغة الإنجليزية). بل راودتني حتى فكرة افتتاح المقالة بالبيان الذي خرجت به إحدى دور النشر العربية عن افتخارها بأسلمة ترجماتها لروايات آجاثا كريستي لكي تلائم معتقدات القارئ العربي وقيمه، القارئ المسكين الذي يحتاج على الدوام يدًا ترشده لطريق الحق والصواب رضي بذلك أم أبى.

اعتزمتُ في كل مقدمةٍ ناقصة مما سبق الخروجَ عن عباءة مفهوم الترجمة المقدس الدارج في أوساطنا، مبتغيًا الاتجاه نحو الكيفية التي تتحقق بها الترجمة أساسًا، أي عملية الترجمة نفسها، بكل ما تنطوي عليه العملية من تداخلات سلطوية ومؤسساتية وفردية. لا تُمارس الترجمة في فراغ، وليس ثمة "ترجمة" إلا من خلال فعل الترجمة. ولذا لا معنى لمناقشة ماهية الترجمة أو خصائصها أو أي مما يتعلق بحاضرها ومستقبلها إلا بقياسها على ما يجري على أرض الواقع فعلًا، سواء على مستوى القرارات التي يتخذها المُترجِم أثناء ترجمته، أو على مستوى منظومة النشر التي تصوغ قواعد ما يُنشر -بكل ما يتعلق بذلك من موارد مادية وغيرها-، أو على مستوى تباينات القوى على المشهد العالمي، أو على غيرها.

عطفًا على ذلك، لا يهمني هنا إطراب المسامع إزاء كون الترجمة جسرًا بين الحضارات ولا كونها لبنة أساسية في سبيل التمدن أو التقدم أو غيرها من المفردات الرنانة. سواء كانت كذلك أم لا ليس مهمًا لأغراضي، إذ لا يتعلق طرحي بمفهوم الترجمة مجردًا ومقدسًا. ولو احتجتُ لتبرير عدولي هذا لقلت أني أميل للاعتقاد باستبطان هذه التصورات علائق محددة حول اللغة والدولة-الأمة، مما يعني بالضرورة ارتهانها بافتراضات مسبقة كذلك عن عملية (أو عمليات) التثاقف وآليات الاتصال بين الثقافات المختلفة. بعبارة أخرى، توحي مقولة "الترجمة جسر بين الثقافات" بأن الانفصال الثقافي هو الأصل الذي ينبغي تجسيره بالترجمة، وهو ما يهمش أي أسئلة حول وجود هذا الانفصال (حقيقيًا كان متخيلًا) وأسبابه أو الأسئلة حول الكيفية التي تشيد بها الجسور على يد فاعلين يمكن الإشارة إليهم وتحت أي سياقات وبناء على أي مصالح. ستشكل هذه الهموم الأخيرة حجر الأساس لهذه المقالة؛ ليس ثمة أطروحة فعلية هنا، وجل ما أصبو إليه هو التفكير بصوت عالٍ إزاء بعض الإشكالات التي تكتنف هذه العملية المعقدة المسماة ترجمة.

تبدأ الحكاية هنا من حادثة تسبق كل ما أوردته في المقدمات السابقة دون أن تقل عنها تعقيدًا. قضيت شهر عسلي عام 2015 استجمامًا في جزيرة بالي الإندونيسية. ولأني كنت قد اتخذت قرارًا حينها بقراءة آداب الدول التي يحالفني حظ زيارتها، فقد كان وقوعي على رواية أحمد طوهاري الراقصة مترجمةً للإنجليزية مصادفة سعيدة. ترجم الرواية رينيه لايسلوف ضمن سلسلة "مكتبة إندونيسيا الحديثة" الصادرة عن طريق مؤسسة لونتار، وهي مؤسسة ابتدأها المحرر والمترجم الأمريكي جون مكغلين إلى جوار أربعة كتّاب إندونيسيين، وهم جوناوان محمد وساباردي دامونو وعمر خيام وسوباجيو ساستروواردويو.[5]

بدت قصة الترجمة مفرطةً في الرومانسية، الرومانسية التي تعكس ربما رغبتنا بأن تكون هذه قصة كل الترجمات التي نقرؤها: شخص يقرأ عملًا أدبيًا فيعجب به لدرجة أنه يقرر ترجمته، دون أن ينبع الأمر من دوافع دور النشر الربحية. في هذه الحالة، صادف أن وقعت رواية الراقصة بيد رينيه لايسلوف، وهو أنثروبولوجي أمريكي يدرس عملية التحديث الإندونيسي والفنون التعبيرية الريفية، وما إن باشر قراءتها حتى أعجب بها لدرجة أنه التقى بطوهاري وترجمها بمعاونته. نُشرت الطبعة الإنجليزية الأولى عام 2012، أي بعد أربعين عام تقريبًا من صدور آخر جزء من الرواية الإندونيسية عام 1986.

ولكن القصة توحي أيضًا بما يكتنف هذه الترجمة من إشكاليات عويصة. لا يسع المكان هنا لاستعراض الوزر الاستعماري الذي يحمله تخصص الأنثروبولوجيا ولا للتطرق إلى تأسسه في كنف كوزمولوجية غربية المركز تضع دول الغرب في قمة السلم الحضاري والمجتمعات الأخرى في مراحل "أبكر" لهذه الحضارة.[6] يكفي لأغراض هذه المقالة التذكير بأن الدراسة الميدانية للشعوب صاحبت دائمًا الحاجة لفهم ماضٍ مزعوم لغرب ما-قبل-الحداثة، حتى لو تجاوزنا مرحلة التبشير والتنصير الأولية بما صاحبها من خطابات أخرى حول ماهية الإنسان. عبر هذا المنظور، يمكن القول بأن لايسلوف نفسه كان متورطا في هذا الإرث، حيث انصب على دراسة التحديث الإندونيسي في الفترة التي سادت فيه فكرة أن بالإمكان جعل أي دولة "حديثة" من خلال اتباع درب معين.[7]

على الجانب الآخر، نظرًا لجهلي التام باللغة الأصلية للرواية، لم يكن لي من سبيلٍ لقراءتها إلا من خلال لغة وسيطة، أي العربية والإنجليزية آنذاك. ولأنها ليست مترجمةً للعربية، فلا خيار لي -إذا ما أردتُ فعلًا قراءتها- إلا الترجمة الإنجليزية. وها هنا يحضر إشكال جديد مرتبط بمكانة الإنجليزية ضمن المنظومة الإمبريالية العالمية اليوم، والتي لا تنفصل هي الأخرى عن مرحلة استعمارية ثانية بدأت تسود فيها اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية بصفتها لغات إنتاج معرفي.[8]

وبالإمكان أخذ الموضوع خطوةً إضافية لإقحام عملية الترجمة ضمن هذا الإطار. ربما ستقرّون معي بأن المعرفة -على الأقل في عصرنا- إحدى مكونات منظومة السلطة، وبأن معرفة الشعوب المستعمَرة جزء لا يتجزأ من إخضاعها. ولكن ربما يبدأ الاختلاف مع افتراض كون الترجمة جزءًا من هذه العملية أو طرفًا فيها. كما أسلفتُ في مطلع هذه المقالة، إن سيادة تصور الترجمة بوصفها جسرًا بين الثقافات ومدخلًا للحضارة يعمي عن أسئلةٍ محورية تتناول تاريخانية العملية وتعلقها بمفاهيم أخرى، بما فيها مفهوم المعرفة وأسسها وأطرها ومقاصدها.

وفي حين قد تبدو فكرة القاموس مزدوج اللغة بديهية لنا اليوم، إلا أني لا أجد بدًا من استحضار إشكالية ظهورها أول ما ظهرت مصاحبة لاستعمار الأمريكيتين وحملات تنصير الشعوب الأصلية أواخر القرن الخامس عشر ومطلع الذي يليه.[9] فرغم تاريخ الترجمة السحيق، إلا أنها بدأت تكتسب معنى وأهمية مغايرة في كنف منظومةٍ أعادت صياغة وجه العالم خلال النصف ألفية الأخيرة وقسمته على أسس محاصصة استعمارية، فضلًا عن ترسيخِ فكرة التمايز الجوهري العرقي بين الشعوب والأمم.[10]

ولذا بات من الصعب النظر إلى الترجمة خارج هذه السياقات ولوازمها. ليست المعرفة هنا ذات طابع مثالي أو ما أشبهه ممن اعتبروها غاية في ذاتها أو ربطوها بتقويم الذات والإضافة لحيز المعرفة الإنسانية والحياة الطيبة، ولذا لن تكون الترجمة محض مداولة لمعارف مجردة بهذا الشكل. ما ينبغي التساؤل عنه هو تحول الترجمة لجزء من عملية نقل معارف ذات غايات وأهداف استعمارية محددة. فإذا ما بنينا على تعبير شاكرابارتي بأن الاستعارة المعرفية (سواء في الترجمة أو غيرها) ليست نقلًا فحسب بل تغييرًا للبنية المعرفية من خلال نحت مصطلحات ومفاهيم جديدة تغيب عن جسد معرفي سابق، فلعلنا ندرك أيضًا إشكالية العلاقة بين العمل في لغته الأصلية (حيث يحمل معان وقيمًا ووظائف خاصة بلغته وثقافته الأصليتين) واللغة التي يُترجم لها، إذ لن تعود الترجمة محض عملية تثاقف بريئة ومجردة بقدر ما تكتسب أبعادًا سلطوية، إخضاعية كانت أو مقاومة أو غيرهما.[11] وبطبيعة الحال، يزداد الأمر تعقيدًا حينما يُربط بسياسات المعرفة وتباينات قوى مواقع إنتاجها على المشهد المعاصر.

وفي حين أعتقد أن السطور الماضية كفيلة بتوضيح بعض التساؤلات التي تدور بخلدي، إلا أني أود التمثيل سريعًا على الكيفية التي تُشكّل بها الذاكرة التراثية على يد الترجمة من أجل تبيان خطورة التعاطي معها خارج زمنيّتها. من البديهي في أذهاننا اليوم أن مؤلفات من قبيل ألف ليلة وليلة أو مقدمة ابن خلدون تُعدُّ جزءا من تراثنا العربي الإسلامي، ولكن بمجرد تقصي المرحلة التي اكتسب فيها المؤلفان هذه الأهمية، نجد الواقع أكثر تعقيدًا. ابتداء، ثمة إقرار من قبل الباحثين في التاريخ أن مقدمة ابن خلدون ظلت "مهملة" في ذاكرتنا حتى اللحظة التي اهتم فيها المستشرقون بالكتاب ونقلوه للغاتهم.[12] والشيء نفسه ينطبق على ألف ليلة وليلة التي لم تُنشر كاملةً بالشكل الذي نعرفه اليوم إلا على يد مطبعة بولاق عام 1835. ولم يكن نشرها كاملة بالعربية منفصلًا عن اهتمام مستشرقين إنجليز وفرنسيين بمخطوطاتها وترجمتها للغاتهم، الأمر الذي وصل ببعضهم لتأليف المزيد من قصصها باللغة الفرنسية (فقد كان الكتاب مدرًا للأموال!) أو تنقيحها من خلال إزالة بعض الأجزاء التي لا تتواءم مع الأخلاق الفيكتورية.[13] ولعلنا كنا محظوظين؛ لأن الاهتمام بالمخطوطات في تاريخنا بشكل عام منع تكرار مصير نصوص بلغات أخرى سرعان ما ذهبت مهب الرياح ما إن تُرجمت للغات الاستعمارية، الأمر الذي يجعل هذه الترجمات (المشوهة في أحيان كثيرة) مصدرنا الأوحد لأي معرفةٍ عن النصوص الأصلية.[14]

هذه الإشكالات تجعلني أتحسس مسدسي كلما جيء بمفهوم الترجمة في معرض التقديس والتبجيل دون أي اعتبارات لعملية الترجمة بحد ذاتها، أي عملية الترجمة كما تُمارس على أرض الواقع. ولأنها عملية تاريخية، فبدل الانطلاق من أصل مفهوم "الترجمة" مجردًا، أجد نفسي دائمًا أصوغ الأمر في شكل أسئلة تستحضر هذا السياق الشائك المربك. وهاهنا لا مفر من طرح أسئلة: من يُترجم، وأين، وبأي اتجاه، وبأي موقع، وضمن أي منظومة، ومثيلاتها من الأسئلة التي تستوجب علي إغراق نفسي فيما يتعالق بالعملية أكثر من التأمل في أي أسئلة نظرية عن أهمية الترجمة وجودتها وكيفياتها، في سبيل تجنب الوقوع في فخاخ لا تُحمد عقباها.


    المصادر
  • [1] أشير لهذه النسخة: Lucian. True History: Lucius or The Ass. Translated by Paul Turner, Calder Publications, 2010.
  • [2]ثمة العديد من المصادر التي تتناول دور وكالة الاستخبارات الأمريكية في صياغة المشهد الأدبي العالمي. انظر مثلًا: Whitney, Joel. Finks: How the C.I.A. Tricked the World's Best Writers. OR Books, 2017. وبالنسبة لتدخل وكالة الاستخبارات في صياغة المشهد الأدبي الأمريكي، انظر: https://www.openculture.com/2018/12/cia-helped-shaped-american-creative-writing-famous-iowa-writers-workshop.html
  • [3] Rubin, Andrew N., and أندرو روبين. “Orwell and Empire: Anti-Communism and the Globalization of Literature / أورويل والٳمبراطورية: مناهضة الشيوعية وعولمة الأدب.” Alif: Journal of Comparative Poetics, no. 28, 2008, pp. 75–101.
  • [4]للمزيد حول الأمر، انظر: https://www.etymonline.com/word/modernism#:~:text=modernism%20(n.)&text=From%201830%20as%20%22modern%20ways,traditional%20modes)%2C%20from%201924. Van Der Veer, Peter. “The Global History of ‘Modernity.’” Journal of the Economic and Social History of the Orient, vol. 41, no. 3, 1998, pp. 285–94.
  • [5] انظر: https://lontar.org/product-tag/modern-library-of-indonesia/ وأيضًا: https://en.wikipedia.org/wiki/Lontar_Foundation
  • [6]يمكن الاطلاع على المصدر أدناه لتاريخ وجيز حول تطور العلوم الاجتماعية وعلاقتها بالعمليات السياسية والاقتصادية على نطاق أوسع من مجرد تناولها كتواريخ إبستمولوجية/فلسفية مغلقة: Wallerstein, Immanuel. Open the Social Sciences: Report of the Gulbenkian Commission on the Restructuring of the Social Sciences. Stanford University Press, 1996.
  • [7] شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حضورًا بارزًا لمختلف النظريات التي تناولت عمليات التحديث بمختلف مشاربها. انظر مثلًا: Apter, David E. The Politics of Modernization. The University of Chicago Press, 1965; Nkrumah, Kwane. Neo-colonialism: The Last Stage of Imperialism. International Publishers, 1965; Cardoso, Fernando Henrique, and Enzo Faletto. Dependency and Development in Latin America. Translated by Marjory Mattingly Urquidi, University of California Press, 1969.
  • [8] Mignolo, Walter. The Darker Side of Western Modernity: Global Futures, Decolonial Options. Duke University Press, 2011; Said, Edward. Orientalism. Pantheon Books, 1978. انظر أيضًا محاضرة رامون غروسفوغل عن ديكولنة الجامعات: https://youtu.be/uciL0Sl_9z0
  • [9] Price, Joshua M. Translation and Epistemicide: Racialization of Languages in the Americas. The University of Arizona Press, 2023.
  • [10]Quijano, Anibal. "Coloniality and Modernity/Ratinoality." Globalization and the Decolonial Option, edited by Walter D. Mignolo and Arturo Escobar, Routledge, 2010, 22-33; Fields, Barbara Jeanne. "Slavery, Race, and Ideology in the United States of America." New Left Review, May/June, 1990.
  • [11] Chakrabarty, Dipesh. Provincializing Europe: Postcolonial Thought and Historical Difference. Princeton University Press, 2000; Lawrence Venuti. "Hijacking Translation: How Comp Lit Continues to Suppress Translated Texts." boundary 2, May, 2016; 43 (2): 179–204.
  • [12] طحطح، خالد. الكتابة التاريخية. دار توبقال للنشر، 2012; Al-Azmeh, Aziz. Ibn Khaldun in Modern Scholarship: A Study in Orientalism. Third World Centre, 1981; Hannoum, Abdelmajid. “Translation and the Colonial Imaginary: Ibn Khaldûn Orientalist.” History and Theory, vol. 42, no. 1, 2003, pp. 61–81.
  • [13]Mallette, Karla. Lives of the Great Languages: Arabic and Latin in the Medieval Mediterranean. University of Chicago Press, 2021; الشمسي، أحمد. إعادة اكتشاف التراث الإسلامي. ترجمة عبد الغني الميموني وأحمد العدوي، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022; Ulrich Marzolph, and Aboubakr Chraïbi. “The Hundred and One Nights: A Recently Discovered Old Manuscript.” Zeitschrift Der Deutschen Morgenländischen Gesellschaft, vol. 162, no. 2, 2012, pp. 299–316.
  • [14] Cronin, Michael. “HISTORY, TRANSLATION, POSTCOLONIALISM.” Changing the Terms: Translating in the Postcolonial Era, edited by Sherry Simon and Paul St-Pierre, University of Ottawa Press, 2000, pp. 33–52.