حسين إسماعيل
جلست مرارًا قبال لوحة مفاتيحي محاولًا الإتيان بمقدمةٍ مناسبة لموضوع هذه المقالة. مرة كنت سأفتتحها بما دار بخاطري عام 2019 حينما تجولتُ في أزقة جامعة أوربينو الإيطالية على هامش حضوري ورشة عمل جيولوجية. توقفت عند مكتبة صغيرة، وبحثت في اكتظاظ الكتب الإيطالية عن أية عناوين مألوفة أو مفهومة. وصادف أن وقعت عيناي على غلاف يحمل خريطة مبسطة للشرق الأوسط. أخذت الكتاب وطالعت صفحاته الأولى. كان أطروحة في الاقتصاد السياسي لمنطقة الخليج العربي، وقد نُشر أول مرة بالإنجليزية قبل أقل من عام. أخرجت جوالي وسارعت بالبحث عن عنوان الكتاب أو المؤلف بالعربية علني أجد الكتاب تُرجم للغتي التي يقال أن عدد متحدثيها يفوق بثلاثة أضعاف متحدثي الإيطالية. وكانت خيبة الأمل أن نتاج البحث صفري.
وكنت أعتزم من وراء البدء بالحكاية التساؤل عن مواطن القصور في عملية نقل المعارف المنتجة عنا إلى لغتنا الأم. لم أكن مهتمًا حتى بذكر بسياسات إنتاج المعرفة أو بفك ارتباط تصورات مستقبلنا عن التاريخ التطوري المنحوت في أسس العديد من المجالات المعرفية. جل ما شغل بالي هو الانهماك المفرط على ترجمة أنواع أو تيارات معينة من الكتب والموضوعات، في حين تظل كثيرٌ من المعارف المنتجة حول ظواهرنا المعاصرة خارج نطاق الاهتمام.
ولكن هذه الافتتاحية بدت أضعف مما يجول بخاطري اليوم. ولذا عدلت عنها مبدئيًا باتجاه أخرى تتناول إحدى إشكاليات ترجمة بول تيرنر الإنجليزية التي تحمل عنوان التاريخ الحقيقي: لوشيوس، أو الحمار، وهما قصتان كتبهما لوقيانوس السميساطي.[1] اتخذ المترجم قرارًا باستخدام مفردة "الشيوعيون" لينقل لنا تصورًا أفضل حول نظام إحدى الدول الفاضلة بالكتاب. وبرغم دفاعه في المقدمة التي كتبها عما استقر عليه من تغليب المفارقات التاريخية في سبيل إحياء النص لمخيلة قارئ اليوم (أي الخمسينيات حين نُشرت ترجمة الكتاب)، إلا أن عقلي بدأ يطرح التساؤلات الواحد تلو الآخر.
وأغلب ما راودني حيال قرار المترجم مرتبط بالكيفية التي تكتسب المفردات فيها تجريدًا من شأنه تشويه أو تضليل الواقع الذي تصفه تلك المفردات. فعلى سبيل المثال، حتى لو صح افتراض المترجم بكون مفردة "الشيوعيون" أقرب لقارئ اليوم، إلا أنها تمتلك بطبيعة الحال إرثًا فكريًا محددًا (ماركسيًا-لينينًا-ستالينيًا) يرتبط بلوازم أخرى عن مفهوم الدولة والنظام الحاكم والأحزاب السياسية والمواطنة فضلًا عن أخريات. ومن هذا المنطلق، فإن قرار المترجم بتغليب الحاضر سيحرم القارئ المسكين إشكاليات المفردة التي استخدمها لوقيانوس، والتي قد تفتح بابًا لمزيد من التساؤلات حول شبكة المعاني الأصلية التي تنوجد الكلمة في كنفها.
وبعدما تعمقت في إشكاليات هذا القرار على ضوء فلسفات تأريخ الأفكار المختلفة، رأيت أن هذا الأسلوب لن يخدم نقاطًا أخرى وددت التطرق إليها حول سياسات الترجمة عمومًا. ولذا سرعان ما أعدت تقليب أفكاري باحثًا عن مقدمة مُثلى أكثر. وظننت أني عثرت على ضالتي لما تذكرت اليد الخفية التي تلعبها القوى الإمبريالية في توجيه حركات الترجمة وصياغة المشهد الأدبي.[2] لم أكن مهتمًا بما أورده جويل ويتني حول استعمال وكالة الاستخبارات لكتّاب مثل إرنست هيمنغواي أو غابرييل غارسيا ماركيز سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بل ركزت اهتمامي على الكيفية التي لعبت فيها روايات جورج أورويل دورًا في بث آيديولوجيات الجبهة الغربية الرأسمالية ضد كل مد اشتراكي شيوعي في الشرق الأوسط. وليس أوضح على ذلك مثالًا من دعم الاستخبارات الأمريكية لأولى ترجمة عربية لرواية مزرعة الحيوان، وهي الصادرة عن دار المعارف بترجمة عباس حافظ.[3]
ثم ساورتني الشكوك حول ملاءمة هذا النقد لما سأعرج عليه من تأملات حول عملية الترجمة، لا سيما وأن العلاقة بين الأدب والسلطات ليست دائمًا بالشكل الذي تتخذه الصيغة أعلاه. وغني عن القول أني حددت كل ما على صفحة الوورد وضغطت زر المسح.
وكنت قاب قوسين أو أدنى من استحضار صدور كتاب معالم الحداثة وما تلاه من كتابات تحتفي بأهمية الكتاب ونصوصه في تعريف القارئ العربي بمعالم هذه الحركة التي غيرت وجه العالم. وقد تساءلت في تلك المحاولة عن معنى صدور مثل هذا الكتاب أواخر عام 2021، أي بعد نصف قرن من تصدّر الأطروحات المعارضة لمفهوم الحداثة المشهد الأكاديمي الذي ينحدر منه مترجم النصوص. كما استرسلتُ في الحديث عن تأريخ مفردة لم يتبلور معناها الذي يتبناه الكتاب (الذي يغطي حقبة زمنية تمتد من القرن السابع عشر حتى العشرين) إلا مطلع القرن التاسع عشر، الأمر الذي يسلط الضوء بدوره على دور التأريخ المتخيل في إعادة فهمنا للتاريخ والحاضر، فضلًا عن تبعات اعتبار الحداثة (أي حداثة) حركة أساسها فكريّ انعكس لاحقًا على الواقع الغربي الملموس.[4] لكن لسوء حظي وحسن حظكم، وصلت لطريق مسدود في إعادة صياغة الأطروحة على ضوء الفكرة التي نويت طرحها عن الترجمة بشكل أعم.
والحقيقة أن هذا الطريق المسدود مصيرٌ اشتركت فيه مقدمات أخرى، كالتي كتبتها عن الحذف الذي لحظته في الترجمة العربية لرواية المسلخ رقم 5، أو التي كتبتها عن التشويه الذي طال ترجمة الحارس في حقل الشوفان بدءًا من العنوان ومرورًا بحذف كلمات مفتاحية وليس انتهاء بإساءة فهم مشاهد تشكل لب الرواية، أو التي كتبتها عن مرةٍ انتُقدت فيها ترجمتي الخاصة لقصة ريموند كارفر المعنونة بـ "الكاتادرائية" بحجة استحالة أن تكون لغة القصة سهلةً ويومية كما ظهرت بترجمتي العربية، إذ أن ريموند كارفر أديبٌ أمريكي كبير، ولا شك قياسًا على ذلك بكون لغته أدبية رفيعة لا يبلغها العوام (تنويه: لم يكن صاحب هذه الملاحظة يتقن لغة الإنجليزية). بل راودتني حتى فكرة افتتاح المقالة بالبيان الذي خرجت به إحدى دور النشر العربية عن افتخارها بأسلمة ترجماتها لروايات آجاثا كريستي لكي تلائم معتقدات القارئ العربي وقيمه، القارئ المسكين الذي يحتاج على الدوام يدًا ترشده لطريق الحق والصواب رضي بذلك أم أبى.
اعتزمتُ في كل مقدمةٍ ناقصة مما سبق الخروجَ عن عباءة مفهوم الترجمة المقدس الدارج في أوساطنا، مبتغيًا الاتجاه نحو الكيفية التي تتحقق بها الترجمة أساسًا، أي عملية الترجمة نفسها، بكل ما تنطوي عليه العملية من تداخلات سلطوية ومؤسساتية وفردية. لا تُمارس الترجمة في فراغ، وليس ثمة "ترجمة" إلا من خلال فعل الترجمة. ولذا لا معنى لمناقشة ماهية الترجمة أو خصائصها أو أي مما يتعلق بحاضرها ومستقبلها إلا بقياسها على ما يجري على أرض الواقع فعلًا، سواء على مستوى القرارات التي يتخذها المُترجِم أثناء ترجمته، أو على مستوى منظومة النشر التي تصوغ قواعد ما يُنشر -بكل ما يتعلق بذلك من موارد مادية وغيرها-، أو على مستوى تباينات القوى على المشهد العالمي، أو على غيرها.
عطفًا على ذلك، لا يهمني هنا إطراب المسامع إزاء كون الترجمة جسرًا بين الحضارات ولا كونها لبنة أساسية في سبيل التمدن أو التقدم أو غيرها من المفردات الرنانة. سواء كانت كذلك أم لا ليس مهمًا لأغراضي، إذ لا يتعلق طرحي بمفهوم الترجمة مجردًا ومقدسًا. ولو احتجتُ لتبرير عدولي هذا لقلت أني أميل للاعتقاد باستبطان هذه التصورات علائق محددة حول اللغة والدولة-الأمة، مما يعني بالضرورة ارتهانها بافتراضات مسبقة كذلك عن عملية (أو عمليات) التثاقف وآليات الاتصال بين الثقافات المختلفة. بعبارة أخرى، توحي مقولة "الترجمة جسر بين الثقافات" بأن الانفصال الثقافي هو الأصل الذي ينبغي تجسيره بالترجمة، وهو ما يهمش أي أسئلة حول وجود هذا الانفصال (حقيقيًا كان متخيلًا) وأسبابه أو الأسئلة حول الكيفية التي تشيد بها الجسور على يد فاعلين يمكن الإشارة إليهم وتحت أي سياقات وبناء على أي مصالح. ستشكل هذه الهموم الأخيرة حجر الأساس لهذه المقالة؛ ليس ثمة أطروحة فعلية هنا، وجل ما أصبو إليه هو التفكير بصوت عالٍ إزاء بعض الإشكالات التي تكتنف هذه العملية المعقدة المسماة ترجمة.
تبدأ الحكاية هنا من حادثة تسبق كل ما أوردته في المقدمات السابقة دون أن تقل عنها تعقيدًا. قضيت شهر عسلي عام 2015 استجمامًا في جزيرة بالي الإندونيسية. ولأني كنت قد اتخذت قرارًا حينها بقراءة آداب الدول التي يحالفني حظ زيارتها، فقد كان وقوعي على رواية أحمد طوهاري الراقصة مترجمةً للإنجليزية مصادفة سعيدة. ترجم الرواية رينيه لايسلوف ضمن سلسلة "مكتبة إندونيسيا الحديثة" الصادرة عن طريق مؤسسة لونتار، وهي مؤسسة ابتدأها المحرر والمترجم الأمريكي جون مكغلين إلى جوار أربعة كتّاب إندونيسيين، وهم جوناوان محمد وساباردي دامونو وعمر خيام وسوباجيو ساستروواردويو.[5]