المرتكزات الفلسفية والمعرفية لنظرية التلقي في الأدب

هشام السلمي

كان لظهور السفسطائية في القرن الخامس قبل الميلاد الدور الأبرز في التحول نحو نظرية المعرفة، وما تلاه من نظريات كرَّستْ ذاتية المتلقي في البحث عن المعنى، والذي يُعد ضمن انشغالاتهم المهمة والمركزية في فكرهم، فواجه السفسطائيون معضلة فلسفية في جدالهم الدائم مع الإيليين [دعاة المعرفة العقلية المحضة الباحثين عن الماهيات الثابتة وحقائق الأشياء)] ليكون الإدراك الحسي عند السفسطائيين أصلَ المعرفة.

قدم السفسطائيون نموذجًا معرفيًا يرتكز على خبرة الحواس في الإدراك، وهم بذلك يقصدون الحواس الفردية، مشددين على دور الذات في إنتاج المعنى، مما ساعدهم في نشاطهم الجدلي (فن الخطابة) الذي كان يعكس تصورهم المعرفي، ليكون المتلقي الطرف الغائي المراد إقناعه بأن الحقيقة ظنيةٌ، فيكون هذا التنظير من جهة مدخلًا تأصيليًا للتأويل واستجابةِ المتلقي، ومن جهة أخرى إعادة الاعتبار إلى مركزية الإنسان المعيارية، واعتقاده الذاتي القائم على قوة الفهم.

حتى جاء أرسطو -المخالف للنزعة السفسطائية -واهتم بالمتلقي عنصرًا فعالًا مع بقية العناصر المهمة في العملية التواصلية، فالاستجابة المتحققة والمؤثرة جماليًا تُعد جزءًا مهمًا لا يمكن تهميشها، وبذلك أثر أرسطو في كثير من رواد الفكر والأدب العالمي، ومن يتتبع حديث أرسطو عن الشعر يدرك تلك العلاقة التي يمكن إيجازها في النقاط التالية:

أولًا: يهتم أرسطو بالعناصر الثلاثة في عملية التواصل (النص - المؤلف - المتلقي)، إذ أعطى كل عنصر الدور الذي يحقق التفاعل، وبالتالي الوصول إلى إدراك جمالية النص والغاية الأخلاقية المراد إيصالها من الكاتب، عبر ربط عملية التلقي بقدرة الكاتب الفنية، إضافة إلى أن أرسطو اهتم بحال المتلقي ومعتقده؛ فمن المعروف عن أرسطو -حينما يتحدث عن المسرح- أنه ينزع إلى وجهة نظر ترى أن الأمور غير المعقولة معيبة في المسرحية؛ وذلك لأسباب متعلقة بنظرية المحاكاة، لكنه يتجاوز عن النص المستحيل إذا كان مقبولًا من وجهة نظر الجمهور، ليكون ممكنًا إذا أبدع الكاتب في تصوير الأمر بصورة الممكن، وجعل الحكم في المسألة مرهونًا لواقع المتلقي ومعتقده، مثال ذلك جمهور المسرح اليوناني الذي يعتقد بالأساطير، ومقتضى الحال أنه حينما تجاوز الجمهور هذه المعتقدات كان أمرًا مرفوضًا.

ثانيًا: يسعى أرسطو إلى ربط النص والجمهور بالمحاكاة التي تصور الواقعي كما ينبغي أن يكون، في صورة فنية تراعي نظرة الجمهور التي تجعله ذا أثر جماعي، لذا من أسباب المفاضلة في الشعر الموضوعي عند أرسطو أنه جعل المأساة في أعلى الهرم، ثم الملهاة، ثم الملحمة. فمن خلال المأساة تكون الوقائع التي تثير الخوف لتؤدي إلى التطهير من الانفعالات، وإثارة الشعور المأساوي بتراسل المشاعر بين النص والجمهور، لذا كان الترتيب يراعي طريقة المحاكاة، وما يترتب عليها من أثر في عملية التلقي.

وبالعودة إلى الخط الزمني للنقد في العصر الحديث نرى اختلاف النقاد في نظرتهم إلى النص الأدبي وفقًا للأصول النظرية التي نشأت منها، هذا التباين يدقق النظر في العمل الإبداعي من جهة العناصر الأساسية للعمل الفني (المؤلف- النص- المتلقي)، ليتناول كل منهج نقدي أحد الأوجه دون غيرها، بدءًا بدورة المناهج النقدية التي انطلقت من اهتمامها بالمؤلف والسياق الذي أنتج فيه العمل من منظور اجتماعي، ونفسي، وتاريخي، إلخ، فبرزت منظومة المناهج السياقية التي أهملت النص والمتلقي، إلى أن ظهر فيما بعد عدد من المناهج النقدية التي تدعو للاهتمام بالنص بوصفه أساس العمل الفني، فيدرس النص بمعزل عن أي مؤثرات خارجية، مما أدى إلى نشأة منظومة المناهج النسقية، التي أقصت قصد المؤلف والظروف النفسية والاجتماعية والظرف التاريخي، واعتبرت النص الإبداعي نصًا مغلقًا مستقلًا، واعتبرته شبكة من العلاقات اللغوية الخالصة، فيُحلل النص أسلوبيًا للكشف عن البنية الداخلية.

هذا التحول ساهم في لَفْت انتباه النقاد التفكيكيين والانطلاق إلى مرحلة أخرى، وهي استراتيجية تناول النص والعناية به ومعرفة الإجراءات القرائية، والأثر الذي تحدثه القراءة في المتلقي، ليصبح بذلك إيعازًا مهمًا لإعطاء المتلقي الأولوية، ليبحث عن جمالية العمل الأدبي وفك الرموز.

ليظهر بعد ذلك تيار ما بعد مرحلة البنيوية والسيميائية، الذي صب جل اهتمامه على النص، وعزل المؤلف، والسياق والمرجع، فجاءت لحظة الانفتاح على المتلقي بعد إهماله لفترات طويلة نُظر فيها إلى من يستقبل النص على أنه مجرد متلق سلبي لا دور له، حتى فرضت نظريات القراءة رؤية نقدية مغايرة، هذه النظريات التي تعرف (ما بعد الحداثة) أعادت المكانة بشكل كبير للمتلقي، إضافة لذلك أسهم تطور نظريات فلسفية جديدة -مثل التأويلية والظاهراتية والتداولية، وغيرها من المناهج التي زودت النقاد بالأدوات المنهجية- في تعزيز دور المتلقي.

كل التطورات النظرية الحديثة لهذه الفترة جعلت المتلقي مركزًا في تحليل العمل الأدبي، وتأويله، وإدراكه، حتى أصبحنا أمام خيارات متشعبة من المنطلقات النظرية ومراكز الاهتمام التي أسست لهذا التوجه النقدي، لكن الجامع الذي يتفق عليه جميع رواد هذا التوجه، هو الاهتمام المطلق بالمتلقي، والتركيز عليه باعتباره ذاتًا واعية لها الدور الأكبر في إنتاج وتداول وتحديد المعاني للنص.

ثم نشأت نظرية جمالية التلقي في أروقة جامعة كونستانس في ألمانيا الغربية عام 1967م، التي دعت إلى تجاوز نظرية الأدب الكلاسيكية، وإعادة قراءة الأدب على أساس منهجي يكون فيه للمتلقي الدور المركزي، ويعد أشهر ممثليها هانس روبيرت ياوس وولف ايزر، اللذين لهما السبق في وضع ركائز جمالية التلقي، وتأسيس نظرية جديدة في فهم الأدب.

في الفترة التي سبقت التأسيس للنظرية، أسهم الجدل بين رواد المذاهب النقدية الحديثة في علاقة النص بالمتلقي، فأثيرت نقاشات أدبية حول الأدب والمتلقي، فكان هناك توجه يمثله الاتجاهان الماركسي والرمزي؛ نتج عن ذلك غياب المتلقي بشكل شبه مطلق، وتوجه آخر يمثله الوجوديون والبنيويون، الذين ساهموا في تعزيز ذاتية المتلقي وفرديته. كما أن الصراع السياسي له دور جدلي في تمخض هذه النظرية في المجتمع الغربي، فتداخلت النظرية مع مفاهيم الأدب، والمنازعات الفكرية والمذهبية مع فكرة التأسيس بمنظور أدبي مجرد؛ لأن نظرية التلقي الحديثة -من حيث النشأة- ارتبطت بالصراع الذي واجهته ألمانيا الغربية مع النظام الشيوعي،

الذي يمثله نقاد الأدب الماركسيون في ألمانيا الشرقية الذين يرتكزون نقديًا على مفهوم الانعكاس الآلي، بمعنى أن الأدب انعكاس للمجتمع بانتماءاته الاجتماعية واتجاهاته الأيدلوجية، مما جعلهم رأس حربة تعارض نظرية التلقي وتهجم عليها. ومن جانب آخر نجد رواد النظرية في ألمانيا الغربية الواجهة المتصدية لمناهضة النقاد الماركسيين والهجوم المضاد، واتهامهم بأنهم سبب أزمة الأدب التي حدثت، وخاصة تعاملها مع النص الأدبي.

انعكس ذلك على رواد نظرية التلقي بالانفتاح على النماذج الأدبية والنقدية الغربية الأخرى، مع مساهمة رؤيتهم النقدية لتلقي النص في التشابه مع مناهج التفسير والتحليل، التي تعتمد على لغة النص، وما توحي به من دلالات ورمزيات، لتأتي النظرية كما يرى روادها لتصحيح الانحراف الفكري، والعودة بالاهتمام إلى قيمة النص، وأهمية المتلقي الحر في استقبال النص المنضبط بالقواعد الفنية، في تمرد واضح على النظرة الجبرية للفكر الماركسي، التي تقيد الناقد والمتلقي ضمن شروطها الاجتماعية.

كذلك ساهم الفيلسوف الألماني (هوسرل) بالتأثير على رواد نظرية التلقي عبر فلسفته عن الفينومينولوجيا والتي مفادها أن المعنى ينشأ في الشعور المحض المرتبط باللحظة الوجودية، في خلق آني، ليؤكد أننا لا نعرف الشيء (الظاهرة) إلا عبر الشعور القصدي الذاتي وفهمنا المحض كونه أساسًا في العلم المعرفي الموضوعي. فشكلت تلك الأفكار حول المعنى أهمية في الدرس الفلسفي، وفي اتجاه آخر أهمية في المناهج النقدية الأدبية، ليؤكد (أنغاردن) تلميذ (هوسرل) أن المعنى هو الحصيلة النهائية للتفاعل بين بنية العمل الأدبي وعملية الفهم، ليصبح هذا التوجه الفلسفي مهادًا لاتجاهات نقدية، ومنها جماليات التلقي.

أيضاً فَهم رواد النظرية ما وضعه (غادمير) عن الهرمنيوطيقيا، وأنتجوا فكرة ضمن إطارين أساسيين:

أ) الإطار الأول التاريخ العملي: أي أن فهمنا للنص الأدبي أو المشاهد، لا يمكنه استبعاد المفاهيم المسبقة، بذلك يكون منطلق الفهم عبر التحيزات الشخصية موقفًا تفسيريًا.

ب) الإطار الثاني أفق الفهم: فتح الحوار بين الماضي والحاضر، واندماج الأفق بينهما.


المراجع التي استند عليها الكاتب:
  • - البريكي، فاطمة. (2006). قضية التلقي في النقد العربي القديم، ص1، العالم العربي للنشر والتوزيع، الأردن، عمان
  • - خضر، ناظم عودة. (1997). الأصول المعرفية لنظرية التلقي، ط1، دار الشروق عمان.
  • - روبرت هولب (2000). التلقي مقدمة نقدية، ترجمة د عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية القاهرة ط1
  • - سعد البازعي، وميجان الرويلي. (2002) دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط
  • - عبد الواحد، محمد عباس. (1996). قراءة النص وجماليات التلقي بين المذاهب الغربية وتراثنا النقدي دراسة مقارنة، ط1 دار الفكر العربي، مصر