ليلى عبد الله
من شاهد فيلم (رغبة صامتة) الذي يحكي عن حياة الشاعرة الأمريكية (إيميلي ديكنسون) ستربكه طبيعة حياتها المعبأة بالوحدة والحرب والمرض والشيخوخة، وسيدرك مدى العزلة التي قفّصَتْ (ديكنسون) ذاتها بها؛ ظلت ملازمة البيت، حبيسة غرفتها، ولا تلتقي مع أحد، وحين يزورها زائر؛ كانت تكلمه من وراء الباب. نائية عن محيطها وعن الآخرين كليًّا، منكبّة بهوس على كتابة كراسات صغيرة من الشعر ثم خياطتها، ورغم هوسها الكتابي السري؛ إلا أنها شعرها لم يُنشر إلا بعد موتها ورحيلها
ولجت (ديكنسون) في أعلى درجات "العزلة الوجودية" أو ما يسمى بحالة " البياض" كما يذهب الكاتب (دافيد لوبروتون) في كتابه الذي يستعرض حالات عديدة من البياض1؛ فالأمر كما يرى (لوبروتون) "لا يتعلق بفقدان الشخصية وإنما بإذابتها والتخلص من إكراهات الهوية جميعها بهدف الوجود في حد أدنى".
يسهب (لوبروتون) في استعراض نظرياته عن حالات ضياع الفرد عن ذاته وعن محيطه إلى أن يبلغ مرحلة "ألا يعود أحدًا"، حيث أقصى مراحل الاختفاء ومحو الشخصية الوجودية من خلال اختراع وسائل للهروب والاختفاء. وتأثير هذا التخفي أيضًا يظهر على شخصية المراهقين وعلى كبار السن الذين يقعون في فخ داء تلف الذاكرة (الزهايمر)، كل ذلك انطلاقًا من تأثير الهويات في كيان الفرد في المجتمع المعاصر.
لعل أول سؤال يتبادر في ذهن المرء حين يجابه الفصل الأول من الكتاب هو: كيف تبني هويتك الفردية في مجتمع متطور؟ أو ما شكل هويتك في المجتمعات المستحدثة؟
يرى (لوبروتون) أننا حين نمنح قيمة لوجودنا وحين نشعر بالارتباط بالآخرين ونعي ماهيتنا في منظومة الروابط الاجتماعية، يبرز وقتها الطابع الفردي متحررًّا من التقاليد والقيم المشتركة، ويملك المرء زمام نفسه، فالروابط الاجتماعية تلعب دورًا فعالًا في تحديد شخصية الفرد، وتصنع ملامح استقلاله في مجتمعه، فيكون فردا مستقلا أو محطما محاطا بشعور النقص وخيبة الفشل. وفي هذه الحالة تحديدًّا "عليه أن يكون سند نفسه؛ لكونه لم يتلق السند من الجماعة التي ينتمي إليها". فثمة تحديات جمّة تقوّض همّة المرء في ظل النمو الاقتصادي الهائل والزمن المتدفق، لذا عليه دائمًا أن يهيئ نفسه لمواجهة العالم، وعليه أن يتلاءم مع الظروف ويتحمل تبعات استقلاله الذاتي. فليس ثمة قدوة أو سند اجتماعي يتكئ عليه وسط هذا المحيط اللاهث نحو غايات لا توافق استقلاليته الفردية كما يبرر (لوبروتون): "أن يكون المرء تحت سلطة نفسه، تلك غاية سامية نحتاج معها للعديد من الإمكانات الشخصية والاستعداد المسبق والطاقات المتجددة؛ لأن تلك السلطة منبع قلق واضطراب، ولأنها تعبئ باستمرار مجهودات ضخمة". لاسيما في عالم تشكل فيه هوية الفرد أزمة مستعصية، وصار سعي المرء للحفاظ على مكانته ضمن الروابط الاجتماعية يقتضي جهدًا مضاعفًا، فهناك عوامل تساهم في تفكيك صِلاته بمحيطه، ومن أهم هذه العوامل سرعة تدفق الأحداث الكونية وهشاشة الأعمال، ناهيك عن الانتقالات المتعددة، كلها أمور تحول دون نشأة صِلات اجتماعية وثيقة مع جيرانه؛ فالجميع يخوضون في لجّة الحياة اليومية وضغوط الأشغال، ليغدو الفرد الحديث مشدودًا إلى شيء بعينه. ففي الوقت الحاضر يكفي أن يقفل المرء هاتفه المحمول ووسائله الإلكترونية الأخرى كي يكون منفصلًا عن العالم. هذه الوسائل بحد ذاتها خلقت فجوة في عمق العلاقات الاجتماعية وصار الفرد مجرد صورة رمزية لا تعبر كليًا عن حياته وراء الشاشة، وتجعل الفرد ميالًا إلى الاختفاء من هذه العوالم السطحية المفتقدة للعمق؛ فالحياة الثرية بتلك اللحظات التي تجعل الفرد منساقًا خارج متطلبات وسائل التواصل الاجتماعية كأحلام اليقظة والتأملات. القراءات والاستماع إلى الموسيقى، والنوم والسير لمسافات طويلة وغيرها من الأنشطة؛ يرى (لوبروتون) أن هذه الملهيات هي مرحلة يسعى فيها المرء إلى الغياب عن ذاته، وقد اختار لهذه المرحلة مصطلح "البياض"؛ وهي المرحلة التي تصل فيها الذات إلى أقصى حالات الغياب والعزلة عن الآخرين، لتصل أحيانًا إلى درجة افتعال الموت في لحظات ما. هذا النكوص النفسي نتاج أسباب عديدة، من أهمها فقدان المرء لمكانته، وشعوره بالضياع في ظل انهيار روابطه الاجتماعية، ليغدو بائسًا ومنغمسًا في انهيارات نفسية عديدة بشكل مؤلم.
حالة "البياض" هنا تمثل المكان المجهول والفراغ، تنتج عنها لا مبالاته بشؤونه وبشؤون غيره، ليصل إلى مرحلة يجهل فيها ماهيته في الوجود كما يفسر (لوبروتون): "لا يعود يأبه بالعالم، إنه يتيه في مكان مجهول، ولكي يستعيد أنفاسه، يكون عليه أن يخفف من توتره. إنه يقيم في النسيان. لا في الحياة ولا في الروابط الاجتماعية، لا داخلًا تمامًا ولا خارجًا. حيث تعمل الأنا هنا على إخفاء الذات".
المرء في حالة "البياض" هذه يخامره شعور بالخمول والفتور تجاه كل شيء، ويتخلى ويتخفف من كل أشكال وصلات الروابط التراحمية والتعاقدية، مع نزوع نحو الانحدار؛ وأكثر أفراد المجتمع الذين يقعون ضحايا لحالات "البياض" هم المراهقون الذين يسعون إلى الاستغراق في الغياب، والتخفي من خلال تعاطي الكحول أو الممنوعات؛ فحين يكون غارقًا في البياض متحرّرًا من أعباء الهوية لدرجة لا يتعرف فيها على ماهيته، فإنه بذلك يفلت من التواصل حتى وإن ظل جسده قائمًا هناك، مقدمًا نفسه كلغز.
في المقابل يتعرض كبار السن لهذا "البياض" عبر استدعاء لحالات خمور الذاكرة والنسيان، حين يبدو واقعهم مثقلًا بما يعكّر صفو حياتهم؛ ففي الشيخوخة وعند ظهور اضطرابات الزهايمر مثلا تتعطل المنابع الباطنية للمعنى بشكل دائم، وتَعْلق الدلالات وتُرمى في الفراغ، ولا يبقى "هناك تواصل ولا أي حضور لا أمام الذات ولا أمام الآخر بل لن تعود هناك أي نرجسية؛ لأن الأنا قد اختفت، وصار الوعي أصمّ وأعمى".
بعد هذه التهيئة يسحب (دافيد لوبروتون) قارئه إلى عوالم "البياض"، فحين نصل لمرحلة "ألا تعود أحدًا"؛ ينهار العالم الداخلي والإحساس بالمحيط، وينشطر المرء، فمن لا سند له ينأى بنفسه مُخلّفًا تيهًا في كيانه. بينما من لديه القوة الكافية والثقة بذاته؛ فإنه ينساب إلى التكتم والعزلة لاجئًا إلى الطبيعة بحثًا عن خلاصه.