أ.د. محمد الشحات
النظرية والمنهج وجهان لعملة واحدة تقبض عليها يد الناقد الخبير. إنهما أشبه بعلاقة بين رجل وامرأة هما في الأصل مختلفان بيولوجيًا، لكنهما متكاملان "جندريًا"، ولا جدوى من أي صراع ذكوري أو نسوي قد ينشأ بينهما في لحظة تاريخية ما، فعلاقتهما ببعضهما بعض علاقة بنيوية تقوم على مبدأ التكامل لا التفاضل. وعن طريق هذا الجدل الخلّاق أو تلك الحواريّة بين النظرية والمنهج، يعلو سقف كل ممارسة نقدية تبحث عن الاختلاف والمغايرة والتمايز. وبخفوت هذا الصراع الديالكتيكي بينهما يهبط خطاب الناقد الذي يتوهّم في مبدأ الحَرْفية والتبسيط والشرح غاية العملية النقدية برمّتها. فلا هو يستجيب لنصوص الأدب الجديد أو يتفاعل مع ظواهر الثقافة المعاصرة أو يتابع تحوّلات الأنواع الأدبية المستحدثة إلا بعصا مُعلّم أخلاقي أو "ناقد حكيم" هو أقرب كثيرًا إلى الصورة الكلاسيكية للشاعر الحكيم التي حدّدها جابر عصفور بناء على استقرائه للمدوّنة الشعرية لعصر النهضة العربية ممثَّلة في شعر محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي[1]. إذن، في فضاء ما بعد الحداثة الذي شكّلته أفكار نيتشه وفرويد وماركس ودريدا وإدوارد سعيد وإيهاب حسن وفرانسوا ليوتار وآخرين، لن يكون ثمة دور يُذكر لهذا الناقد الأخلاقي الذي ينطق بالحكمة التي يراها مجسَّدة في قداسة الماضي وعباءة الأسلاف فحسب.
منذ سنوات قريبة، أعلن رونان ماكدونالد Ronan McDonald "موت الناقد" بالمعنى الأكاديمي؛ حيث تقلّص دوره وتراجع تأثيره كثيرًا. بيد أن ذلك الناقد الذي عُومِل لفترات زمنية طويلة بوصفه شخصًا خبيثًا شِرّيرًا قد "لعب في الحقيقة دورًا مُهِمًّا في تاريخ الفن والثقافة، وعلينا ألا نحتفل بموته"[2]. وممّا لا شك فيه أن عبارة ماكدونالد "موت الناقد" تنطوي على الكثير من طاقة المجاز الذي تتجاوب فيه إيحاءاتها مع عبارة رولان بارت الشهيرة "موت المؤلف"، ومن قبلهما عبارة فريديريك نيتشه الأكثر شهرة وذيوعًا "موت الإله". بيد أن المقصود من وراء عبارة ماكدونالد هو تراجع الدور الذي كان يمارسه الناقد (الأوروبي) في الخمسينيات والستينيات، فضلًا عن انسحاب النقّاد من المشهد الثقافي والسياسي العام؛ الأمر الذي تراجع معه كثيرًا دورهم وتقلّص تأثيرهم في الجماهير، وتخلَّوا بذلك عن واجباتهم في فرز النصوص الجديدة ومساءلتها وتحليلها عبر طرح سؤال القيمة الفنية الذي غاب كثيرا عن أذهانهم، وتُرِكَتْ الساحات الأدبية والنقدية لشكل جديد من أشكال النقد السريع take-away الذي يتزعّمه شباب المدوّنين bloggers من محترفي التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي وخلق شبكة علاقات مفتوحة مع جمهور الأدب والثقافة. وهم في نهاية المطاف مجموعات متباينة الثقافة من القُرَّاء العاديين من صغار السنّ (غالبًا) الذين لا يمتلكون التأسيس النقدي النظري أو الخلفية الفلسفية التي تمنحهم حق إطلاق الأحكام وتوجيه الذائقة الجمعية نحو النصوص والروايات والأفلام والمسرحيات وغيرها من منتجات الثقافة المعاصرة. ولعلّ ساحتنا النقدية العربية تعكس هذه الظاهرة بشكل واضح.
بالطبع، لم تعد النظرية "هنا-الآن" هي ذاتها "النظرية" (بحروف مكبَّرة) التي أُنتِجَتْ ومُورِسَتْ في القرن الماضي. أقصد أن ثمّة تحولات معرفية وفلسفية (باراديجمية) طالت مبنَى النظرية ومعناها؛ أي طالت قاعدتها وأعمدتها وطبقاتها ونوافذها في حقبتي الحداثة Modernism وما بعدها Post-modernism. من هنا، يحقّ لنا أن نتشكّك في معايير النظرية ذاتها التي لخّصها جوناثان كولر[3] في أربع نقاط هي: 1- النظرية خطاب معرفي بينيّ. 2- النظرية تحليلية وتأمّلية. 3- النظرية نقد للإدراك المألوف ونقد للمسلّمات. 4- النظرية انعكاسية؛ أي أنها تفكير حول التفكير، سواء في مجال الأدب أو في أية ممارسات خطابية أخرى. واللافت للنظر أن مُحدّدات كولر السابقة للنظرية تُحيل إلى فضاء حداثي يمتاح في مرجعيته الفلسفية من مفهوم "النصّ" ذاته الذي تشكّل في سياق بنيوي؛ أي بوصفه تجليًّا فينومينولوجيًّا للبنية أو النظام في تصوّر الحداثة للفنون والآداب. أما النظرية منظورًا إليها من زاوية ما بعد الحداثة فإنها ترمي إلى استقطاب منظومة مفاهيمية مغايرة تتصل بالأنساق المضمرة وفلسفة التشظّي والوعي المنقسم ولامركزية الدلالة وإرجاء المعنَى وتشتّته. أي أنها ترتبط بـ"اللا بنية" أو الفوضى أو التفكيكية العدميّة، كما ترتبط بالهامش لا المتن، بالثقافات الجماهيرية، لا ثقافة النخبة أو الثقافة العُليا.