"الجوع" لكنوت هامسون.. صرخة كلِّ المحرومين

حسن عبد الموجود

تظهر في رواية "الجوع" للكاتب النرويجي كنوت هامسون، الحائز على جائزة نوبل عام 1920، كلُّ خصائص النوفيلا، من حيث التركيز على الشخصية الرئيسة، وعدم وجود تفريعات كثيرة للسرد، والطول المتوسط للعمل، والاقتصار على حدث واحد، لكن أهم تلك الخصائص هو التأثير القوي للعمل الأدبي المكثَّف، فالقارئ يتحرك مع البطل في رقعةٍ مكانيةٍ محددة، كأنه يسير على خشبة مسرح، أحياناً في غرفته الحقيرة، أو في شوارع أوسلو المُقبِضة الباردة، أو في غرف السكرتارية الصحفية وهو ينتظر مجرد إيماءة من رؤساء التحرير، كما أن القارئ يصبح سجيناً للفكرة الأساسية للعمل، وهي سيطرة الجوع على البطل، الجوع بمعناه المادي، وكذلك بمعناه النفسي المُزلزِل.

تبدأ أحداث الرواية في أواخر القرن التاسع عشر، في مدينة أوسلو، وتتركز كلُّ خيوطها على بطلها الشاب الفقير، الذي يعاني الجوع، رغم أن تلك المدينة فيها من الخيرات ما يكفي حاجة كلِّ السكان ويفيض. يعتقد ذلك البطل أنه كاتب موهوب، ولكن لا أحد يلتفت إلى موهبته، عاش في أماكن باردة وضيعة، وكان كل تركيزه أن يكتب قصصاً ومقالات، يحملها إلى رؤساء تحرير الصحف، ليكسب قليلاً من المال يمكِّنه من شراء الطعام، لكن رؤساء التحرير كانوا يعتذرون له غالباً عن عدم نشرها، وهكذا افترسه الجوع.

لم يكن الجوع جسدياً فقط، لكنه كان جوعاً ذهنياً، قضى على مشاعره، وأكل روحه، وبالتالي بدا ذلك البطل كأنه يعيش كابوساً مستمراً، في مدينة لا ترحم الفقراء، حتى أن الشرطي لم يتركه في حاله حينما كان يجلس أو يحاول النوم في حديقة عامة، وهكذا شعر بأن الدنيا كلها تلفظه وتطارده. يكتب هامسون على لسان بطله: "تحركت الريح وجرى السحاب في السماء، وكلما ازداد الظلام ازداد البرد، فسرتُ أبكي طول الطريق وأخذت الشفقة على نفسي تتزايد، فأخذتُ أردد مراتٍ جملة واحدة، وهي صرخة كانت تُرسل بدموعي كلما أرادت أن تتوقف: ‏مولاي وإلهي، ما أسوأ حالي! مولاي وإلهي، ما أسوأ حالي!".

كان شَعْرُ البطل يتساقط بسبب الجوع، وهزاله يشتد، وبدا مثل غصن شجرة يابس قد تقتلعه أي هبَّة ريح وتلقيه بعيداً، وحتى حينما ابتسمت له الدنيا قليلاً ونُشر أحد مقالاته، لم تكف القروش اللي كسبها ثمنَ إيجار غرفته، ووجبةً أو وجبتين. رسم كنوت هامسون مشاهد في منتهى القسوة للبطل، أعظمها على الإطلاق حينما دخل مطعماً فاخراً واختار أن يجلس في ركنٍ معتمٍ حتى لا يلحظ الناس ضعفه وشحوبه وهزاله وسقوط شعره، وحتى لا يراه أحد وهو يضع قطعة اللحم في فمه ويحركها بلسانه من جانبٍ إلى آخر مستمتعاً بها قبل أن يبتلعها.

هذا المشهد، مشهد استمتاعه بالأكل كان استثناء، بينما كان الجوع هو الأصل، فإذا تناول الطعام مرة صام بعدها مكرها ليومين أو ثلاثة، وحتى لا يموت اضطر إلى بيع كل أشيائه البسيطة، حتى أنه رهن زرَّ معطفه، وفي النهاية ضاقت به الدنيا فقرر أن يقفز في سفينة، كأنه أراد أن يجرب نفسه في حياة البحر بعد أن فشلت حياته على البر.

لجوء كنوت هامسون إلى استبطان مشاعر بطله، وكشف ما يدور في رأسه، فأغلب الرواية مشاهد صامتة، يبدو فيها البطل كأنه بمفرده، ليس في المدينة فحسب، ولكن في الدنيا بأسرها، لا أحد يسأل عنه، وإن حاول أن يمد يده لأحد المعارف أو الأصدقاء يعيدها حسيراً. في تلك العزلة وذلك الصمت كان على الكاتب أن ينقل للقراء ما يدور في رأس بطله، ولذلك فإن النوفيلا في أحد وجوهها تنتمي إلى "تيار الوعي" حيث يتحدث الراوي نيابة عن البطل، وينقل أيَّ نأمةٍ تدور في عقله، ويجعلنا نشعر بمرارته وحزنه وخوفه من الموت جوعاً في كل لحظة. استطاع كنوت هامسون ببطلٍ وحيدٍ مهزوم أن يصور بشاعة العالم المادي في أوروبا، الذي يتجرد من الإنسانية، ولا يعترف بالمعدومين، ويتركهم يعانون ويكابدون الليالي السوداء الطويلة. يقول الكاتب أو البطل: "أتقول: الضمير؟ دع هذا السخف، فأنت أفقر من أن يكون لك ضمير. أنت جائع!".

وقد ربط بعض النقاد بين بطل النوفيلا وبين كاتبها، حيث تعرَّض في طفولته لقرصات الجوع، وعمل في مهن وضيعة جداً حتى يوفر ثمن الطعام والشراب. منح كنوت هامسون بطله بعض ملامحه، وجعله يعاني مثلما عانى في حياته، من الفقر والاحتياج والوحدة والبؤس والحرمان، وسجَّل محطاتٍ من حياته في هذه الرواية، ولذلك يصنفها بعض النقاد ضمن أدب السيرة الذاتية، لكن بغض النظر عن هذا حولت الرواية كاتبها إلى واحدٍ من أعظم الكتَّاب. كان يطيب له أن يردد: "أنا لا أريد أن أكتب للنرويجيين فحسب، وإنما للبشر بشكل عام أينما وُجِدوا"، وقد نجح نجاحاً مبهراً في ذلك، إذ أن روايته أصبحت صرخة كل المحرومين في العالم.