اليد التي علقت المرآة: جثث الوقت وأبواب الخيال

محمد عبد النبي

في المجموعة القصصية الأولى للكاتبة اليمنية هُدى جعفر، الصادرة عن دار منشورات جدل [الكويت] في سبتمبر 2023، بعنوان (اليد التي علَّقت المِرآة)، لن يعثر القارئ على قصة بهذا الاسم، كما لن يجد هذه العبارة، بالنص أو بالمعنى، في متن إحدى القصص السبع التي تشكّل الكتاب عبر 134 صفحة من القطع المتوسط. هكذا سيبقى العُنوان مثل إشارة مُعلّقة في الفراغ، رُبما ليجتهد كل قارئ في رسم خط متخيل بينه وبين قصص الكتاب أو بعضها على الأقل. ثمَّة أحجية تبدو سَهلة ومرئية بوضوح، لكنها مع إمعان النظر تحتجب وتتشَّكل في أبعاد أخرى.

هُدى جعفر كاتبة وناقدة سينمائية، لكنها أشارت، في حوارٍ صحفي معها، إلى أنها بدأت بالكتابة الأدبية قبل ذلك: "فكتبتُ قصصًا قصيرة، ونصوصًا سردية، عن الحرب، والمُدن، والنزوح، والفنون، بكل التساؤلات الصغيرة والكبيرة، كتبتُ كثيرًا من دون أن أنشغل بالأجناس الأدبية التي تقولب الإبداع أحيانًا وتؤطّره في إطارات ضيقة".

لعلَّ هذا ما يفسّر خُلو المجموعة مِن العيوب الشائعة في التجارب الأولى، فلا ارتباك من حيث الأدوات والأسلوب ولا تركيز على الهموم الذاتية والتجارب الحياتية المباشرة والضيّقة، كما لا نلمح رغبةً في إثبات الذات عبرَ الحيل التقنية أو الإفراط في اللغة الأدبية المنمقة. بدلًا من ذلك ثمة وَعي بفن الكتابة القصصية كنوع أدبي له خصوصيته، وانطلاقٌ مِن أَسر الذات إلى فضاء واسع لشخصيات تتحرك في مجتمع يمني وعربي، ووعي جمالي بالفضاء المديني وطبقاته ومستوياته، وولع بالشخصيات الخارجة على السِرب والقطيع، بإراداتها أو رغمًا عنها، شخصيات لا تخلو من غرابة وملامح أسطورية فكأنها مرسومة في بساط فارسي أو على هوامش طبعة نادرة من ألف ليلة وليلة.

على عكس العنوان، ليس من الصعب تحديد موقع فقرة الاقتباس المختارة للاستهلال، وقد نزعتها الكاتبة من سياق قصتها؛ لحظة كوداك.. عند لعبة الأحصنة الدوّارة، وهي تشير إلى ذلك بوضوح. نقرأ في هذه الفقرة:

"تذكّرتُ تلك السيدة التي قالت لنا إنّ الأطفال يعيشون حتى بلوغهم في عالمٍ غير مرئي يُدعى مرقص القرد، وهو مكان واسع، وساحر، منه تأتي كل الأفكار، من الشِّعر وحتى القتل، وإليه تذهب عقول المجانين بعد أن يفقدوها، لكنّها لم تخبرني لماذا هو مرقص، ولماذا القرد".

لا بدَّ أنَّ الكاتبة قد رأت شيئًا في هذه السطور يشي بعالَم كتابها، فاختيارها لها بوصفها عتبة يتوقف أمامها القارئ قليلًا ليس عشوائيا. للأطفال حضور متكرر في صفحات الكتاب، سواء عبر استدعاء مشاهد من الماضي أو عبر تركيز النص في معظمه على إحدى تجارب الطفولة. ولا تكاد تخلو قصة في الكتاب مِن الحِس بوجود ذلك العالم غير المرئي، فإمَّا أن يكون عالمًا جُوَّانيًا خاصًا بشخصية رئيسة وإمَّا أن يكون مشتركًا بين جماعةٍ أو مجتمع بأسره كخرافة يستظلون بها.

أسمت الكاتبة ذلك العالَم بمرقص القرد، وهو العنوان المُرشَّح للمجموعة، قبل العنوان الحالي. مرقص القرد أو ربما القردة؛ حيث الشِعر والقَتل والجنون، حيث الرقص الحُر غير المقيد بعقل أو قوالب، حيث يعود البشر إلى مستوى حيواني طليق ومرح. أمَّا لماذا هو مرقص القرد بالتحديد؟ فلا جواب، فهذا ليس المكان المناسب للتفسير العقلاني لكل شيء، كما هو شأن اليد التي علَّقت المِرآة ثم اختفت، أين اليد؟ مَن صاحبها؟ لماذا المرآة؟ ماذا يُراد مِن تعليقها؟ لا أجوبة، فقط تخمينات، بابٌ لتشغيل آلة الخيال وحمّى الاحتمالات، ممَّا يصل بنا لأولى القصص.

باختصار مخل قليلًا، في القصة الأولى: الباب وأنا وعنايات أبو سِنَّة، تنطلق الكاتبة من نقطة مركزية تتمثل في مشاهدة طفلةٍ (وهي الراوية في زمن تالٍ) لصورة الراقصة المقتولة في مسرحية عادل إمام شاهد مشافش حاجة، لتمدَّ منها خطوطًا في اتجاهات عدَّة. مِن الجملة الأولى: "في إحدى حيواتي السابقة، امتلكتُ دُمية قُطنية تُماثلني طولاً..." نرى الماضي غير مؤكّد، كأنه حياة سابقة، مجرد سلسلة في حيوات منتهية. ثم تظهر الدُمية القطنية مِثلَ ذاتٍ أخرى للراوية. تختلط جثة الدُمية، (في خيال الطفلة؟) بجثة الراقصة القتيلة، بأخريات، بها هي نفسها. ثم تزور الراقصة القتيلة الطفلة وتقول لها: " أنتِ باب، ستكونين دومًا الباب."

أهو البابُ نفسه الذي انسلَّت منه عنايات أبو سنّة فخرجت من المسرحية لتدخل حياتها دميةً أو شبحًا؟ أم الباب الذي تتدفق منه الخيالات والهواجس والغرائب والهلاوس، وسائر مُنتجات الخيال الفادح الذي يبدو كأنه الجنون؟

ثيمة أخرى لفتت انتباهي، وهي الجثّة، المذكورة في السطر الثاني من قصة عنايات أبو سنة: "اشتروها لي من دكَّان أوروبيِّ الطراز، وُجدت جُثَّة صاحبه داخل سجادة أصفهانيَّة مرسوم عليها أربعة صِبية ينظرون إلى الفراغ." وبالطبع جثّة الراقصة القتيلة نفسها، التي تدفع الطفلة إلى التساؤل كيف سمح المشاهدون للضحك بأن يأخذهم بعيدًا عنها؟ الطفلة لم تضحك، الطفلة توقفت أمام الجثة وتعاونت معها وسارت معها للنهاية، نحو ما وراء ذلك الباب المؤدي إلى غابة الاحتمالات.

في قصة حديث عن الساعات وفي مشهد عابر يعثر الأهالي على "جثة الرجل الذي مات بعد أن حشر أحدهم في حلقِه ساعةً أسطوانيَّة لها صوت عالٍ، وظلَّ الناسُ يُحدِّقون إلى المشهدِ المفزعِ وصوتُ الساعة يخرجُ من جوفِ الرجلِ كأنَّه جثَّة الوقت" وهناك جثث أخرى، في قصة شعرة في صحن العالَم يُعثر عليها مقتولة لأسباب سياسية، وجثة الرئيس المقتول في صورة فوتوغرافية، وفي قصة أخرى، يقول النجَّار عن الفرق بينه وبين أخيه الشاعر: "إنِّي أُعبِّئ البيوت بجُثث مصقولة، ومتيبسة، ومتينة، وأخي يُفرغها، يقلبها على رأسها، فتتقيأ ما في داخلها، ثُمَّ يصبح هذا القيءُ شيئاً فاتناً، وكئيباً، وقاهراً، اسمه الشِّعْر." هذا فضلًا عن الغربان التي "تلتهم جثث الزرادشتيين في معبدهم".

تصدر عن جثة رجل دقّات ساعة توحي بأنه لم يزل حيًا، أو على الأقل بأنَّ حكايته لم تزل حيَّة؛ حكايته تنتظر أن تُكتشف وتروى، مثل الجثث الأخرى التي ترصّع قصص الكتاب، بانتظار حكاياتها لتنفخ اللغة فيها الحياة من جديد. كأن الحكاية هي جثة الوقت، هي ما تبقى من حيواتنا السابقة وماضينا، صحيح أنَّها مجرد لغة، لكن دقَّات الساعة تنبعث من داخلها، مثل ذبذبة غامضة فاتنة تصدر عن ليل صنعاء في قصة حديث عن الساعات، مثل شيء لا يُمسَك ولا يُرصَد، لكن ما قيمة الفن إن لم يطمح إلى الإحاطة بما يتجاوز الحواس والعقل ويأسر الروح؟

في كل قصة تقريبًا حكاية مشوّقة بدرجةٍ ما، غير أنَّ الحكاية في هذا كله ليست بطلًا منفردًا بالعَمل، فكأنها مجرد هيكل عظمي، تكسوه الكاتبة باللغة والأفكار والمشاعر شديدة الخصوصية. لا تقفُ الدهشة عند حد الحكاية بالمرة، بل هي بالأساس في طريقة العَرض وترتيب العناصر المختلفة معًا، هي كذلك بالطبع في الأداء اللغوي ووقفات التأمُّل والاستبطان. تُنسَج خيوط الحكاية بينما ترنو العين إلى المرآة، إلى ما وراء الباب، إلى مرقص القردة، إلى اللغز القابع في قعر كأس السعادة بتعبير بطلة قصة لحظة كوداك، في قاع كل حكاية وكل إنسان. هذا اللغز المنتِج للسؤال والحيرة هو ما ينزع قصص الكتاب من سطح الحكاية المُسلية، ويحيطه بهالة الأدب الجاد.

قد ينبع الإلغاز والغموض من حدث أساسي في كل قصة، كأن يحاول ذَكَر سلحفاة الانتحار ويصر عليه مدى عمره حتى ينجح فيه، أو كما في قصة صلاة مسعود، حيث تظهر لرجل عادي حلمة ثدي أنثى في جبينه يُدر الحليب ويرضع الصغار، وقد تُذكّر بقصص التحوّل الشهيرة مثل الانمساخ لكافكا، والثدي لفيليب روث، ومع ذلك فهي ليست قصة كابوسية خانقة، ومِن المغري تلقّي هذه القصة من زاوية الجندر، برغم صعوبة حصرها في هذا الخطاب وحده. شأنها شأن معظم قصص الكتاب، تستعصي على التأويل الواحد، لعدم استسلامها التام لسُلطة خطاب أحادي أو خُطة مسبقة تسعى لتجسيد فكرة جاهزة أو معنى مُعلّب، بقدر ما أخلصت لديناميات الحكاية الحرة المتجاوِزة كأنها أحجيات تشاكس المنطق وتفر منه عبر باب الخيال الجامح القديم للطفولة والشِعر والجنون.

هذا مدخل واحد بين مداخل عديدة يمكن مقاربة قصص المجموعة عبرها، تطرق إليها آخرون كتبوا عنها. لهذا التعدد والاستعصاء على التأويل النهائي الجازم، أحسبُ أنَّ هذه القصص ستعيش طويلًا، وسوف تُستعادُ كثيرًا، وسوف يُعاشُ معها ويُستعاد المذاق اليمني الحميم، وسيجد القارئ نفسه متماهيًا مع الإحساس الخاص بصنعاء أو تعز أو عدن، عبر مشاعر وأفكار شخصيات فريدة، وحالة فنية تحتويه في شِبَاكها، حيث تمتزج أصوات الليل بالأغنيات القديمة بألوان الجبال ومذاق ورائحة الزربيان وشكل السلالم في البنايات وقطط الشوارع ومشرديها وجثث الوقت الفاتنة.