(كيس الملاكمة الوردي) لهلا بنت خالد وويلات الجسد الأنثوي

عبد الله العقيبي

عرضت مؤخرًا الفنانة التشكيلية السعودية هلا بنت خالد (الرياض ١٩٧١) في معرضها الشخصي المقام في غاليري Nagel Draxler في مدينة ميونخ الألمانية، عملها الفني الموسوم بـ(الزوجة..كيس ملاكمة) ضمن مجموعة أعمال لافتة للنظر وفيها دعوة ملحة للتأمل والتحليل، وقد اطلعتُ على مجموعتها من خلال حسابها الشخصي في Instagram، وفور وقوع نظري على كيس الملاكمة الوردي المنحوت على هيئة جسد امرأة، استوقفني العمل؛ ففي العمل تلك الفرادة التي تستفز المتلقي، وتضعه أمام الأسئلة الحقيقية والمؤرقة.

إن هذا العمل يحمل في داخله أبعادًا مفاهيمية متعددة، قابلة لحضور وجهة النظر وضدها، فيمكن أن يُنظر إليه من ناحية الفلسفة النسوية الناعمة، وفي الوقت نفسه يمكن أن يذهب بالمتلقي إلى البعد النسوي الراديكالي، الذي يستند إلى تصدير معضلة عدم المساواة الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وتبني الفكرة الذكورية لقهر وهيمنة النظام الأبوي القاسي على النساء، ومن خلال نظرية التلقي وتفهمنا لمشاركة المتلقي ودوره المحوري في عملية تكوين المعنى، يمكننا أن ننحي قليلًا وجهة نظر الصانع (الفنان).

من أجل ذلك قمتُ بعملية استقصاء عفوية لآراء مَن حولي، العائلة والأصدقاء، فعرضتُ الصورة ابتداء على زوجتي وابنتي، ثم عرضتُها على مجموعة من الأصدقاء الذكور، وفعلًا وصلتُ إلى نتيجة مفادها أن هذا العمل الصادم، استطاع أن يؤثر تأثيرًا متباينًا في كل مَن ينظر إليه، حتى لو كانت هذه النظرة سريعة وخاطفة، فقد رأت فيه زوجتي معنى من معاني الإرهاق الجسدي جراء عمل المرأة في الوظيفة والبيت، لكنها لم تربط هذا الإرهاق بالمظلومية النسوية، فيما رأى فيه أكثر من صديق ممن لديهم دراية ومعرفة بتاريخ الفنون، عملًا نسويًّا راديكاليًّا بامتياز، فيما قالت ابنتي التي لم تبلغ العشرين بعد: "هذا حال المرأة الأولى، عليك أن تخبر هذه الفنانة لو كنت تعرفها، أن تصنع قفازات ملاكمة وردية!".

وبعيدًا عن وجهات النظر المتباينة تلك، يمكننا أن نلاحظ أن العمل في ذاته قدم دوره البارز، من ناحية كونه كتلة فنية مفاهيمية، وهذا ما يهمني بشكل شخصي، فلطالما كان دور العمل الفني المفاهيمي هو الإشارة فقط، ثم يأتي دور الذكاء والنباهة، ومن بعدها الخطاب المضمر، في قيمة هذه الإشارة، ولو نظرنا إلى أكثر الأعمال المفاهيمية تأثيرًا في المتلقين، سنجدها تلك الأعمال التي تستطيع أن تفصح عن بيانها الفني دون الحاجة إلى قراءة الأوراق المصاحبة للعمل، أو حتى الإحالة إلى اسمه، فالإشارة هنا تحيل إلى مضمر بالضرورة، وكلما كان هذا المضمر متسعًا ومتشعبًا وقابلًا لحمل الفكرة ونقيضها، سيكون بارزًا من ناحية أهميته في تاريخ النوع الفني، وهذه الفلسفة الإشارية موجودة في الفن المفاهيمي منذ نافورة دوشامب حتى اليوم.

حين أفكر في بقية الأعمال التي عُرضت مع كيس الملاكمة الوردي، أجدها قابلة للتفسير الأحادي، الذي يحيل إلى تصور نسوي فعلًا، ولو استحضرنا تاريخ المعارض الفنية لفنانين كبار عبر التاريخ، سننتبه إلى أن هناك أعمالًا فنية نجت من سلطة تأطير النظرة المفاهيمية لأعمال الفنانين مجتمعة؛ أي في حال وجودها داخل مفهوم موحد للمعرض، لكنَّ هناك أعمالًا استطاعت أن تخرج من مجال تأطير البيان الفني الذي رسمه الفنان بدقة لمعرضه، لتكون له صيرورة منفردة، وأنا أميل إلى أنَّ عمل كيس الملاكمة الوردي هذا، من الممكن أن يجد طريقه خارج بيان معرض الفنانة هلا بنت خالد إجمالًا، ليمثل بشكل منفصل حالة من الجدل المفاهيمي، لا يمكن تأطيرها ولا التنبؤ بمآلها، سواء من جهة التصور النقدي، أم من جهة التلقي العام. فهو عمل مربك بامتياز يمكن أن تتعاطف معه؛ بحكم دفاعه عن الجسد الأنثوي المنهك، وفي وقت لاحق يمكن أن تتغير نظرتك إليه، بحسب الظرف التاريخي، لتعود وتتفاعل معه بشكل عدائي وسلبي، وهنا تحديدًا تظهر عبقرية العمل؛ أي في دوره الإشاري الذي ذكرته آنفًا، وهذه الطبيعة الإشارية لا نجدها إلا في الأعمال الفنية التي خلدها التاريخ الإنساني، فوجودها هش جدًّا، ولا يبدعها إلَّا الفنان الذي يتتبع بإخلاص التماعات ذهنه وحساسيته بالغة الرهافة تجاه الفن والجمال.

أتذكر وأنا أفكر في هذا البعد التكويني الموجود في كيس الملاكمة الوردي لهلا بنت خالد، الالتماعة الذهنية التي أحسستها وأنا أشاهد للمرة الأولى عمل (الكرسي البدين) للفنان الألماني جوزيف بويز (١٩٢١- ١٩٨٦) أحد أهم فناني شبكة فلاكسس الواقعية؛ فالكرسي في عمل بويز يشير بشكل مباشر إلى رفض وجوده النفعي، لكنه يحيل مفاهيميًّا إلى ثيمة الرفض نفسها، والالتماعة في عمل هلا بنت خالد توحي بقيمة الرفض نفسها، فعلى الرغم من أن كيس الملاكمة معلق بشكل استفزازي أمام المتلقي، إلا أن لونه الوردي وتكوينه على هيئة جسد امرأة يرفض وجوده النفعي، ويحيل بشكل صارخ إلى رفض العنف تجاه المرأة، كما أن لديه بيانًا آخر يشير إلى تاريخ هذا الجسد مع الويلات، وهو الآن وبمجرد وجوده على هذا النحو، معلق في معرض فني يتحول من كونه كيس ملاكمة إلى إشارة اعتراض ورفض، وعلامة توقف عند هذا الحد من الإنهاك والإجهاد لهذا الجسد، سواء كان هذا الإنهاك مقصودًا أم عفويًّا، بسبب طبيعة الحياة أو الثقافة السائدة. ولعل هذه المقارنة البسيطة بين عمل سجل حضوره في تاريخ الفن المفاهيمي، وبين عمل حاضر أمامنا في هذه اللحظة، تشير إلى ما كنت أعنيه بالدور الأمثل للبعد الإشاري في الفنون المعاصرة، فلم يعد العالم يتحمل أكثر من الإشارة، ولا شك في أن هلا بنت خالد من خلال هذا العمل وبقية أعمالها الأخرى مارست بوعي شديد جمالية البعد الإشاري في الفن المفاهيمي، وقبضت من خلال عملها على إشارة لا تحتاج إلا لوجودها داخل الفضاء التداولي.

والمقارنة السابقة يمكن أن نستخدمها بين عمل هلا بنت خالد (الزوجة..كيس ملاكمة) وبين كثير من الأعمال المفاهيمية التي خلدها التاريخ؛ لأن عمل الفنانة الفذ يحمل الجينات الفنية نفسها لكثير من الأعمال الخالدة، وأنا هنا لا أتحدث عن تأثير محلي، بل أتحدث عن تأثير إنساني عام، يشترك فيه أي إنسان في أي مكان وزمان، ذلك لأن العمل ينطلق من خلال أزمة وجودية، يصح أن يتفاعل معها أي شخص من أي ثقافة، فالتكوين المفاهيمي لهذا العمل ولبقية أعمال المعرض عابر لحدود القومية أو الإثنية. ولا أريد أن أنتهي من الحديث عن أعمال هلا بنت خالد دون التعريج على مسيرتها الفنية، ووجودها الثقافي الهام داخل حقل الفن المفاهيمي المحلي والعالمي، فهلا بنت خالد فنانة تمارس الرسم وتتعاطى مع الفن منذ صغرها، وقد درست الفن من خلال التعليم والتثقيف الشخصي، كما أنها أديبة مهتمة بشكل مكثف بأدب الطفل، دمجت الرسم والكتابة باللغتَين العربية والإنجليزية، وهي على الرغم من تعلقها بهذا المجال النبيل، تعد من أبرز فناني السعودية، وتحظى أعمالها الفنية بتقدير محلي وعالمي، فقد كونت أعمالها الجريئة والمختلفة ردود فعل إيجابية لدى المحللين والنقاد، ما أعطاها الفرصة الحقيقية للمشاركة في أهم المعارض والمحافل الدولية.

أُقيم معرضها الشخصي الأول في الرياض عام ١٩٩١، ومعرضها الدولي الأول عام ٢٠١٩ في متحف الفن الحديث في تبليسي، ثم شاركت في بينالي موسكو للفن المعاصر في العام نفسه، وقد انضمت منذ ٢٠٢٠ بوصفها المالك المشارك لاستديو غارم، وهي منظمة غير ربحية تشجع الفنانين على استكشاف ثقافتهم وتراثهم الثقافي والفني وحقائقهم الشخصية.

رابط المعرض:
https://nagel-draxler.de/exhibition/to-have-and-to-hold/

image مقاسات العمل: جلد صناعي - حبل نايلون - سلسلة معدنية ٢٤ × ١٢.٢ × ٧.٨ إنش) ( ٦١ × ٣١ × ٢٠ سم ) image image