قصيدة النثر من السطر إلى الكتلة

عمر الرحيلي

من السهولة ملاحظة تأثر الأدب وحركته بعصره، وهذا يبدو جليًا عند المهتمين بالتحقيب الأدبي واستنباط علامات تدل على كل حركة أدبية ووضع تأريخ لها.

ومن باب أولى؛ فالصورة الصناعية التي مس أثرها كل جانب من حياتنا على هذه الأرض، بما في ذلك الوقت، لابد من أنها ستُحدث علاماتٍ أكثر وضوحًا في الحركة الأدبية، فـ (الأدب هو الأسلوب المتجرد لرؤية أنفسنا).

ولن تصمد الأشكال الأدبية مع انتقال العالم من عصره الأقرب إلى البساطة إلى العالم الصناعي وثورات الآلة. وسنلاحظ هذا في تخلّي الأدب العالمي عن المطولات، التي كانت سمة للتأليف، وتحمل وحدها تقريباً مهمة التسلية للقراء جوار مدافئهم في الليالي الطويلة للشتاء الرتيب.

ليست هذه اللفتة الكميّة هي الأثر الوحيد لتحولات العصر، فالشكل أيضاً يطاله التغيير وفق القوالب الجديدة، المرنة والفضفاضة. كذلك الأجناس الأدبية لا يمكنها أن تصمد على ما تعارف عليه القراء والمؤلفون لمدة طويلة، لا بدّ من تكسير جدران صلبة وفتح نوافذ جديدة للتعبير، والتحليق بأجنحة جديدة قادرة على الوصول بعيداً.

إن التتبع التاريخي لقصيدة النثر، من حيث بداياتها الحقيقية، وتجاوز الإرهاصات التي فُهمت أنها تمهيد لنشوء قصيدة النثر في وقت لاحق. نجدها قد أخذت الاعتراف البطيء والمتدرج في فرنسا، بالتزامن مع تغيرات اجتماعية وسياسية، لم تعد أدوات الشاعر التقليدية تسعفه للتعبير عن الإنسان الجديد آنذاك، ولا احتواء موضوعاته، وهو يجابه عالمًا متجددًا يتجه إلى الحداثة على كل الأصعدة.

لم يكن للغة أن تصارع نفسها بشروط قديمة لأدب جديد، لذلك عبر الشاعر الفرنسي عن الأزمة بوضوح، عندما بحث عن مادةٍ جديدة للكتابة، فهو يبحث عن "معجزة نثر شعري!"، وقد وضع أول التقاء بين لفظين كانا دائمًا في حال تقابل وليس التقاء وتجاور.

هذا على مستوى التوصيف وتحديد ماهية قصيدة النثر من حيث التسمية وبداياتها، وتنطلق من (معجزة في النثر) إلى شعر في النثر (poetry in prose)، وأخيراً إلى قصيدة النثر (Prose Poem) بالتخلي عن اتكائها على جنس أدبيٍ آخر، وبعيداً عن شروطه المجلوبة بالتسمية.

وعلى مستوى الكتابة بنيّة إيجاد قصيدة نثر تحمل سمات الشكل الشعري، كانت الخطوة الأولى والواعية والمدركة من الشاعر الفرنسي ايزيوس برتران، عندما أعطى تعليماتٍ للمطبعة التي ستتولى أمر كتابه (غاسبار الليل)، بأن تترك فراغاتٍ ومسافاتٍ بيضاء بين الفقرات، مشابهة للشكل المألوف للقصيدة التقليدية!

هذا التشكيل البصري لقصيدة النثر على طريقة السطر الشعري أو التشطير، كان من أخطاء البدايات التي لا مفر من الوقوع فيها، حيث وجهت هذه الطريقة تعريف قصيدة النثر إلى التصاق دائم بالشعر، وتحديد علاماتها بأنها شعر متخلص من الوزن والقافية، في الوقت الذي تعمل به قصيدة النثر، كما سنرى، داخل النثر ذاته، وتستغرق داخله للوصول إلى طاقاته القصوى، دون انشغال بالشكل في البدء.

الارتباك حيال قصيدة النثر سمة لازمة لها منذ بداياتها، ولم يسلم النقاد منه في تعريفهم لها، فنجد عبد القادر الجنابي يشير إلى الأساس البنائي لقصيدة النثر بالبداية السهلة، حيث يكون النص في حياد خامل تقريباً، وغير مثير، ثم التوتر الذي يتصاعد في النص ويحيل كل جملة إلى جوارها، وتتجلى مهمة الشاعر في وصوله إلى لحظة الخروج من القصيدة وإغلاقها. فينقل عن روبرت بلاي (لا يكفي أن تعرف كيف تبدأ فحسب، وإنما عليك أن تعرف كيف تخرج) أي كيف تختم القصيدة، فيما يسميها الوقفة المطلوبة! ومقابل ذلك نجد كليمنس ودونام، في تحريرهما لكتاب "مقدمة في قصيدة النثر" يخالفان هذا المسار بشرط فضفاض وهو أن تُكتب القصيدة نثراً ضمن سياق شعري ولا يُستخدم السطر الأخير كأداة في إحراز أهدافها!

هذه التداخلات في تحديد ماهية قصيدة النثر سببها استعصاء قصيدة النثر على النمذجة الدائمة، ومجالها المفتوح ونمطها الذي يختاره الشاعر لكتابة قصيدته، والطريقة التي تمكننا من تلقيها هي النظر في أسلوبها الخاص، وليس مقدار ما تحققه من شروط، ودون احتكامها إلى معيار مسبق!

يعدّ الشاعر ماكس جاكوب، هو الأكثر دقة في إنقاذ قصيدة النثر من الإرث الشعري الموزون، ووضع لها محددات أقرب إلى المفاهيم من التعريف، حيث جعل (تركيب المجموع) وبناء الكتلة النصية بمعزل عن خارجها، وبجمل متسقة تحيل إلى جمل بعدها، مغلقة ومستقلة. وهذا التحديد الصعب والمرن في آنٍ واحد.. يجعل قصيدة النثر تستهدف الانطباع العام عند القارئ بعد تلقيه النص كاملاً، وغير معنية بتجهيز اقتباسات محتملة داخل النص، يمكن انتزاعها من سياقها واستقلالها خارجه.

بالنظر إلى ديوان "ورقة أمشي فيها وحدي" للشاعر إبراهيم الحسين، نطالع نصًا تتجلى فيه فكرة تركيب المجموع والكتلة المستقلة في ذاتها بعنوان: (هكذا يكون الشعر):

(... هكذا يكون الشعر، وعلينا أن نضرب الحجر حتى نسمع صرخته، نرى ملامحه تتغيّر حتى يخرج عن صمته؛ ربما هو نتوء صغير يقف في حلقه، ويمنعه من الكلام، يلفظه أمام عيوننا ويتكلّم، هكذا يطفر الشعر ويتطاير، هكذا علينا أن نحدس بقوة ونتعلّم.)

هذه كتلة نصية مستقلة عن خارجها، مهما أحالت النقاط الثلاث في بدايتها لجزء مضمر قبلها، وكل جملة تحيل إلى أخرى، بدءًا من تحديد الشعر وما يقتضيه ذلك، ثم التأويل الممكن للحجر الذي يتعثر في الكلام، وجملة أخيرة تستخلص العبرة من النص كاملاً، عمّا ينبغي أن يكون عليه الشعر؛ وما علينا القيام به لإخراجه من حجريّته العاجزة، لأن هذا ما علينا فعله، أن نحدس بقوة ونتعلم.

ومن تجربة شعرية أخرى، للشاعر عبد الرحمن الشهري، من نص منشور له على صفحته الخاصة وضمن إصدار قادم له: (قصائد منتصف الليل).

(أترك لقصائدي فرصة النمو بعيدا عني. ترعى عشب الحياة الرطب، وتسير تحت المطر. أحيانا أقع في غرام امرأة، ثم أنسى الموضوع. أنساه حتى أسمع طرقا على إحدى النوافذ. أفتح للضيفة القادمة من مكان بعيد. الضيفة التي ترتمي على الكنبة من شدة التعب. متعبة جدا، ولكنها ترتب شعرها أمام المرآة. إذا كانت مدخّنة؛ تشعل سيجارة مارلبورو أحمر. أقرّب لها المنفضة، ولا أسألها عن شيء. تذهب إلى المطبخ، وتصنع فنجان قهوة، وكأني غير موجود. هل عرفتني يا عبد الرحمن؟! ملامحك ليست غريبة عني، وربما نكون قد التقينا في حلم. أعتقد ذلك تقول، ثم تتحول إلى كلمات.)

يداخل الشاعر هنا بين السرد دون غاية سردية مقصودة، وبين الجملة الأخيرة التي تعيد قراءة النص مكتملًا، دون إحداث مفارقة صادمة، أو تعمّد باهت لإخلال توقع القارئ، فالشاعر يشير إلى قصائده من العنوان وأول جملة يبدأ فيها "أترك لقصائدي فرصة النمو بعيدًا عني"، ثم يكمل فيما يشبه السرد دخول امرأة، مجازية على الأغلب، ويصورها في عبارات قلقة، إلى أن ينتهي حضورها بتحولها إلى كلمات، بعد أن نمت في مخيلته، قريباً منه وبعيداً، حتى اكتمالها لقصيدة من منتصف الليل!

هذان مثالان لما يمكن تحديده بكتلة نصية مغلقة ومستقلة في ذاتها، وتمثلان نوعاً ما قصيدة نثر بعيدة كل البعد عن الشفاهية والاستماع في الشعر، وأخلصت لكتابته وقراءته مرة تلو مرة، بقصد الكتابة المتأنية وبمغامرات ليس الارتجال من ضمنها، لتنضم إلى نماذج لا نهائية لقصيدة النثر، تملأ بها الفراغ المهدر الذي لم تملأه الأجناس الأدبية.


  • 1) مقدمة لقصيدة النثر، ريان كليمنس وجيمي دونام، دار خطوط وظلال، 2021م.
  • 2) قصيدة النثر الأمريكية، ديفيد ليمان، دار خطوط وظلال، 2021 م.
  • 3) ديوان إلى الأبد، عبد القادر الجنابي، دار التنوير، 2015 م.
  • 4) ورقة أمشي فيها وحدي، إبراهيم الحسين، دار أدب، 2023م.
  • 5) صفحة الشاعر عبد الرحمن الشهري facebook، وضمن إصدار قادم تحت الطبع.
  • 6) سجون نختار أن نحيا فيها، دوريس ليسينج، دار العين، 2019م.