السيرة العلمية (من الألف إلى الدال) للدكتور سعد الرفاعي: مقاربة بنيوية تكوينية

ابتسام البلوي

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، وبعد:

فقد قرأت هذه السيرة العلمية (من الألف إلى الدال)، المطبوعة في كتاب صدر عن نادي الأحساء الأدبي عام 1444ه، حين طُلب مني بدعوة كريمة من القائمين على (قيصرية الكتاب) أن أدير حوارًا مع صاحبها د. سعد الرفاعي، وضيوف القيصرية؛ لإحياء فعالية بعنوان (كتابي الأول: القصة كاملة)، في يوم الثلاثاء الموافق 17-8-1445هـ، فكانت هذه القراءة الأولية قبسًا من نور جعلني أتشوق للبحث عن المزيد المختبئ بين سطورها.

وبعد مضي أشهر قليلة يسر الله لي الانضمام إلى برنامج (ناقد 2) التابع لجمعية الأدب المقارن في جامعة الملك سعود، فألحت علي الفكرة بإعادة قراءة هذه السيرة قراءة فاحصة، وتقديم معالجة نقدية لها، وفق المنهج البنيوي التكويني بتشجيع من مشرفي د/ أحمد العطوي.

وكان اختيار المنهج البنيوي التكويني هو الأقرب لدراسة هذه السيرة؛ لمرونته فهو يربط داخل النص بخارجه، فيجمع بين البحث في خبايا النص ذاته واستنطاق ما يحيط به من ملابسات وظروف اجتماعية أو تاريخية أو نفسية، وبذلك يغدو النص قابلًا للانفتاح على مستويات عالية من التحليل والوعي.

أهداف الدراسة
  • تقديم دراسة في ضوء منهج حديث (البنيوية التكوينية) لعلها تُسهم في خدمة الأدب السعودي، ومواكبة المستجدات النقدية.
  • إبراز ملامح السيرة العلمية للدكتور سعد الرفاعي سلبًا وإيجابًا.
  • الكشف عن ملامح التحول والتطور الاجتماعي في بلادنا المملكة العربية السعودية من خلال سرد السيرة.

ولذلك فإن الدراسة تجيب عن الأسئلة الآتية:

  • ما مدى تمكن كاتب هذه السيرة من رصد ملامح الواقع الذي عاشه؟ وكيف كانت رؤيته لواقعه ولمجتمعه؟ وما البنية الدالة التي عبر بها عن ذلك؟
  • ما أبرز السمات الفنية التي اتسمت بها تجربته؟ وما مدى تجسيدها للبنيات الموضوعية التي عبرت عنها؟ وكيف تواشجت معها؟
أهمية الموضوع وأسباب اختياره
  • قلة الدراسات العلمية المنهجية التي طبقت هذا المنهج على نماذج من الأدب خصوصًا الأدب السعودي.
  • خدمة الأدب السعودي من خلال العناية بدراسة إنتاج أدبائه، والاستفادة من تجاربهم الحياتية والإبداعية على السواء.
  • كون الدراسة لا تنحصر في الجانب الأدبي؛ بل تتعالق مع حقول عديدة، منها: الاجتماعي والنفسي والتاريخي.

وأما الدراسات السابقة: فقد تركز بحثي فيما وُثق ونُشر في المجلات والصحف الرسمية، وهي كالآتي:

  • الإنساني والاجتماعي في سيرة د. سعد الرفاعي سيرة علمية، صالح الحسيني، مجلة فرقد الإبداعية، 22-4-1445هـ.
    وصف كاتب المقالة هذه السيرة وصفًا تقريريًا موجزًا ورصد فيها بعض القيم الاجتماعية الإيجابية، دون التعرض للقيم السلبية.
  • من الألف إلى الدال لسعد الرفاعي، عبد الله الحيدري، مجلة الجوبة العدد 81، 1445هـ-202.
    قدم الدكتور عبد الله الحيدري لمقالته بضرب أمثلة لبعض السير التي اختار أصحابها أن يوثقوا مرحلة أو مراحل من حياتهم في سياق واحد كما في سيرة الرفاعي، ثم حلل العنوان وذكر دوافع الكتابة وعوائق البوح، كما تخلل ذلك بعض النقودات التي توجهت صوب أسلوب الكتابة بإلماحات سريعة.
  • معاناة وعقبات ودراسات عليا بالانتساب، لمحمد عبد الرزاق القشعمي، اليمامة، العدد 2751، 16 مارس 2023م.

بدا القشعمي وكأنه يلخص أحداث السيرة ويختصر الطريق على من لم يتمكن من اقتناء الكتاب أو الاطلاع عليه كاملًا، بعرض مضمونها عرضًا سريعًا ليصل في النهاية إلى تأكيد فكرة مقالته بأن بعد المعاناة والصبر سيكون الظفر.

وتختلف دراستي هذه عما سبقها من دراسات في أنها تتناول ملامح السيرة العلمية وفق معطيات المنهج البنيوي التكويني، فالدراسة تمثل شهادة الرفاعي من خلال سيرته على واقعه الاجتماعي والتاريخي والفكري وتمثل نظرته للواقع، مع الاهتمام بالبنية الداخلية والقالب الذي اختار أن يقدم فيه هذه السيرة.

ومن المعلوم أن أي عمل مثمر لا يخلو من صعوبات، وأبرز الصعوبات التي واجهتني في هذا البحث هي ضيق الوقت المحدد لتسليم أعمالنا، وكذلك ندرة الأبحاث التي طبقت منهج البنيوية التكوينية في مجال نقد السيرة السعودية خصوصًا، وانفتاح دراستي على مجالات وتخصصات خارج نطاق التخصص الأدبي.

وأما عن تقسيم البحث: فستبدأ دراستي -بحول الله وقوته- بتقديم تعريف مكثف بالمنهج البنيوي التكويني، وأهم إستراتيجياته التطبيقية، ثم سأقدم تعريفًا موجزًا بصاحب السيرة العلمية (د. سعد الرفاعي)، وسأنتقل بعد ذلك إلى التطبيق من خلال مبحثين: أحدهما يدرس البنية الاجتماعية، والآخر يدرس البنية الداخلية.

يليهما الخاتمة: وتشمل أهم النتائج، وأبرز التوصيات التي توصلت إليها الدراسة.

التمهيد

أ‌- البنيوية التكوينية وأهم إستراتيجياتها التطبيقية:

اتجهت المناهج النقدية السياقية صوب المبدع أو مجتمعه وأهملت النص، وتسببت في قصور في بعض زوايا تحليله، فظهرت أصوات تنادي (بموت المؤلف) والتعمق في بنية النص دون النظر إلى سياقاته، وهذا ما تمثله المناهج النصية كالبنيوية التشكيلية، تلا ذلك تشكل ردود فعل أخرى تنادي بتحليل النصوص ومراعاة ظروف سياقاتها، وهذا ما يميز البنيوية التكوينية.

ويُعدّ (غولدمان) مؤسس هذا المنهج، تأثر بأستاذه لوكاتش حيث بدأ (لوكاتش) بتنظيرات للمنهج ثم اكتمل على يد (لوسيان غولدمان) الذي وضع آليات اشتغاله؛ لتحليل البنى الداخلية للنصوص الدالة وفهمها، ثم العمل على إبراز الذهنية للجماعة في بنية أوسع هي بنية المجال الاجتماعي والثقافي[1].

تتكئ البنيوية التكوينية على جملة من الأدوات المتضافرة في قراءة النص واستبطانه، ودراسة طرق تشكله من خلال الغوص في السياقات المحيطة به، ولكن دون إهمال لبنية النص وعوالمه الداخلية.

ومن الممكن حصر المعالم الرئيسة التي قامت عليها تكوينية غولدمان في خمسة معالم، هي: رؤية العالم، والفهم والتفسير، والبنية الدالة، والوعي القائم والوعي الممكن، والتماثل (التناظر)[2].

وتسعى هذه الدراسة إلى مقاربة السيرة العلمية في ضوء المنهج البنيوي التكويني؛ لإضاءة جوانب عديدة تتعلق بالبنية الداخلية أو السياق الخارجي.


ب‌- التعريف بصاحب السيرة:

هو سعد بن سعيد الرفاعي، له إسهامات نقدية، ولد في محافظة ينبع وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط إلى نهاية المرحلة الثانوية، والتحق بعد ذلك بالكلية المتوسطة بالمدينة المنورة وحصل على الدبلوم التربوي، ثم انخرط في العمل التربوي معلمًا، ثم وكيلًا في المرحلة الابتدائية.

كُلّف بإدارة مدرسة معاوية بن أبي سفيان الثانوية منذ تأسيسها عام 1422هـ، بعدها تفرغ للحصول على درجة الماجستير في الإدارة التعليمية في ينبع؛ ليعمل مشرفًا للتدريب ثم مديرًا للتخطيط والتطوير التربوي منذ 1427هـ، ثم حصل على الدكتوراه من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن رسالته (الأدب في ينبع في العهد السعودي موضوعاته وسماته).

له نشاط ثقافي وتربوي؛ فقد شارك في تأسيس مهرجان ينبع السياحي، وأسهم في الإشراف على النشاط الثقافي بنادي رضوى الرياضي بينبع، وله مشاركات نقدية في الملتقيات الثقافية، وهو مؤسس ورئيس جمعية أدب الطفل وثقافته، وله أكثر من عشرين كتابًا مطبوعًا منها خمسة دواوين، هي: نزيف الجرح، والعشق ينبع، وأناشيد عمر (شعر للأطفال)، ولما بعد، وصلوات.

ومن مؤلفاته:
ينبع بعيون غربية، وينبع بعيون عربية، وعين ثالثة، ولقاء رضوى الثقافي الأول، والحوراء في عيون الرحالة، والأدب في ينبع في العهد السعودي، وكتاب السيرة العلمية من الألف إلى الدال وهو موضوع دراستي[3].


  • [1] ينظر: العنبر، عمر عبدالله، تاريخ النشر(2019م)، المنهج البنيوي التكويني (مفاهيمه وأدواته وإشكالياته)، مجلة جرش للبحوث والدراسات المجلد 20، ع 2، ص405.
  • [2] ينظر: سعيدي عادل، وبختي عبد القادر، السنة (2019م)، مرتكزات بنيوية غولدمان التكوينية، مجلة آفاق العلمية، المجلد 11، ع4، ص504-510.
  • [3] دارة الملك عبدالعزيز، عام (1435ه)، قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية ،الرياض ،ج1، ص 609-610.
1- (البنية الاجتماعية)

سنتعرف من خلال هذا المبحث على رؤية الأديب للواقع؛ هل يراه في حالة تناقض وصراع أم يراه في حالة انسجام وسلام؟ وكيف سيصور هذه العلاقة؟ وهل يحس بالغربة؟ وما مصادرها؟ وسأرصد أيضًا بعض الثنائيات التي ظهرت لي من خلال دراسة سيرته.

والإنسان -كما هو معلوم- ابن بيئته وابن مجتمعه، وإذا أردنا أن نفهم عملًا ما فهمًا صحيحًا فلا بد من معرفة الملابسات المحيطة به.

وقد اجتهد الكاتب في رسم صورة واقعية للمجتمع السعودي، وبالذات في حديثه عن مرحلة الطفولة وبداية الشباب (منذ الستينيات وحتى الثمانينيات تقريبًا)، وكأنه يرصد سيرة جيل كامل لا سيرته وحده، حيث يعيش أغلب السعوديين آنذاك ظروفًا حياتية متقاربة؛ إذ لم يظهر في السيرة وجود تفاوت كبير في الطبقات الاجتماعية بين أكثر السعوديين.

وصف الكاتب البساطة والألفة بين الجيران، ودغدغ مشاعر القراء ليثير الحنين إلى تلك الأيام في نفوس أقرانه، وفضول الأصغر سنًا لمعرفة المزيد عن جمال تلك الأيام، وما يسودها من ألفة وتقارب وتحاب بين الجيران وكأنهم أسرة واحدة لم تفرق بينهم طبيعة الحياة المدنية كما في عصرنا الحاضر، يقول: "كنا نعيش فرح اللحظة مجتمعين، فالحي أسرة واحدة تتنقل بين بيوتاتها دون محاذير أو توجس"[4].

قيم عظيمة تكاد تتلاشى الآن، الجار يحفظ حقوق جاره ويكون مسؤولًا عن أهل بيته في غيابه، وهو أمر شائع لا مزية فيه ولا فضل، ولا يحجم عن التحلي به إلا ساقط منبوذ من أهل حيه، ومما يمثل هذا حديثه عن يومه الأول في الدراسة في الصف الأول الابتدائي: "لم يكن والدي -رحمه الله- برفقتي؛ لظروف عمله العسكري فأوصى بي أبناء الجيران الذين يسبقوني في الدراسة -وذلك أمر كان مألوفًا في تلك الفترة-"[5].

كما أظهرت السيرة رؤية الكاتب للعائلة فهم نسيج متلاحم لا يبعدهم عن بعضهم إلا الظروف القاهرة، ولكل منهم دور وواجب تجاه الآخر، فبعد وفاة والده كان عمه هو المسؤول عن رعايتهم في صغره، وكيف عدّ نفسه مسؤولًا عن رد ذلك الجميل عندما بلغ الكبر والمرض من عمه مبلغه[6].

أعطت هذه السيرة المرأة أهمية بالغة بدءًا بالأم، ثم الزوجة التي تساند زوجها وتدعم نجاحاته، ثم الأخوات القريبات من القلب، واحتلت الأم المقام الأول، يذكرها من بدايات طفولته وحتى حصوله على الشهادة، وافتقاده لها بعد وفاتها، وعلى الرغم من انتمائه إلى طبقة المتعلمين في حين كانت هي من جيل مختلف لم تتح لهم فرص التعليم كما أتيحت له، إلا أنه يؤمن بفكرها ووعيها "صعدت الطائرة وأنا أفكر في دعوة أمي، وقلت في نفسي: لقد دعت لي بالخير، وهذا يعني أن أوطن نفسي بالقبول بالنتيجة أيًا كانت؛ ففي كلاهما خير سواء اجتزت المقابلة أم لم أجتزها!! فيالله ما أجمل دعوتها وأوعاها التي وعتها بفطرتها وبقلب الأم وصدق إيمانها"[7].

ولا تزال هذه النظرة لكبار السن وقربهم من الله وسلامة فطرتهم وصدق إيمانهم وبركة دعائهم هي السائدة حتى الآن.

ولو تأملنا السيرة لوجدنا قيمة الصداقة تأخذ حيزًا كبيرًا منها، بحيث لا تكاد سيرته في كل مراحله الدراسية تخلو من التعبير عن الصداقة والثناء على الأصدقاء وذكر أسمائهم في كثير من الأحيان.

كما وثق بعض الأحداث المشهورة مثل حادثة إفطار الناس خطأ في آخر يوم من رمضان ثم إعادة قضائه بعد صدور الفتوى بقضائه "وقد تبين لاحقًا أنه كان يومًا رمضانيًا عندما أفطرنا بعد ثمانية وعشرين يومًا، وصدرت الفتوى بالصيام ليومين قضاء"[8]، وهذا يؤكد تلاحم الشعب والتزامه بقوانين الدولة، وثقته بمؤسساتها الدينية وطاعته لها.

أبانت السيرة عن قيمة فضلى كان المجتمع السعودي ولا يزال يتحلى بها وهي الانفتاح على الآخر، فلا يتحيز أفراده (في الغالب) ضد غيرهم، وهذا ما ظهر جليًا من خلال حديث الكاتب عن شخصيات الأساتذة غير السعوديين، كان ينظر إليهم بعين التقدير والاحترام والشواهد على هذا كثيرة، "أحد معلمينا المصريين كان غاية في اللطف والطيبة"[9]، ويقول عن أستاذ مصري آخر "وممن درسنا دكتور مصري جميل اسمه رمضان عيد الصباغ -رحمه الله رحمة واسعة– فقد ذُكر لي أنه توفي"[10].

ومع كل هذا الجمال الذي رسمه المؤلف في وصف طبيعة المجتمع وما فيه من جمال وسكينة إلا أنه لم يكن مبالغًا ولا مدعيًا المثالية: فالخير وإن كان هو الغالب في نظر المؤلف إلا أن السلبيات موجودة في كل المجتمعات وفي كل الأماكن، يقول عن مشاجرة رآها وهو في سن صغيرة "كان تساؤلي وأقراني من الجيران: من أين استمد هذان الطالبان كل هذا العنف والتهور حد إسالة الدماء في مثل هذه السن المبكرة؟!"[11].

رصد المؤلف عيوبًا اجتماعية فكانت نظرته نظرة واقعية محايدة، يحركه حسه التربوي وإحساسه بالمسؤولية، وقد خاض هذا المجال طالبًا ومعلمًا ووكيلًا ومديرًا، وكأنه من خلال سرد تلك المثالب يحاول أن يقوم بدور الواعظ، أو المرشد دافعه بث الوعي خاصة لدى الشباب.

"ومن المواقف التي تعلق في الذاكرة اجتماعاتنا الصباحية قبل الطابور إذ تكون سببًا في بعض السلوكيات الخاطئة كالمشاجرات وشرب التدخين والشمة، وغيرها من سلوكيات سلبية خاطئة كتبادل حل الواجبات"[12].

عبر الكاتب عن صراع عميق في نفسه في مواقف كثيرة، بين قيم متضاربة، والانتصار كان دائمًا للقيم الإيجابية بما يتوافق مع رؤاه للعالم من حوله: "كانت رهبة الاختبارات عالية ورهبة مادة اللغة الإنجليزية مضاعفة لدي ولدى زملائي وأذكر أنني -حاولت– ولأول مرة أن أدخل برشامًا معي"[13]، انتهت تلك الحادثة بسقوط الأوراق (البراشيم) على الأرض ونجاحه دون استخدامها.

ويتضح الصراع أكثر حينما واجه صعوبات في التقدم لإكمال الدكتوراه، وكاد حين تملكه الإحباط أن يركن لبعض المكاتب التي تمنح الدكتوراه بسهولة لكنها غير مقنعة له وغير معترف بها، لكنه لا يلبث أن يعلن انتصار صوت الضمير الحي والإعراض عن تلك الأماكن، "فحسمت أمري تجاه أسماء عديدة من الجامعات التي تسوق لهذه الشهادات وهي غير معترف بها"[14].

وبالرغم من كل تلك الصراعات إلا أن الانتصار عنده دائمًا ما يكون للقيم الإيجابية، فالتفاؤل ديدنه في العديد من المواقف، ومنها القبول في الدكتوراه، "وبعد فترة من الشهر أعلنت الأسماء في صحيفة الرياض، وقد أعلنت تحت عنوان (المقبولون في درجة الدكتوراه) فكانت فألًا وبشرى"[15].

كما كان يثني في أكثر صفحات كتابه على جميع معلميه وزملائه في السلك التعليمي، وينظر إليهم نظرة إجلال فالمعلم في نظره شيء عظيم، والمواقف التي يسردها؛ ليؤكد أخلاقهم الفاضلة ومواقفهم كثيرة، "كان رجالات تعليم ينبع غاية في الوفاء والتقدير"[16]، وقد حظي المعلمون خصوصًا في تلك الأيام بمكانة وحصانة لا تضاهى من أفراد المجتمع كله.

لدرجة أن يصاب بصدمة لو خاب ظنه في أحدهم، يقول عن موقف صفع فيه من معلم ظلمًا مصورًا الأذى النفسي الذي أحس به جراء هذا الألم (كان الألم ممضًا والصفعة مدوية فهي لم تقع على خدي فحسب، وإنما على منظومة متكاملة من القيم والمفاهيم التي كانت ترى المعلم (إنسانًا كاملًا)[17].

وكلما زاد وعي الكاتب وتقدم في العمر، أدرك تناقضات الواقع واستحالة كمال البشر، وأن قيمة الفضيلة قد تتمزق إذا ما تعرضت لشراسة الواقع "وفي هذه المرحلة من الدراسة العليا تجلى لي بوضوح أن الأستاذ قد لا يدعم تلميذه"[18].

لكن روح الإصرار والعناد الإيجابي أيضًا تطفو على السطح بما يظهر وينسجم مع رؤاه التفاؤلية، وطريقته الخاصة في تحويل (الألم إلى أمل) يقول إزاء تعرضه للسخرية من زملائه بإيعاز من معلمه وهو ما يزال في صفه الأول "كان من الممكن لهذا الموقف أن يجعلني أحجم عن أي مبادرة مستقبلًا لكنه بإرادة الله كان حافزًا لأنال رضا أستاذي"[19].

ومن خلال هذا الحدث؛ وما سبقه يبدو لي انسجام الموقف العام للكاتب تجاه كل المشكلات التي طرحها عن علاقاته مع غيره مهما كانت صعوبتها وأثرها في نفسه ابتداء من الطفولة وحتى وصوله لشهادة الدكتوراه، فكثيرًا ما يردد (سامحه الله- عفا عنه- غفر له)، وهذا يعكس وعي صاحب السيرة بتعاليم الدين الإسلامي التي تدعو للعفو والتسامح، ودعا لها علماؤنا الأجلاء، ورغب فيها ديننا الحنيف، وزخرت بها مناهجنا.

وانتقالًا من سلطة المعلمين -وهي الأكثر التصاقًا بحياة المبدع العلمية- هناك سلطات أخرى احتلت مكانًا بارزًا في السيرة، سأذكر منها زيارة وزير التعليم محمد الرشيد -رحمه الله- لكلية المعلمين، ووصف الرفاعي لهذا المشهد المهيب الجميل "وعندما نزل من الحافلة كان العميد والوكلاء وأعضاء هيئة التدريس في استقباله وقد ارتدوا عباءاتهم (بشوتهم) في حين كان هو وصحبه لا يرتدون العباءات (البشوت) فما أن استقبلوه وأدخلوه المسرح حتى تخلوا عن عباءاتهم"[20] في إشارة منه إلى تواضع الوزير، وإعجابه بهذه القيمة.

ومع أن أكثر المواقف تؤكد أن ذات المؤلف ذاتًا إيجابية فيها عناد وإصرار على تحقيق الطموح، إلا أنه لم يرسمها كذات مثالية، ولم يخجل من تصوير ضعفها ويأسها، وأعمق ما يمثل تلك الذات هو إحجامه عن العمل في رسالة الدكتوراه زمنًا طويلًا حتى كاد يطوى قيده[21].


  • [4] الرفاعي، سعد بن سعيد، ط1، عام (2022م)، من الألف إلى الدال سيرة علمية، نادي الأحساء الأدبي، ص 22.
  • [5] السابق، ص11.
  • [6] ينظر: المصدر نفسه، ص26.
  • [7] نفسه، ص94.
  • [8] نفسه، ص39.
  • [9] نفسه، ص29.
  • [10] نفسه، ص100.
  • [11] المصدر السابق، ص12.
  • [12] نفسه، ص128.
  • [13] نفسه، ص38.
  • [14] نفسه، ص122.
  • [15] نفسه، ص93.
  • [16] السابق، ص97.
  • [17] نفسه، ص21.
  • [18] نفسه، ص107.
  • [19] نفسه، ص12.
  • [20] نفسه، ص82.
  • [21] ينظر السابق نفسه: ص149-150.

وسبق أن أشرت إلى أن كاتب السيرة مع ما يظهره من نظرة إيجابية للحياة وللناس من حوله؛ ومهما أبدى التسامح -وسبب ذلك (في نظري) أنه يرنو إلى أن يكون قدوة حسنة ومثالًا يحتذى من القراء- إلا أن سيرته مع ذلك لا تخلو من ذكر مواقف سلبية محبطة ومحزنة وصادمة أحيانًا، ومن الملاحظ أنه عند تذكر المواقف السلبية، يفسح المجال للذات للتعبير عن مشاعره تجاه هؤلاء الأشخاص، على سبيل المثال لا الحصر، حكى مرة أنه بعد أن نشر أحد كتبه قال له أحد أساتذته: (أنت الآن شايف نفسك علينا) لعله قالها مازحًا لكن الشعور الذي أحس به الكاتب -وهو أعرف بمن حوله- أن الأمر لم يكن إلا حسدًا: "ولئن مس الحسد قلوب إخوة نبي الله يوسف أفيكونون بمنأى عن ذلك"[22].

وعلى الرغم من أن شخصية الرفاعي تبدو متواضعة متسامحة، إلا أن هذا لا يتنافى مع نظرته لذاته نظرة تقدير واعتزاز، تظهر من خلال وصفه لنفسه بالقائد أو بالتحلي بصفات القائد منذ الصغر، وبدفاعه عن نفسه في بعض المواقف السلبية، ونلحظ في سرده لها أنه كان يخفي أسماء بعض أصحابها (مشرفه في الماجستير)، بينما يصرح بأسماء آخرين (كالمناقش الخارجي) للدكتوراه مثلًا، وفي ظني أنه كان يخفي أشدها ألمًا وأكثرها إيذاء لذاته التي يبجلها ويقدرها[23]، ويخلع عنه ثياب الحيادية والمثالية في مثل تلك المواقف.

عبر الرفاعي عن حبه، وتعلقه بمدينته ينبع، واشتياقه لها ولأهله وأصدقائه حين كان يسافر للدراسة، واستطاع أن يوجد من مشاعر الغربة والحنين، شيئًا إيجابيًا وهو نمو حس المسؤولية، والاعتماد على النفس (السفر الغربة عن أهلك ومدينتك الأصلية تنضجك على نار هادئة، وتقوي حس المسؤولية لديك وتقلل الاعتمادية)[24].

كما بينت السيرة ميل الكاتب للتأقلم مع واقعه أيًا كانت الظروف، فهو لم يكن ثائرًا، وإنما كان يبحث عما يحسن فرص التكيف مع الواقع، يقول: "كانت الدراسة فرصة للاحتكاك بالمجتمعين المكي والجدي أو الجداوي"[25].

ومن خلال تلك التنقلات أيضًا عبر عن الدهشة إزاء التطور الحضاري في مكة وجدة إبان دراسته للماجستير في جامعة أم القرى "لا أجافي الحقيقة إذا ما قلت إنها شكلت لي صدمة حضارية فقد خرجت من مدينة صغيرة تفتقر إلى مصادر الثقافة التي كانت محدودة جدًا وربما كان أكبر مصادرها المكتبة العامة في ينبع"[26].

ويتفق المفكرون في النظرة العامة لماهية التغير الاجتماعي، الذي يطرأ على البناء الاجتماعي في الوظائف والقيم والأدوار الاجتماعية خلال فترة محددة من الزمن، فقد يكون هذا التغير إيجابيًا أي تقدمًا وقد يكون سلبيًا أي تخلفًا[27].

والذي عبرت عنه السيرة هو التغير الإيجابي في توفر المكتبات والمراجع وخصوصًا في بعض المدن التي تردد على مكتباتها، وأشار أيضا إلى جانب آخر من جوانب تغير المجتمع أثناء دراسته للماجستير، وهو إفساح المجال للمرأة وتوسيع حضورها ومشاركاتها في المشهد الثقافي "كانت إحدى المفاجآت الاستماع لأطروحات نسائية متمثلة في الدكتورة لمياء باعشن"[28].

كما تزخر سيرته بالعديد من الأحداث التاريخية والوثائقية المتعلقة بتلك الأماكن التي زارها ووصف بعض معالمها وصفًا دقيقًا، وهو ما ينم عن إعجابه بالنهضة العمرانية التي حظيت بها بلادنا الغالية، كذلك لم تغفل توثيق بعض الأحداث الكبرى، فقد سجلت السيرة حدثًا تاريخيًا جللًا عاصره الكاتب وهو استشهاد الملك فيصل -رحمه الله-، وعلاقة هذه السلطة السياسية بالمجتمع "كان حدثًا جللًا هز السعوديين والعالم وكنا على صغر عمرنا نستشعره ونشاهده في الدموع التي ذرفتها عيون الكبار" إلى أن يقول: "كان ولم يزل يمثله شخص الملك من رمزية تستوجب التقدير والاحترام والتوقير فما بالك والشهيد هو الفيصل العظيم رحمه الله"[29].

صور هذا الجانب المشرق والعلاقة العميقة والصلة الوثيقة بين الشعب والملك، من جانب آخر ألمح إلى قضية شائكة لم تكن مقبولة في مجتمع -في الغالب- ليس لديه مرونة لتقبل الجديد، وقد عاصر الكاتب بدايات قضية الحداثة، وأبدى امتعاضه ممن رفضها جملة وتفصيلًا دون تعمق في إبداء وجهة نظره.
(كما طرحت اسم الشاعر محمد الثبيتي -رحمه الله- موضوعًا لدراستي المقترحة للدكتوراه، ولكن التحفظ عليه كان باديًا، وأكد الدكتور جابر أن بعض الأسماء مرفوضة من القسم أو الكلية -لا أذكر تحديدًا- لما لهم من توجهات يرونها حداثية ومصادمة للمجتمع)[30].

وتعبير الكاتب بقوله (يرونها) يؤكد ما ذكرته سابقًا أن له رأيًا مخالفًا لهم في رفض من يتحفظون على بعض أفكاره.

وتأكيدًا على سنة التغير والتطور (فحسب علمي) أنه قد سمح لاحقًا بتقديم رسائل ودراسات متخصصة عن شعر الحداثة وعن الثبيتي خصوصًا، فالأفكار تتغير والمواقف تتبدل، وهذا من طبيعة الحال.

ب- البنية الداخلية:

إن الاهتمام بالبنية الاجتماعية لا يعني أبدًا غض الطرف عن النص الإبداعي وإهماله، فتلاحم الجانبين هو لب المنهج التكويني وأساسه. وتسعى الدراسة في هذا المبحث إلى محاولة الكشف عن مكنونات النص، وعن الطريقة التي اختارها الكاتب لتدوين حياته، والسبب الذي جعله يختار هذا الشكل بالذات دون غيره.

إن أول ما لفتني هو العتبة الأولى من النص وهو العنوان:
(من الألف إلى الدال) سيرة علمية، وفيها انزياح ملحوظ عن العبارة المعروفة (من الألف إلى الياء) فالحرف الأول من حروف الهجاء هو حرف الألف، يعبر به عن البدايات والسيرة فعلًا توثق بدايات حياة المبدع العلمية قبل أن يلتحق بصفوف الدراسة، حين كان ينظر إلى طلاب المدرسة بإعجاب وهو متشوق لدخولها، لكن كسر أفق التوقع يكمن تحديدًا في الجزء الثاني من العنوان، فالنهاية بالدال أي بحصوله على درجة الدكتوراه، وهذا ما وضحه وشرحه في بداية السيرة حين أفصح لقرائه بأنه سيقتصر على الجانب العلمي من حياته فقط، وأنه سيتوقف في سردها إلى (الدال) أي عند حصوله على درجة الدكتوراه.

وفي تصوري أن لجوء الكاتب إلى هذه الحيلة هو ضرب من ضروب التشويق يمارسه على القارئ الشغوف الذي سيبقى في حالة ترقب وحماسة لاكتمال السيرة، إضافة إلى ما ذكره هو في سياق حديثه عن دوافع كتابته لسيرته العلمية من أن حياته العامة فيها من الخصوصيات أو المواقف التي لا يصلح أن تعلن لارتباطها بحياة آخرين، أما سيرته العلمية فهو يرى أنها ستكون مثالًا يحتذى خصوصًا لجيل الشباب.
يسجل الكاتب في مستهل صفحات كتابه إهداء لوالديه ولكل طموح يبحث عن حياة أفضل ويصف سيرته بأنها (انعتاق من الألم إلى الأمل)[31]، فحياته العلمية -بحسب وصفه- كانت بين منعطفين يتجرع الألم مرارًا ليصل بعد الصبر والعزيمة والتفاؤل لتحقيق طموحه.

وهو حين يصور معاناته وآلامه بصدق وبأسلوب سردي مميز، فإنه حينئذ إنما يتحسس الآم كثيرين مروا بتجارب قريبة من تجربته، وكأنه يمثلهم ويحس بما يشعرون به، وهو بذلك يُسهم في تشكيل وعي جديد، ويؤثر في الواقع من خلال إمكاناته الفنية، وفي تحفيز قارئه على البذل والطموح مع التحلي بالصبر والتفاؤل.

عمد الرفاعي في سيرته إلى استخدام أسلوب سردي واضح؛ لا يستغلق على أفهام العامة، وهذا ما يصبو إليه؛ فسيرته ليست حكرًا على المتخصصين، وإنما جمهورها الأول هم عامة الناس خصوصًا من هم في مقتبل العمر وفي بدايات السلم التعليمي، أو العمل الوظيفي.

ولكي يكون قريبًا من هؤلاء القراء اختار ضمير المتكلم في سرده لأحداث حياته يقول: "أردت من الحديث بصيغة المتكلم الحديث عن ذات حاضرة فاعلة منجزة لا ذات متضخمة مدعية"[32].

وقد يكون محقًا فضمير المتكلم هو أقرب الضمائر -في تقديري- للبوح؛ فاختاره ليروي أحداثًا حقيقية من حياته، وليقدم صورة شديدة الصدق الوضوح، أما ضمير الغائب فيضع حاجزًا بين الكاتب والقارئ، وأما ضمير الجمع فيحمل في طياته شيئًا من التفخيم والتعظيم وهو ما لم يسع إليه الكاتب.

ولعل هذا يقودنا إلى شيء آخر وهو سمة بارزة في أسلوب الكاتب فهو كثير التبرير والتعليل في أكثر المواقف التي يسردها -وعلى سبيل المثال لا الحصر- يقول: "كانت المدرسة صغيرة وكنت الابن الأثير لها، ولعل ذلك عائد لكون المدرسة مكونة من صفوف دراسية تبدأ من الصف الأول حتى الصف الرابع، وكان طلاب الصف الرابع المتميزون يحظون بالمكانة العالية لكونهم في الصف الأعلى"[33].

ويقول عن بيتين أعدهما قبل مقابلته الشخصية لدراسة الماجستير: "لا أخفي أنني إنما أعددت البيتين لعدد من الأسباب: أولها إحاطتهم بعنصر قوي لدي وهي حسن توقع الإجابة أو سرعة البديهة إن ظنوه ارتجالًا، والثاني البيان عن ملكة وهبها الله لي لتكون عنصر قوة في نقاط المفاضلة"[34].

ويعزو الدكتور عبد الله الحيدري هذه السمة لكون المؤلف يعمل في مجال التربية والتعليم والتدريس لذلك فإنه لا ينفك عن التعليل أو التحليل لأكثر المواقف، وقد تكون شخصيته الطيبة التي تتطلع للمثالية والتسامح الذي أوصانا به ديننا الحنيف هي ما تجره للبحث عن أعذار لمن لا يعجبه تصرفه، يقول وهو يحكي موقفًا لأحد أساتذة الجامعة ينثر أوراق الأسئلة ثم يتدافع الطلاب ليلتقطوها من تحت أقدامه يقول: "لعله أراد اختبار جدية الطلاب في الإقبال على العلم!"[35].


  • [22] المصدر السابق، ص107.
  • [23] نفسه، ينظر: ص116-169.
  • [24] نفسه، ص53.
  • [25] نفسه، ص106.
  • [26] نفسه، ص104.
  • [27] ينظر: الدقس محمد، (1987م) التغير الاجتماعي بين النظرية والتطبيق، دار المجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ص19.
  • [28] المصدر السابق، ص104.
  • [29] نفسه، ص14.
  • [30] نفسه، ص140.
  • [31] السابق، ص5.
  • [32] نفسه، ص176.
  • [33] نفسه، ص15.
  • [34] المصدر السابق، ص 47.
  • [35] نفسه، ص99.



لم يكن الرفاعي ينقل من مراجع، بل كان يعتمد على ذاكرته ويعيد النظر والتأمل في سنين طويلة مضت من مشواره، لذلك جمع بين ثنائيتي التذكر والنسيان في أكثر المواقف. وكثيرًا ما يكرر (نسيت، لا أنسى، أذكر، لا أتذكر، لا أتذكر تحديدًا، من المواقف التي لا تنسى، ما زالت عالقة في الذاكرة...) وهو ما اعترف به في مقدمة كتابه[36]، والأمر يرجع في نظري إلى مدى خصوصية بعض المواقف أو الأحداث وتأثيرها في حياته؛ فلا ينساها مهما طال الزمن، في حين تهمش ذاكرته أحداثًا وأشخاصًا أقل قربًا وتأثيرًا.

ولكونه شاعرًا فقد تسلل الشعر إلى سرده سواء أكان يستشهد بشعر غيره، كما استشهد بشعر المتنبي حين تذكر أول كتاب يقرؤه في المدرسة ص17، أو ببعض الكسرات[37] (وهي نوع من الشعر الشعبي معروف في منطقته)، أو شعره هو في بعض المحافل واللقاءات، أو عن المدن التي سكنها وتعلق بها، يقول عن المدينة المنورة:

مدينة النور عفوا إن قافيتي... لم تسعف اليوم جفت أحرفي بفمي
عباءة النثر تكسو صوت قافيتي... وأعذب الشعر يبقى جاريا بدمي[38]

كان سعد الرفاعي يصف الأماكن تحديدًا وصفًا تفصيليًا دقيقًا، وقد يكون لتنقله وغربته عن ينبع سببًا في تعلقه بالمدن الجديدة التي زارها ودرس فيها: المدينة، ومكة، وجدة، أو اشتياقه لمدينته الأم، سببًا لذلك.

يقول حين كان يبحث عن مسكن في المدينة المنورة حين أراد أن يدرس في الكلية المتوسطة: (أثناء بحثنا عن شقة سكنية قابلنا الأستاذ دخيل الله أبو العسل، وكان قد أمضى عامًا كاملًا في الكلية؛ فأخبرنا بوجود شقة في العمارة التي يقطنها في حي عروة، وهو من الأحياء الغربية القريبة من الطريق المؤدي إلى آبار علي حيث مقر الكلية المتوسطة...)[39].

ويمتاز كاتب السيرة بوصفه الدقيق للأماكن سعيًا منه إلى إيصال الشعور المصاحب لذكرى تأثيث المكان البسيط ليقدم قيمة عكسية، وهي اتساع الصدور رغم صغر المكان مثال: "نقلنا جميعًا -طلاب الصف الأول والثاني- من المبنى الحكومي للمدرسة إلى ملحق مدرسة طارق، وكان منزلًا شعبيًا قريبًا من المدرسة يقع في شارع خليج رضوى، وهو من الشوارع القديمة في ينبع"[40].

ولعل انتماءه إلى السلك التعليمي هو سبب آخر لاهتمامه بتفصيلات وصف المكان، ونقد بعضها.

ويعمد المؤلف لأسلوب التلخيص لمراحل دراسية عديدة من حياته، مثلًا بعد سرده لأحداث دراسته في المرحلة الابتدائية يقول: "والآن دعوني أتحدث قليلًا عن أجواء الدراسة تلكم الأيام"[41]، ويصف الجو العام لتلك الفترة، وبعد المرحلة المتوسطة: قبل أن أغادر المرحلة المتوسطة أود التوقف للحديث عن الجو العام للطلاب في تلك الفترة، فالمرحلة المتوسطة كانت تتسم بالمرح...)[42]، بعد الثانوية: "لعلي أستعيد بعض المواقف التي ما زالت عالقة في الذاكرة من دراستي لهذه المرحلة"[43].

ولعل سبب هذا ما أشرت إليه سابقًا من أن الكاتب لا يعتمد على مراجع مكتوبة وإنما يكتب من ذاكرته فبعد أن ينتهي من سرد الأحداث بتسلسل يعود من جديد ويتذكر ويستطرد، فيعيد الصياغة من جديد.

إن وحدة هذا العمل الأدبي كانت ظاهرة من خلال تماسكه وتسلسله وتدرجه في توثيق مراحل الدراسة وفق عناوين فرعية كانت كالآتي: (البداية، المرحلة المتوسطة، الثانوية، ما بعد الثانوية، نحو الشهادة الجامعية، الطريق إلى المدينة نحو الدراسات العليا، في رحاب أم القرى، مشروع الرسالة، في الطريق إلى الدكتوراه، نحو الدكتوراه، الدخول في معترك الدكتوراه، في معترك الخطة الشروع في الرسالة، على منصة النقاش).

ولعل ما يفسر شخصية هذا المبدع التي يبدو أنها تميل إلى الترتيب والشرح والتبسيط، لا سيما وقد عمل سنوات عديدة في مجال التدريس والإدارة الذي يعتز به كثيرًا، لكنه يتوقف عن هذا في الجزء المتعلق بالمراحل الجامعية والعليا؛ وكأن هذا يتناسب مع التطور المعرفي الذي يتوافق مع هذه المرحلة العمرية، بل يعمد إلى العكس في الجزء المتعلق بمناقشة الدكتوراه، فيجمل ما جاء فيها ثم يعود ليفصل، ويضع أمام القارئ نبذة البحث كاملة، ولعل هذا التنويع في الأساليب يذهب عن القارئ الملل، ويذكرنا بحياة المؤلف وتنقلاته بين عدة مدن طلبًا للعلم والمعرفة.

ومن أبرز ملامح كتابة هذه السيرة أيضًا أسلوب المناجاة والحوار الداخلي، يقول: "خرجت من مكتبه وأفكاري تتعارك صوت يقول: ها أنت ستكمل مشوارك العلمي وتحصل على الدكتوراه، وصوت آخر يصرخ رافضًا الفكرة إذ كيف تقبل أن تنادى لاحقًا باسم دكتور سعد، وأنت توقن أنها شهادة مزيفة أو مشكوك في أمرها أو غير معترف بها رسميًا وفق أحسن الظنون، صوت يقول: أنت لم تسء لأحد ولا تطلب عملًا أو وظيفة بهذه الشهادة...)[44].

تتصارع قيم الخير والشر في هذا الحوار، وينقسم صوت الراوي إلى صوتين لكل منهما رؤيته الخاصة، وهي رؤى متناقضة، وغير متطابقة، ويستثمر الكاتب هذه التقنية (الحوار الداخلي)؛ ليبوح بحرية تامة عن وعيه، وخبايا نفسه، وما تنطوي عليه من أحاسيس وعواطف، تتأرجح بين الخير والشر لتنتصر الفضيلة في النهاية، ويحجم الكاتب عن طلب ذلك النوع من الشهادات، حمله على ذلك فطرته السليمة التي نشأت وتربت على الجد والاجتهاد لا الاتكال والتفريط في تحقيق المساعي.

الخاتمة

كشفت الدراسة عن العلاقة بين العمل الإبداعي والحياة الاجتماعية التي عاشها المؤلف، ومدى تأثر كل منهما بالآخر، وأسفرت عن نتائج عديدة، منها:

  • أن سيرة سعد الرفاعي كانت في اتصال عميق مع الواقع الاجتماعي ولم تنفصل عنه، وقد سجلت ملامح التطور والتحول الذي حل بالمجتمع في أشكال تعبيرية متفاوتة، وأظهرته مجتمعًا مترابطًا، ولم ُتظهر السيرة طبقية أو استعلاء في الغالب، وتمكنت من التقاط بنيات دالة بالوعي الكائن بتفاصيله، وكشفت عن شخصية محافظة لم تتزلزل قيمها ومبادئها أمام جميع الضغوطات: كاليتم، والفقر، ومصاعب الدراسة، والغربة.
  • عبر الكاتب من خلال سيرته أيضًا عن هموم طلاب العلم، وطلاب الدراسات العليا بالخصوص، وأبرز العقبات التي تواجههم، فهو كما أسلفت لا يمثل نفسه فحسب وإنما يعبر عن أقرانه، ونظرائه.
  • كشفت الدراسة أيضًا عن أن الاتصال بالآخر كانت له مظاهر إيجابية تمثلت في تبادل الخبرات والثقافات، وتكوين علاقات، وروابط صداقة، وأخوة.
  • من البنيات الدالة على الوعي بنية التفاؤل وقد طغت على جميع أجزاء السيرة.
  • تمظهرت بنية الغياب في مظاهر مختلفة كغياب الأب، وغياب الأم، وغياب الأخت، والغياب عن الزوجة والأبناء والأصدقاء، وغياب تطبيق العدل أحيانًا.
  • المرأة لم تكن مهمشة، بل تبوأت موقعًا مهمًا عائليًا وثقافيًا.
  • لم أجد في السيرة روح ثورة أو رفض للواقع أو إنكاره مثلًا، والسبب أنه -وإن عانى من بعض المصاعب- إلا أنه قد عاش حياة آمنة مطمئنة (بلدة طيبة ورب غفور)، وانعكست هذه الحياة المجتمعية الآمنة على نظرته لنفسه، وللعالم من حوله نظرة رضا وقبول.
  • رغم طغيان القيم الإيجابية إلا أن في السيرة قيمًا سلبية كالغش والحسد والظلم، لكن المؤلف، وإن حاول نقلها إلى حيز إيجابي حين صنع من تلك العقبات سلمًا لنجاحه بالصمود والإصرار، وأظهر أنه تجاوزها وعفا عن أصحابها (في الظاهر) إلا أن أثرها السلبي ما زال عالقًا في نفسه وآلامها لم تفارقه.
  • جرد المؤلف من ذاته ذاتًا أخرى يحاورها حوارًا داخليًا، ويحاسبها، ويبرر أخطاءها وينظر إليها نظرة تبجيل واعتزاز.
أبرز التوصيات

يُعدّ الأدب السعودي مجالًا رحبًا للدراسة، وصالحًا لتطبيق المناهج الحديثة في تحليله، وفي سيرة سعد الرفاعي ما يجعلها صالحة لأن تدرس دراسة سيمائية.


  • [36] نفسه، ص8.
  • [37] نفسه، ص173.
  • [38] نفسه، ص81.
  • [39] نفسه، ص47.
  • [40] المصدر: ص13.
  • [41] نفسه: ص22.
  • [42] نفسه، ص31.
  • [43] نفسه، ص53.
  • [44] السابق، ص122.
  • المصادر والمراجع
  • - اسعيدي عادل، وبختي عبد القادر، السنة (2109م)، مرتكزات بنيوية غولدمان التكوينية، مجلة آفاق علمية، المجلد 11، ع 4.
  • - الدقس، محمد، (1987م)، التغير الاجتماعي بين النظرية والتطبيق، دار المجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان.
  • - العنبر، عمر عبد الله، تاريخ النشر (2019م)، المنهج البنيوي التكويني (مفاهيمه وأدواته وإشكالياته)، مجلة جرش للبحوث والدراسات المجلد 20، ع 2.
  • - دارة الملك عبد العزيز، عام (1435هـ)، قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، الرياض، ج1 (أ-ر).