نزار عبدالحميد
المقدمة
شهدت الفترة ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين ثورات وتطورات علمية وإنسانيَّة، تمثَّلت أساسًا في الثَّورة الصِّناعية التي كان لها أثر كبير في إحداث خلخلة في البنية الاجتماعية، أفضت إلى تغيرات عديدة في الخريطة العمرانيَّة، وظهور طبقة البرجوازية، التي جعلت الفردَ الحقيقةَ الأساس في العلاقات الإنسانيَّة؛ إذ أضحى معيار الوجود.
وصاحبَ هذه الثَّورة تطورًا كبيرًا على الصَّعيد التِّقني والعلمي، تلخَّص في ظهور عنصر الآلة، التي كانت أداة بناء، كما كانت أداة تدمير وهدم، بما أفرزته من حروب مثلت كسرًا لسلَّم القيم الإنسانيَّة.
وكان لهذا التغيير الأثر البالغ في الفرد؛ إذ انهارت أحلامه في أن يحقّق العقل الإنساني السَّعادة للبشريَّة، حيث انتاب الفرد القلق والاغتراب، وهذه التَّطورات لم تبقَ بعيدًا عن المجال الأدبيّ، ولا سيما الرِّواية؛ ففي ظل هذه المتغيّرات باتت الذَّات المبدعة تحسُّ غموضًا يعتري حركة الواقع.
وفي ظلِّ هذه المعطيات أضحت الضَّرورة ملحّة لخلق فعل إبداعي جديد يستجيب لمعطيات الحياة الجديدة في السَّاحة الأدبيّة، فأضحت مجموعة المتغيرات -تلك- حافزًا للتَّمرُّد على القواعد الرِّوائيَّة المألوفة؛ إذ بدأت من خطوة لابدَّ أن تخطوها الرِّواية، وهي الانتقال من الرِّواية الاجتماعيّة التي تعتني بالوصف السُّلوكي الظَّاهري إلى الرِّواية النَّفسية، التي تهتم بالتَّجربة الشَّخصيّة للفرد، وهذا ما دعا إلى ظهور تيَّار الوعي، الذي يهتمُّ بالجوانب النفسية والذهنية للفرد.
وقد عملت الآداب جميعها في هذا المضمار، وجاء تيَّار الوعي ليبرز في ميدان الرِّواية الحديثة شكلًا جديدًا ليعبِّرَ عن هذه الأزمة التي تعيشها الإنسانيَّة في شرنقتها، جاء ليطلق العنان لتدفّق الأفكار والانسياب العاطفي والوجداني عن منابع الكبت في النَّفس البَّشرية، وفي كشف الجانب الخفي للشَّخصيَّة.
ومع تجاذب الفنون للأزمات التي تكون مواجهة للموضوعات المجتمعية بصنوفها كافة، لا سيما السياسية منها.
جاءت الرِّواية التياريَّة كعلامة فارقة، ويُعدُّ تيَّار الوعي منحى إبداعيًّا بالغ الأهمية، حيث يوغل نحو معطيات اللاوعي في تدفقها من مشاعرَ وأفكارٍ ورؤى وكأنَّها محاولة لرؤية النَّفس من الدَّاخل. فأوّل من استخدم مصطلح "تيَّار الوعي" هو عالم النَّفس (وليم جويس)، لكنّه أخذ طريقه في الأدب منذ منتصف العقد الثَّاني في القرن العشرين. فقد ركَّزت روايات التَّيَّار على العالم الدَّاخلي لأبطالها أي أنَّ روايات تيَّار الوعي، تحاول رسم انفعالات الإنسان من الدَّاخل لكنَّه في نهاية المطاف، هو استنطاق للعالم الدَّاخليّ لبطلٍ مفترضٍ أي أن الكاتب يسبر رؤى أبطاله، ويقدّمها بوصفها فيضَ مشاعرهم وأفكارهم ورؤاهم.
وأهم التقنيات المستخدمة في رواية التَّيار: التَّداعي الحر –المونولوجات– والمناجاة –واللُّغة الشَّاعريّة– والتَّنقُّل بين الأزمنة والأمكنة؛ ممّا يدفع في كثير من الأحيان للغموض والتَّشتُّت على الرّغم من أن كتَّاب تيَّار الوعي يحاولون الحفاظ نسبيًّا على الزَّمان والمكان، والاستفادة من الفنون السِّينمائيّة حيث قال بعض النُّقاد إنّ هذا الفنَّ تبقى عليه خطوة واحدة لبلوغ الفن السّينمائي. حيث كانت (فرجينيا وولف) أحد أشهر الأسماء في روايات التَّيَّار فقد كانت تطمح للوصول إلى طريقة أكثر شخصانية وأكثر دقّة في التَّعامل مع الواقع روائيًّا. ولم تكن بؤرة اهتمامها أنَّ "الشَّيء" موضوع الرَّصد، ولكن الطَّريقة التي يرصد بها "الشَّيء" من "الرَّاصد". وقالت في هذا الأمر "دعونا نرصد الذَّرات أثناء سقوطها فوق العقل بنفس ترتيب سقوطها، دعونا نتتبّع التَّشكيل مهما كان مفكَّكًا وغير مترابط التَّكوين، سنجد أنَّ كلَّ مشهد وكلّ حدث سوف يصيب رمية في منطقة الوعي"[1].
وأدت التَّرجمة دورًا مهمًّا وكبيرًا، في تعرُّف الرِّوائيين العرب على الكثير من الأساليب الجديدة في سرد الرِّواية، وبدأ هؤلاء الرِّوائيّون يستخدمون هذه الأساليب الجديدة بدلًا من الأساليب التَّقليديّة، ويأتي في مقدّمة هذه الأساليب، (تيَّار الوعي)، الذي استخدمه الرِّوائيون الغربيون، وقد ظهر استخدام الرِّوائيين العرب لهذا التّكنيك في ستينيّات القرن الماضي، وكانت محاولة منهم للهروب من التّكنيكات التَّقليدية، في السَّرد والحبكة، وبدأ هذا التَّقليد على استحياء عند كتَّاب السِّتينيّات؛ لأنَّهم لم يكونوا قد قرأوا عنه باستفاضة، ووعوه وهضموه هضمًا جيّدًا، وكانوا أكثر توفيقًا ونجاحًا في استخدام هذه التّكنيكات، ولقد وجد هؤلاء الرِّوائيون، أنَّ الأساليب الرِّوائية التَّقليدية القديمة أصبحت عاجزة ولم تعد قادرة على التَّعبير عمَّا بداخل الإنسان المعاصر، فبدأت تختفي الأساليب التَّقليديّة تدريجيًّا، وبدأنا نجد روايات تقلّل من أهميّة الحبكة والتَّسلسل المنطقيّ للأحداث، وظهر هذا في رواياتهم.
لقد أولى أصحاب التَّيَّار الواقعي من الرِّوائيين جلَّ اهتمامهم بتطوير أعمالهم الرِّوائيَّة، بما يتناسب مع التَّغيرات التي تطرأ على مجتمعاتهم، وتطوير هذه الأعمال بوسائل متنوّعة، كان أبرزها وفي مقدّمتها الاتّجاه إلى النَّفس الإنسانيَّة، لتحليلها والكشف عن أسرار عالمها الخاص، متوخّين في ذلك الصِّدق في تصوير بيئاتهم، كما أبانوا عن أنَّ هناك تأثيرًا متبادلًا بين شخصيّاتهم في الرِّواية، والبيئات التي يحيون فيها، وأن هناك تغيّرًا في الشَّخصيات والبيئة بفعل التَّأثير الزَّمني؛ لذلك نجد بعض الرِّوائيين يركِّزُ على التَّحليل النَّفسيّ، في محاولة منه لاستبطان الواقع ليكشف عن حقيقته، واعتمد هؤلاء الرِّوائيون على التَّنظيم الدَّاخلي لسرد الأحداث، وذلك بإجراء عملية مونتاج على هذا الواقع، من حذف، وتقديم، وتأخير، وربط الأحداث والشَّخصيات، فجاءت أعمالهم الرِّوائية مقنعة. فالرِّواية الواقعية كما يرى نجيب محفوظ (تأخذ تنظيمها من واقع الحياة)[2].
والرواية الواقعيّة بحسب رؤية محفوظ، هي التي تتناول المجتمع بعاداته وتقاليده، وتُحلل الحالة النَّفسيّة لسكَّانه، أي تقوم على المراقبة والوصف، اللذين يشكِّلان بُعدين رئيسين في مفهوم الرِّواية.
إنَّ تيَّار الوعي يمثِّل الثورة الحقيقية في تاريخ التَّطوّر الرِّوائيّ عامّة، والاتّجاه الواقعيّ خاصّة، فهو -أي تيَّار الوعي- من نتائج الرِّواية الواقعيّة التي تولي اهتمامًا خاصًّا بالتَّحليل النَّفسيّ للأشخاص والمواقف من خلال الكشف عمَّا يعتمل النَّفس الإنسانيّة، وتصوير لواعجها الذَّاتيّة والجمعية (فالوقوف على حقائق الظَّواهر الإنسانية والنَّفسية هو أساس التَّحكم فيها)[3]. لقد أصبح تيَّار الوعي أسلوبًا له خصوصيته، التي تميّزه عن الأساليب السَّابقة فهو يُعنى بالتَّحليل النَّفسي للشَّخصيات والمواقف من خلال الوقوف على حقائق النَّفس الإنسانيّة، وتصوير أعماقها داخليًّا.
وتعدَّدت مسمَّيات تيَّار الوعي، وحاول كلُّ باحث وكلُّ ناقد، أن يجد مسمى من كلِّ ناحية معيّنة، وهذا يدلُّ على زئبقية التَّعريف وقدرته على المراوغة، وأيضًا يدلُّ على الجهد الذي بُذِلَ من الأدباء والنُّقاد، ما جعلهم لا يتّفقون على تعريف محدَّد أو كما يقول المناطقة تعريفًا جامعًا مانعًا، فتعدَّدت التَّعريفات، وذلك نتيجة لفهم كلِّ ناقد وأديب لمفهومه من ناحية، ووظيفته في العمل الرِّوائي من ناحية أخرى، فوجدنا من يطلق عليه الاستنساخ، ومنهم من يطلق عليه الشُّعور، ومنهم من يطلق عليه المحاكاة، ومنهم من أطلق عليه تداعي الفكر، ومنهم من أطلق عليه الوعي الدَّاخلي، وإذا كان تيَّار الوعي عدّة تقنيَّات فإنَّ البعض قد تناول تقنية من تقنياته على أساس أنّه هو، فيرى بعض النُّقاد أنّ تيّار الوعي (المونولوج المباشر أو غير المباشر). وقد ظهرت أعمال روائيَّة عدّة استطاعت حمل لواء هذا التجاذب من خلال طرح عدّة قضايا كانت الرِّواية السِّياسيَّة أحد أبرز موضوعاتها، وبأسماء عديدة استوعبت كبار كتَّاب الرِّواية العالميّة.
- التَّداعي الحر:
- مفهوم التداعي الحر: تُعدّ تقنية التَّداعي الحر التقنية الرئيسة في تنظيم حركة القصص عند علماء النَّفس، وهي عنصر أساسي تنطوي عليه الرِّواية التَّياريّة بشكل بارز، كما تُعدّ محرِّكًا لتلك التقنيات.
ويعود فضل ابتداعها إلى فرويد، وقد جاءت هذه الطَّريقة بديلًا عن التَّنويم المغناطيسي كطريقة للدفع بالمرضى إلى تذكّر الحوادث والتَّجارب الشَّخصية الماضية التي سبقت مرضهم. فهي تقنيَّة رئيسة في العلاج التَّحليلي، حيث تُشجع العملاء على التَّحدّث بكلِّ شيء يخطر على بالك، بمعنى آخر إخراج المشاعر أو الأفكار، دون مراقبة أو تمحيص، حيث يفتح الأبواب اللَّاشعورية، حيث كان المعالج يطلب من مرضاه أن يطلقوا العنان لأفكارهم تسترسل من تلقاء نفسها، دون قيد أو شرط، وطلب منهم أن يفوهوا بكل ما يخطر ببالهم أثناء ذلك من أفكار وذكريات ومشاعر، دون إخفاء أيّ شيء عنه مهما كان تافهًا أو معيبًا أو مؤلمًا[4].
فالتَّداعي الحرُّ هو: حركة الأفكار داخل الذِّهن بشكل دائم مستمر، وبشكل عشوائي غير منتظم، بحيث تتقاطع الأفكار والخواطر، وتتداخل لعلاقات التَّرابط الطَّردي والعكسي الإيحائي، فالفكرة تستجلب فكرة أخرى تتفق معها، أو تناقضها، أو توحي بها، وهو حر لأنَّ التَّداعي يتمُّ بشكل تلقائي بعيدًا عن أيّ قيد، بحيث يصعب توجيهها أو إيقافها[5].
التَّداعي الحرُّ في رواية "كوابيس بيروت"
اعتنت غادة السَّمَّان في رواية "كوابيس بيروت" بمظهر مهم من مظاهر تيَّار الوعي، وهو التَّداعي الحر، ومن أكثر الوسائل التي استخدمتها السَّمَّان في هذه الرِّواية، حيث يعتمد على السّقوط المتسلسل لأفكار الذَّاكرة، "التي هي أساسه، والحواس التي تقوده، والخيال الذي يحدد طواعيته، بمعنى أنَّ الذَّاكرة تختزن أحداثًا ما، وفي الفنِّ الرِّوائيّ لا بدَّ أن تكون كثيرة، وعندما تتعامل الحواس مع العالم الخارجي، يحدث إسقاط ما في الذَّاكرة، وتقاطعها مع ما هو مثير[6].
لقد توسَّعت الرِّوائيَّة في استخدام أسلوب التَّداعي في الرِّواية، فعالم بيروت المشبع بالدَّمار، الذي يشارف على الانهيار؛ وقد انهار فعلًا، فبينما تقوم بتدوين دقيق للأحداث والممارسات اليومية بكل جزئياتها، نجدها تروي لنا كوابيسها التي تراها يقظةً ومنامًا.
فهي منذ البدايات شرعت بتكثيف تقنيَّة التَّداعي بصورة لافتة، وتكاد تنسحب في أرجاء الرِّواية كافة، حيث صوَّرت لحظة بزوغ خيوط الفجر الأولى وقد قضت ليلة مروِّعة، والصَّواريخ والمتفجّرات تتجوّل راكضة حول بيتها كما لو أنَّها كانت في فيلم حربي، وقرّرت بعد ذلك هي وجيرانها أن تجلي مَنْ لا يطيق مع هذا الواقع المأزوم صبرًا. فمن خلال تداعي الأفكار وتسلسلها الذي قد يكون لا منطقيًّا حينًا ويتّسم بالتَّسرّع حينًا آخر فهي سارت بسياراتها كالمنوَّمة مغناطيسيًّا، وهي بذلك تمثّل هذه التقنية خير تمثيل راجيةً من سياراتها ألا تعتصم هي الأخرى بوسط الطَّريق رافضةً العمل احتجاجًا على الواقع البغيض في بيروت، وكأنَّها تدلل من خلال تداعيها على الجو المشحون الذي تسلل لكلِّ شيءٍ حتى السَّيارة فتقول: "حين طلع ضوء الفجر، كان كلُّ منِّا يتأمَّل الآخر بدهشة: كيف بقينا أحياء؟ كيف نجونا من تلك اللَّيلة... قد قضينا ليلةً كانت القذائف والمتفجّرات والصَّواريخ تركض فيها حول بيتنا كأنَّ عوامل الطَّبيعة قد أصيب بالجنون... وكانت الانفجارات كثيفة كما في فيلم حربي سيئ لكثرة مبالغاته...
- [1] فرجينيا وولف، جيوب مثقلة بالحجارة، ترجمة فاطمة ناعوت، المشروع القومي للترجمة، القاهرة 2004، عدد 761، ص 21، ط1.
- [2] نجيب محفوظ– الرّواية الواقعيّة– مجلّة النّهار العربيّة– عدد 99 تاريخ 11/05/1988 م.
- [3] محمد غنيمي هلال- النّقد الأدبيّ الحديث- دار الثّقافة- دار العودة بيروت- 1973- ص524.
- [4] روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ص48.
- [5] منيرة بنت سليمان، تيار الوعي في روايات رجاء عالم، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في الدراسات الأدبية، جامعة القصيم، 1432ه/2011م، ص 191.
- [6] روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ص65.