التداعي الحر: رواية كوابيس بيروت لغادة السمان

نزار عبدالحميد

المقدمة

شهدت الفترة ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين ثورات وتطورات علمية وإنسانيَّة، تمثَّلت أساسًا في الثَّورة الصِّناعية التي كان لها أثر كبير في إحداث خلخلة في البنية الاجتماعية، أفضت إلى تغيرات عديدة في الخريطة العمرانيَّة، وظهور طبقة البرجوازية، التي جعلت الفردَ الحقيقةَ الأساس في العلاقات الإنسانيَّة؛ إذ أضحى معيار الوجود.

وصاحبَ هذه الثَّورة تطورًا كبيرًا على الصَّعيد التِّقني والعلمي، تلخَّص في ظهور عنصر الآلة، التي كانت أداة بناء، كما كانت أداة تدمير وهدم، بما أفرزته من حروب مثلت كسرًا لسلَّم القيم الإنسانيَّة.

وكان لهذا التغيير الأثر البالغ في الفرد؛ إذ انهارت أحلامه في أن يحقّق العقل الإنساني السَّعادة للبشريَّة، حيث انتاب الفرد القلق والاغتراب، وهذه التَّطورات لم تبقَ بعيدًا عن المجال الأدبيّ، ولا سيما الرِّواية؛ ففي ظل هذه المتغيّرات باتت الذَّات المبدعة تحسُّ غموضًا يعتري حركة الواقع.

وفي ظلِّ هذه المعطيات أضحت الضَّرورة ملحّة لخلق فعل إبداعي جديد يستجيب لمعطيات الحياة الجديدة في السَّاحة الأدبيّة، فأضحت مجموعة المتغيرات -تلك- حافزًا للتَّمرُّد على القواعد الرِّوائيَّة المألوفة؛ إذ بدأت من خطوة لابدَّ أن تخطوها الرِّواية، وهي الانتقال من الرِّواية الاجتماعيّة التي تعتني بالوصف السُّلوكي الظَّاهري إلى الرِّواية النَّفسية، التي تهتم بالتَّجربة الشَّخصيّة للفرد، وهذا ما دعا إلى ظهور تيَّار الوعي، الذي يهتمُّ بالجوانب النفسية والذهنية للفرد.

وقد عملت الآداب جميعها في هذا المضمار، وجاء تيَّار الوعي ليبرز في ميدان الرِّواية الحديثة شكلًا جديدًا ليعبِّرَ عن هذه الأزمة التي تعيشها الإنسانيَّة في شرنقتها، جاء ليطلق العنان لتدفّق الأفكار والانسياب العاطفي والوجداني عن منابع الكبت في النَّفس البَّشرية، وفي كشف الجانب الخفي للشَّخصيَّة.

ومع تجاذب الفنون للأزمات التي تكون مواجهة للموضوعات المجتمعية بصنوفها كافة، لا سيما السياسية منها.

جاءت الرِّواية التياريَّة كعلامة فارقة، ويُعدُّ تيَّار الوعي منحى إبداعيًّا بالغ الأهمية، حيث يوغل نحو معطيات اللاوعي في تدفقها من مشاعرَ وأفكارٍ ورؤى وكأنَّها محاولة لرؤية النَّفس من الدَّاخل. فأوّل من استخدم مصطلح "تيَّار الوعي" هو عالم النَّفس (وليم جويس)، لكنّه أخذ طريقه في الأدب منذ منتصف العقد الثَّاني في القرن العشرين. فقد ركَّزت روايات التَّيَّار على العالم الدَّاخلي لأبطالها أي أنَّ روايات تيَّار الوعي، تحاول رسم انفعالات الإنسان من الدَّاخل لكنَّه في نهاية المطاف، هو استنطاق للعالم الدَّاخليّ لبطلٍ مفترضٍ أي أن الكاتب يسبر رؤى أبطاله، ويقدّمها بوصفها فيضَ مشاعرهم وأفكارهم ورؤاهم.

وأهم التقنيات المستخدمة في رواية التَّيار: التَّداعي الحر –المونولوجات– والمناجاة –واللُّغة الشَّاعريّة– والتَّنقُّل بين الأزمنة والأمكنة؛ ممّا يدفع في كثير من الأحيان للغموض والتَّشتُّت على الرّغم من أن كتَّاب تيَّار الوعي يحاولون الحفاظ نسبيًّا على الزَّمان والمكان، والاستفادة من الفنون السِّينمائيّة حيث قال بعض النُّقاد إنّ هذا الفنَّ تبقى عليه خطوة واحدة لبلوغ الفن السّينمائي. حيث كانت (فرجينيا وولف) أحد أشهر الأسماء في روايات التَّيَّار فقد كانت تطمح للوصول إلى طريقة أكثر شخصانية وأكثر دقّة في التَّعامل مع الواقع روائيًّا. ولم تكن بؤرة اهتمامها أنَّ "الشَّيء" موضوع الرَّصد، ولكن الطَّريقة التي يرصد بها "الشَّيء" من "الرَّاصد". وقالت في هذا الأمر "دعونا نرصد الذَّرات أثناء سقوطها فوق العقل بنفس ترتيب سقوطها، دعونا نتتبّع التَّشكيل مهما كان مفكَّكًا وغير مترابط التَّكوين، سنجد أنَّ كلَّ مشهد وكلّ حدث سوف يصيب رمية في منطقة الوعي"[1].

وأدت التَّرجمة دورًا مهمًّا وكبيرًا، في تعرُّف الرِّوائيين العرب على الكثير من الأساليب الجديدة في سرد الرِّواية، وبدأ هؤلاء الرِّوائيّون يستخدمون هذه الأساليب الجديدة بدلًا من الأساليب التَّقليديّة، ويأتي في مقدّمة هذه الأساليب، (تيَّار الوعي)، الذي استخدمه الرِّوائيون الغربيون، وقد ظهر استخدام الرِّوائيين العرب لهذا التّكنيك في ستينيّات القرن الماضي، وكانت محاولة منهم للهروب من التّكنيكات التَّقليدية، في السَّرد والحبكة، وبدأ هذا التَّقليد على استحياء عند كتَّاب السِّتينيّات؛ لأنَّهم لم يكونوا قد قرأوا عنه باستفاضة، ووعوه وهضموه هضمًا جيّدًا، وكانوا أكثر توفيقًا ونجاحًا في استخدام هذه التّكنيكات، ولقد وجد هؤلاء الرِّوائيون، أنَّ الأساليب الرِّوائية التَّقليدية القديمة أصبحت عاجزة ولم تعد قادرة على التَّعبير عمَّا بداخل الإنسان المعاصر، فبدأت تختفي الأساليب التَّقليديّة تدريجيًّا، وبدأنا نجد روايات تقلّل من أهميّة الحبكة والتَّسلسل المنطقيّ للأحداث، وظهر هذا في رواياتهم.

لقد أولى أصحاب التَّيَّار الواقعي من الرِّوائيين جلَّ اهتمامهم بتطوير أعمالهم الرِّوائيَّة، بما يتناسب مع التَّغيرات التي تطرأ على مجتمعاتهم، وتطوير هذه الأعمال بوسائل متنوّعة، كان أبرزها وفي مقدّمتها الاتّجاه إلى النَّفس الإنسانيَّة، لتحليلها والكشف عن أسرار عالمها الخاص، متوخّين في ذلك الصِّدق في تصوير بيئاتهم، كما أبانوا عن أنَّ هناك تأثيرًا متبادلًا بين شخصيّاتهم في الرِّواية، والبيئات التي يحيون فيها، وأن هناك تغيّرًا في الشَّخصيات والبيئة بفعل التَّأثير الزَّمني؛ لذلك نجد بعض الرِّوائيين يركِّزُ على التَّحليل النَّفسيّ، في محاولة منه لاستبطان الواقع ليكشف عن حقيقته، واعتمد هؤلاء الرِّوائيون على التَّنظيم الدَّاخلي لسرد الأحداث، وذلك بإجراء عملية مونتاج على هذا الواقع، من حذف، وتقديم، وتأخير، وربط الأحداث والشَّخصيات، فجاءت أعمالهم الرِّوائية مقنعة. فالرِّواية الواقعية كما يرى نجيب محفوظ (تأخذ تنظيمها من واقع الحياة)[2].

والرواية الواقعيّة بحسب رؤية محفوظ، هي التي تتناول المجتمع بعاداته وتقاليده، وتُحلل الحالة النَّفسيّة لسكَّانه، أي تقوم على المراقبة والوصف، اللذين يشكِّلان بُعدين رئيسين في مفهوم الرِّواية.

إنَّ تيَّار الوعي يمثِّل الثورة الحقيقية في تاريخ التَّطوّر الرِّوائيّ عامّة، والاتّجاه الواقعيّ خاصّة، فهو -أي تيَّار الوعي- من نتائج الرِّواية الواقعيّة التي تولي اهتمامًا خاصًّا بالتَّحليل النَّفسيّ للأشخاص والمواقف من خلال الكشف عمَّا يعتمل النَّفس الإنسانيّة، وتصوير لواعجها الذَّاتيّة والجمعية (فالوقوف على حقائق الظَّواهر الإنسانية والنَّفسية هو أساس التَّحكم فيها)[3]. لقد أصبح تيَّار الوعي أسلوبًا له خصوصيته، التي تميّزه عن الأساليب السَّابقة فهو يُعنى بالتَّحليل النَّفسي للشَّخصيات والمواقف من خلال الوقوف على حقائق النَّفس الإنسانيّة، وتصوير أعماقها داخليًّا.

وتعدَّدت مسمَّيات تيَّار الوعي، وحاول كلُّ باحث وكلُّ ناقد، أن يجد مسمى من كلِّ ناحية معيّنة، وهذا يدلُّ على زئبقية التَّعريف وقدرته على المراوغة، وأيضًا يدلُّ على الجهد الذي بُذِلَ من الأدباء والنُّقاد، ما جعلهم لا يتّفقون على تعريف محدَّد أو كما يقول المناطقة تعريفًا جامعًا مانعًا، فتعدَّدت التَّعريفات، وذلك نتيجة لفهم كلِّ ناقد وأديب لمفهومه من ناحية، ووظيفته في العمل الرِّوائي من ناحية أخرى، فوجدنا من يطلق عليه الاستنساخ، ومنهم من يطلق عليه الشُّعور، ومنهم من يطلق عليه المحاكاة، ومنهم من أطلق عليه تداعي الفكر، ومنهم من أطلق عليه الوعي الدَّاخلي، وإذا كان تيَّار الوعي عدّة تقنيَّات فإنَّ البعض قد تناول تقنية من تقنياته على أساس أنّه هو، فيرى بعض النُّقاد أنّ تيّار الوعي (المونولوج المباشر أو غير المباشر). وقد ظهرت أعمال روائيَّة عدّة استطاعت حمل لواء هذا التجاذب من خلال طرح عدّة قضايا كانت الرِّواية السِّياسيَّة أحد أبرز موضوعاتها، وبأسماء عديدة استوعبت كبار كتَّاب الرِّواية العالميّة.

- التَّداعي الحر:

- مفهوم التداعي الحر: تُعدّ تقنية التَّداعي الحر التقنية الرئيسة في تنظيم حركة القصص عند علماء النَّفس، وهي عنصر أساسي تنطوي عليه الرِّواية التَّياريّة بشكل بارز، كما تُعدّ محرِّكًا لتلك التقنيات.

ويعود فضل ابتداعها إلى فرويد، وقد جاءت هذه الطَّريقة بديلًا عن التَّنويم المغناطيسي كطريقة للدفع بالمرضى إلى تذكّر الحوادث والتَّجارب الشَّخصية الماضية التي سبقت مرضهم. فهي تقنيَّة رئيسة في العلاج التَّحليلي، حيث تُشجع العملاء على التَّحدّث بكلِّ شيء يخطر على بالك، بمعنى آخر إخراج المشاعر أو الأفكار، دون مراقبة أو تمحيص، حيث يفتح الأبواب اللَّاشعورية، حيث كان المعالج يطلب من مرضاه أن يطلقوا العنان لأفكارهم تسترسل من تلقاء نفسها، دون قيد أو شرط، وطلب منهم أن يفوهوا بكل ما يخطر ببالهم أثناء ذلك من أفكار وذكريات ومشاعر، دون إخفاء أيّ شيء عنه مهما كان تافهًا أو معيبًا أو مؤلمًا[4].

فالتَّداعي الحرُّ هو: حركة الأفكار داخل الذِّهن بشكل دائم مستمر، وبشكل عشوائي غير منتظم، بحيث تتقاطع الأفكار والخواطر، وتتداخل لعلاقات التَّرابط الطَّردي والعكسي الإيحائي، فالفكرة تستجلب فكرة أخرى تتفق معها، أو تناقضها، أو توحي بها، وهو حر لأنَّ التَّداعي يتمُّ بشكل تلقائي بعيدًا عن أيّ قيد، بحيث يصعب توجيهها أو إيقافها[5].

التَّداعي الحرُّ في رواية "كوابيس بيروت"

اعتنت غادة السَّمَّان في رواية "كوابيس بيروت" بمظهر مهم من مظاهر تيَّار الوعي، وهو التَّداعي الحر، ومن أكثر الوسائل التي استخدمتها السَّمَّان في هذه الرِّواية، حيث يعتمد على السّقوط المتسلسل لأفكار الذَّاكرة، "التي هي أساسه، والحواس التي تقوده، والخيال الذي يحدد طواعيته، بمعنى أنَّ الذَّاكرة تختزن أحداثًا ما، وفي الفنِّ الرِّوائيّ لا بدَّ أن تكون كثيرة، وعندما تتعامل الحواس مع العالم الخارجي، يحدث إسقاط ما في الذَّاكرة، وتقاطعها مع ما هو مثير[6].

لقد توسَّعت الرِّوائيَّة في استخدام أسلوب التَّداعي في الرِّواية، فعالم بيروت المشبع بالدَّمار، الذي يشارف على الانهيار؛ وقد انهار فعلًا، فبينما تقوم بتدوين دقيق للأحداث والممارسات اليومية بكل جزئياتها، نجدها تروي لنا كوابيسها التي تراها يقظةً ومنامًا.

فهي منذ البدايات شرعت بتكثيف تقنيَّة التَّداعي بصورة لافتة، وتكاد تنسحب في أرجاء الرِّواية كافة، حيث صوَّرت لحظة بزوغ خيوط الفجر الأولى وقد قضت ليلة مروِّعة، والصَّواريخ والمتفجّرات تتجوّل راكضة حول بيتها كما لو أنَّها كانت في فيلم حربي، وقرّرت بعد ذلك هي وجيرانها أن تجلي مَنْ لا يطيق مع هذا الواقع المأزوم صبرًا. فمن خلال تداعي الأفكار وتسلسلها الذي قد يكون لا منطقيًّا حينًا ويتّسم بالتَّسرّع حينًا آخر فهي سارت بسياراتها كالمنوَّمة مغناطيسيًّا، وهي بذلك تمثّل هذه التقنية خير تمثيل راجيةً من سياراتها ألا تعتصم هي الأخرى بوسط الطَّريق رافضةً العمل احتجاجًا على الواقع البغيض في بيروت، وكأنَّها تدلل من خلال تداعيها على الجو المشحون الذي تسلل لكلِّ شيءٍ حتى السَّيارة فتقول: "حين طلع ضوء الفجر، كان كلُّ منِّا يتأمَّل الآخر بدهشة: كيف بقينا أحياء؟ كيف نجونا من تلك اللَّيلة... قد قضينا ليلةً كانت القذائف والمتفجّرات والصَّواريخ تركض فيها حول بيتنا كأنَّ عوامل الطَّبيعة قد أصيب بالجنون... وكانت الانفجارات كثيفة كما في فيلم حربي سيئ لكثرة مبالغاته...


  • [1] فرجينيا وولف، جيوب مثقلة بالحجارة، ترجمة فاطمة ناعوت، المشروع القومي للترجمة، القاهرة 2004، عدد 761، ص 21، ط1.
  • [2] نجيب محفوظ– الرّواية الواقعيّة– مجلّة النّهار العربيّة– عدد 99 تاريخ 11/05/1988 م.
  • [3] محمد غنيمي هلال- النّقد الأدبيّ الحديث- دار الثّقافة- دار العودة بيروت- 1973- ص524.
  • [4] روبرت همفري، تيار الوعي في   الرواية الحديثة، ص48.
  • [5] منيرة بنت سليمان، تيار الوعي في روايات رجاء عالم، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في الدراسات الأدبية، جامعة القصيم، 1432ه/2011م، ص 191.
  • [6] روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ص65.

لم نكن صحونا جيّدًا من "عدم نومنا" حين اتّخذنا قرارًا سريعًا: إخراج الأطفال والعجائز من البيت وخلال عشر دقائق من الرَّكض الهستيري بين غرف البيت –لجمع حوائج سيتبين لنا حتمًا فيما بعد أنها غير ضرورية-، كانت (القافلة) تهبط سُلَّمَ البيت إلى الحديقة ومنها إلى السَّيارة العتيقة... وكان زجاجها الأمامي مثقوبًا برصاصة عند موضع رأس السَّائق أي عند موضع رأسي والزُّجاج الخلفي محطَّمًا ومتماسكًا في مكانه. تحسَّست رأسي وفرحت حين وجدته في مكانه دون أيّ ثقب إضافي. منظر الرَّصاص في الزّجاج زاد من جنوننا لتهريب الصِّغار جدًّا والكبار جدًّا، كأن لأصوات المتفجرات مفعولًا غامضًا كالمخدرات... كأنَّها تطلق في الأعماق طاقة سرية مختزنة وتلجم في الوقت ذاته صوت المنطق اليومي والعقل العادي المتداول....

كان خوفي الوحيد من أن تقرِّر سيارتي العتيقة ممارسة أحد ألاعيبها كأن تعتصم بأرض الشَّارع وتضرب اليَّوم عن العمل. كان قلبي يضرب كطبلٍ إفريقي مجنون وأنا أدير مفتاح (الكونتاكت).. تحرَّكت السَّيارة. كالمنوّمة مغناطيسيًّا كنت أقودها، وفي ذهني خاطر واحد: التخلّص من حمولتها البشرية –الأقل صبرًا على الرعب– والعودة إلى البيت.

أنزلتهم أمام بيت بعض الأقارب، وعدت في الدَّرب نفسها مثل دمية ربط (زمبركها) وهي تؤدي دورها على الخط المرسوم لسيرها دونما توقف (حتى ولو اصطدمت بطرف سجادة أو بساق كرسيّ فإنّها ستظلُّ تتابع حركتها الآلية)... ولم أشعر بأنّني رأيتهم، ولم تبدُ على وجوههم غير الدَّهشة... كان من الواضح أنَّ السَّيارة مصابة بزخَّات من الرَّصاص وخصوصًا عند موضع رأسي، وكان من المدهش أنّني ما زلت أحيا وأقودها دون أيّ تعبير على وجهي، وربما ظنّوا أنّني متُّ حين أُطْلِقَتْ النَّار على السَّيارة، وها أنا أقودها في طريقي إلى الآخرة..

ووحدها الدَّرب إلى الآخرة سالكة وآمنة وبلا حواجز... وهكذا لم يستوقفني أحد".

فمن هذا التّداعي العشوائي وغير المنظَّم للأفكار التي تعتري الرِّوائيَّة، في محاولتها للتّخلُّص من تلك اللّيلة الرَّهيبة التي لم تصحُ منها رغم "عدم نومها" فالأفكار فيها تتساقط كزجاج سياراتها الذي تناثر "كالثَّلج الشِّرير" الذي تناثر لحظة إغلاقها باب سيارتها -بما تقله من حمولة بشرية تنوي التخلّص منها كي لا يلحقها مكروه- وقد تحسَّست رأسها لا إراديًّا بعد أن شاهدت آثار الرَّصاص عند موضع رأس السَّائق، فضراوة القتال خارج بيتها ألغت كل اللُّغات وصارت تقود السَّيّارة كالمنوَّمة مغناطيسيًّا، وهي تتابع سيرها كالدِّمية وهي لن تتوقّف مهما كلّفها الأمر، ومن خلال ما سبق قد لا يتأتّى للقارئ أن يحكم ما ستؤول إليه الأفكار من مصير، فهي بالرِّغم من محاولتها للهرب من الواقع ناجيةً بحياتها إلا أنَّها تعود، للتّذكير بدهشة المقاتلين من بقائها على قيد الحياة، فالآخرة دربها سالك وبلا حواجز قد توقفها أو تسألها إلى أين هي ذاهبة.

المونولوج الداخلي

- مفهوم المونولوج الداخلي:

هناك أسلوبان تبعًا لرؤية النَّحو التَّقليدي في نقل كلام الغير: الأسلوب المباشر، وغير المباشر، فإذا نقلت كلام الغير كما هو، سمي هذا الكلام في هذه الحالة كلام الشَّخصيَّة، أما إذا أُدخل كلام الغير في سياق كلامه سمي بكلام الرَّاوي) ويرى روبرت همفري أن المونولوج الدَّاخلي هو: "ذلك التَّكنيك المستخدم في القصص بغية تقديم المحتوى النَّفسي للشَّخصية، والعمليّات النَّفسيَّة لديها، دون التَّكلم بذلك على نحو كلِّي أو جزئيّ، وفي اللَّحظة التي فيها هذه العمليّات في المستويات المختلفة للانضباط الواعي قبل أن يتشكَّل للتّعبير عنها بالكلام على نحو مقصود، فهو تكنيك لتقديم المحتوى النَّفسي في المستويات المختلفة للانضباط الواعي بعبارة أخرى لتقديم الوعي"[7].

وهو يعني رسم الأمور كلّها من الدَّاخل، ومن الكتَّاب من يرى أنَّ تيَّار الوعي: "هو المونولوج المباشر وغير المباشر تختلط فيه الأصوات وقد يصل إلى الرَّمزية والتَّصويرية"[8].

ويقسم المونولوج الدَّاخلي إلى قسمين:

1- المونولوج الدَّاخلي المباشر: هو ذلك النَّمط من المونولوج الدَّاخلي الذي يمثِّله عدم الاهتمام بتدخّل المؤلّف، وعدم افتراض أنَّ هناك سامعًا يقدّم الوعي للقارئ بصورة مباشرة، مع عدم الاهتمام بتدخّل المؤلّف، أي أنَّه يوجد غياب كلِّي أو قريب من الكلّي للمؤلف من القطعة الأدبية؛ فهو موجود فحسب بإرشاداته المتمثلة في عبارات "قال كذا" و"فكر على النَّحو الفلاني"، كما أنَّه موجود بتعليقاته الإيضاحية[9].

فإذا تناولنا المونولوج المباشر في رواية (كوابيس بيروت) نجد الرِّوائيَّة قد استخدمته بطريقة فائقة، ويظهر ذلك واضحًا في هذا المونولوج فتقول:

"وجدتني أفكِّر بجسدي باعتباره مادّة قابلة للخرق بالرّصاص والكسر والحرق والتَّمزيق، ولا أدري لماذا تذكرت الإعلانات عن السَّاعات التي هي (ضد الماء والكسر) وشعرت بالغيرة منها... وأسفت لأنَّ الجسد البشريّ هشٌّ، والحياة لا يمكن أن تتكرر... إنَّها الخسارة الوحيدة التي يستحيل تعويضها! تذكَّرت قولًا: "الشَّيخوخة هي الجنازة الوحيدة التي يمشي فيها الفقيد على قدميه" وشعرت بشهيةٍ للشيخوخة، وتخيَّلت نفسي وأصدقائي وقد ابيضَّ شعرنا وتجاوزنا السَّبعين ونحن نروي ذكريات هذه الأيام المُرَّة... كم هو مفجع أن تصبح الشَّيخوخة طموحًا!

أخي وأنا، لم نتبادل أيّ حوار... كأنَّ صوت الرَّصاص يلغي اللّغة... كأنَّه يخلق جدارًا عازلًا، أو أنَّه يزيد من وعي الإنسان بفرديته وعزلته حيث يسقط في بئره الخاصَّة.."[10]

فمن خلال هذا الحديث النَّفسي الدَّاخلي الذي عبَّرت عنه السَّمَّان، وبصياغة فريدة من خلال استعمال ضمير المتكلّم العائد على (بطلة الرِّواية)، الذي يلخّص ببوح قريب من النَّفس حالة تلك الوحيدة المحتجزة في بيتها، التي أخذت تفكِّر بجسدها أولًا فهو أضعف وأكثر شيء قابل للتّلف والاختراق بالرّصاص، فالقارئ باللَّاشعور ذاته التي انفلت متداعيًا بشكل لافت، يبدأ هو الآخر يتحسَّس جسده حين يجد أنَّ ذلك الجسد أوهن وأرق ممّا كان يتخيَّل، فهي تحاول الهرب بنفسها من أيّ شيء، فتتمنَّى بعد أن تذكَّرت دعاية ساعات ضد (الماء والكسر) وكأنَّها تحاول أن توقف عجلة الزَّمن بأن تنفصم عنه، وأخذت تعزِّي نفسها بأن تتذكّر أقوالًا عن الشَّيخوخة وتمنّت لو أنَّ الشَّيخوخة تأتي مبكّرًا متجاوزة واقعها، حيث تهرب للمستقبل فتتخيَّل نفسها وأصدقاءها وقد كسا شعرهم البياض لتروي لهم ما جرى من أحداث مرّة، خلال أيام القتال العصيبة، ولعلَّ من أهم ملامح رواية تيَّار الوعي التي تحاول الرِّوائيَّة استغلال تقنياتها لأبعد مدى هي التَّمادي باستخدام التَّداعي عبر المونولوج الدَّاخليّ وبخاصّة المباشر، لتجاوز الواقع المأزوم هاربة منه للمستقبل لتجعله ماضيًا سترويه لأصدقائها وقد بلغوا السَّبعين من عمرهم، فهي خلال هذا الواقع لم تتبادل أيّ حوار مع أخيها، فأصوات الرّصاص هي اللُّغة الوحيدة المسموعة التي تلغي كلّ لغة، فهي تفصل ما بين البشر بجدار سميك يعزلهم عن الحياة، أو أنَّها تشعر الإنسان بعزلته فيسقط فيها كما يسقط في بئر لا قرار له.

ففي المونولوج السَّابق نجد الشُّروط السَّابقة قد تحقَّقت، فجاء بصيغة المتكلّم من ناحية، ومن ناحية أخرى بطل الرِّواية يتحدّث مع نفسه، كما أنَّ الرِّوائي لم يتدخّل نهائيًّا لا بالشَّرح ولا بالتَّعليق، ولم يكن هناك جمهور سامع.

2- المونولوج الدَّاخلي غير المباشر: يختلف عن المونولوج المباشر بأشياء عديدة في استخدام ضمير الغائب المخاطب؛ لأنَّه يُرشد القارئ، ويعكس هذا المونولوج خصائص العملية الذِّهنية للشّخصية المتحدَّث عنها وفي ثوب لغتها، ويأتي المونولوج الداخلي غير المباشر منسوجًا وملتحمًا في خطِّ القصِّ دون مقدّمات أو عبارات داخليّة، "هو ذلك النَّمط من المونولوج الدَّاخلي الذي يقدِّم فيه المؤلّف الواسع المعرفة مادَّة غير متكلّم بها، ويقدِّمها كما لو أنَّها كانت تأتي من وعي شخصيّة ما...، هذا مع القيام بإرشاد القارئ ليجد طريقه خلال تلك المادة، وذلك عن طريق التَّعليق والوصف[11].

ومن أمثلة المونولوج الدَّاخلي غير المباشر، قولها: "شاهدتُ الرَّجل يخرج من قلب الظَّلام. شاهدتُ الرَّجل يضع على وجهه قناعًا أسودَ. شاهدتُ الرَّجل يطرق الباب الكبير. شاهدت الرَّجل يقابل الرَّجل (الكبير).

شاهدتُ الصَّفقة تتم. شاهدتُ الرَّجل يخرج حاملًا معه "مسحوق الجنون" شاهدت الرَّجل يقبض الثَّمن. شاهدتُ الرَّجل يتسلَّق الجبل. شاهدتُ الرَّجل يرمي" بمسحوق الجنون" في النَّبع الذي تشرب منه بيروت. شاهدتُ مسحوق الجنون يمسُّ النَّبع، فتشتعل النَّار في الماء، وتفور فقاعات من جمر... شاهدتُ الرَّجل ينحني على النَّبع ويشرب، فتستحيل أصابعه العشر مخالب حيوانيّة، ويطول شعره، وتسقط عنه ملابسه كالقشرة الجافّة، ويخرج منها جسده، وقد تحوَّل إلى جسد غوريلا غاضبة، يمد القرد يده فيكسر غصنًا أخضر ويحمله مهتاجًا وراكضًا نحو المدينة... والنَّار تشتعل من موطئ قدميه وقد شبَّ بركان حيواني لا يقاوم، ونهم إلى الدَّم.. الدَّم... ويتدفق "نبع الجّنون" ليسقي أهل المدينة... وبعضهم يشرب ولا يدري... واستيقظت، وأنا لا أدري ما إذا قد نمت أم لا.... أم شربت أم لا"[12].

ولعلَّ أهم مميزات المونولوج الدَّاخلي غير المباشر هو أن تقوم الشَّخصية الرئيسة في الرِّواية بسرد تصرفات شخص آخر، وكأنَّه يقبع في مخيّلته وتصف بصورة قد تكون دقيقة بعض الأحيان ما يحدث معه، فنلاحظ السَّمَّان تَبْرَعُ في وصف مشهد -تخيّليّ- شاهدت فيه رجلًا يحمل مسحوق الجنون حيث تقول (شاهدتُ الرَّجل) أي هي من شاهدته يحمل المسحوق، كما شاهدته يقبض الثَّمن، ويقابل الرَّجل الكبير، وشاهدت الصَّفقة تتم، وشاهدت ذاك الرَّجل يضع مسحوق الجنون في نبع الموت الذي ستشرب منه بيروت، والماء يغلي حال وضع المسحوق اللّعين فيه، وشاهدته أيضًا يكسر غصنًا أخضر يحمله مهتاجًا بيده ويتّجه نحو المدينة، والنَّار تملأ المكان وهو جائع إلى مزيد من الدَّم ولا شيء غيره، لكنَّها استيقظت في النِّهاية وتتساءل أهي نامت أم شربت. فتلك المشاعر المتداعية بطريقة سريعة يتصاعد معها السَّرد وتتميّز بأنَّها تصف الأشياء من أعلى، وكأنَّها ترى فضاء بيروت المضطّرب من شرفتها المغلقة، حيث نلحظها تصف كل شيء تلاحظه وهذا ما يميّز المونولوج الدَّاخليّ غير المباشر حيث يشترك مع المباشر في كونه لا وجود للرِّوائي ولا يفترض وجود جمهور سامع، لكن يتّسم بوصف ذهنية أو أفعال شخصية ثانية غير شخصية الرَّاوي أو البطل الرَّئيس.

- المزج بين المونولوج الدَّاخلي المباشر وغير المباشر:

يمزج الرِّوائي في بعض الأحيان بين المونولوج الدَّاخلي المباشر وغير المباشر، فيستخدم الرِّوائي ضمير المتكلّم، وضمير الغائب في نفس المونولوج ونجد في المنولوج وجهتي نظر، وجهة نظر الفرد المتكلّم، ونجد وجهة نظر المفرد الغائب، نجد المونولوج الدَّاخليّ المباشر يقدِّم وعي الشَّخصية ذاتها، ونجد تقديم وعي الشَّخصية وإدراكها للآخرين. وكان الهدف من ذلك المزج هو أن يمنح الكاتب حرية أكبر في نسج كلام الشَّخصية داخل كلام الرَّاوي.[13] حيث تقول غادة:

"هدأ الرّصاص قليلًا...

اقتربتُ من النَّافذة... كذلك فعلت الأمُّ التي تقطن في الدَّور الثَّالث المقابل من البناء المقابل لبيتي. وكان البَّقال العجوز يضع لها بعض أرغفة الخبز في سلّة مربوطة بحبل وقد وقفت هي خلف خشب النَّافذة وأدلت إليه بالحبل دون أن تُخْرِجَ حتّى يدها.. أمّا هو فقد احتمى بمدخل البناء.

كان الهدوء شاملًا، وتخيَّلت أنَّ المقاتلين يغسلون وجوههم ويبرِّدون أسلحتهم... وقرَّرتُ أنْ أنادي البَّقَّال المغامر وأمارس الشَّيء ذاته...

وبدأت السَّيّدة ترفع السَّلّة المربوطة بالحبل ببطء شديد. وقرَّرت: لا بدَّ أنَّ يديها ترتعدان الآن! ولكنَّ السَّلّة كانت ترتفع باستمرار وكان حبلها دقيقًا حتّى بدت مثل سلّة تصعد في الفضاء نحو الخائفين، حاملة رغيف السَّلام... لاحظتُ أنَّ عيون بقية الجيران المختبئين خلف النَّوافذ تتابع طيران سلَّة الخبز في الفضاء، وأحسست أنَّ قلوبنا جميعًا مثل قلب واحد يصلّي من أجلها.. كأنَّ السَّلة صارت طفلًا.. طفل المحبّة والأمان والتَّواصل مع عالم البسطاء.. وظلَّت السَّلّة تعلو حتّى وصلت إلى حدود الطَّابق الثَّاني، والصَّمت المتوتّر ما زال يسود... وفجأة انطلقت رصاصة.

وبدأت السَّيّدة ترفع السَّلّة المربوطة بالحبل ببطء شديد. وقرَّرت: لا بدَّ أنَّ يديها ترتعدان الآن! ولكنَّ السَّلّة كانت ترتفع باستمرار وكان حبلها دقيقًا حتّى بدت مثل سلّة تصعد في الفضاء نحو الخائفين، حاملة رغيف السَّلام... لاحظتُ أنَّ عيون بقية الجيران المختبئين خلف النَّوافذ تتابع طيران سلَّة الخبز في الفضاء، وأحسست أنَّ قلوبنا جميعًا مثل قلب واحد يصلّي من أجلها.. كأنَّ السَّلة صارت طفلًا.. طفل المحبّة والأمان والتَّواصل مع عالم البسطاء.. وظلَّت السَّلّة تعلو حتّى وصلت إلى حدود الطَّابق الثَّاني، والصَّمت المتوتّر ما زال يسود... وفجأة انطلقت رصاصة.

لا أدري هل سمعنا صوتها أولًا أم شاهدنا السَّلة تهوي في الفراغ مثل رجل سقط من الشّرفة. وفهمنا بومضة برق مدلول ما حدث: هنالك قنَّاص ما أطلق رصاصة على الحبل الرَّفيع.

لقد عرض مهاراته أمام أهل الحيِّ جميعًا. لقد قال لنا جميعًا: إنَّني قادر على إصابة أيّ هدف مهما كان دقيقًا ونحيلًا. قلوبكم كلّها تحت مرماي. شرايينكم كلّها أستطيع أن أثقبها شريانًا شريانًا. أستطيع أن أصوِّب رصاصتي إلى أيّ جزء يحلو لي من أجسادكم. وحين هوت السَّلّة. شعرت بأنَّ الحيَّ كلَّه تحوَّل إلى قلب واحد يتنهَّد بعضَه. وأدركنا أنَّنا جميعًا سجناء ذلك الغول الغامض المختبئ في مكان ما، الذي يتحكَّم بدورتنا الدَّموية والعقليّة والنَّفسيّة لمجرّد أنَّه يملك بندقية ذات منظار تدرَّب عليها بعض الوقت... ولتذهب إلى الجحيم كلّ السَّاعات التي قضيناها في الجامعات والمختبرات لنتعلَّم!...

وحين سقطت السَّلة، سقطت آمالنا معها وتكوَّمت على الرَّصيف جثَّة تحتضر. حين سقطت السَّلّة، حزنًا كما لو أنَّ طفلًا سقط من على دولاب مدينة الملاهي وانطفأت الأضواء والضّحكات كلّها دفعة واحدة...


  • [7] روبرت همفري– تيار الوعي في الرواية الحديثة– ص 46.
  • [8]  أ. د. صلاح أحمد الدوش، الشخصية القصصية بين الماهية وتقنيات الإبداع، أمارا بارك، المجلد رقم7، العدد رقم 20، ص 125، 2016 م.
  • [9] روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ص 48.
  • [10] غادة السمان– كوابيس بيروت– ص 12.
  • [11] روبرت همفري، تيار الوعي في   الرواية الحديثة، ص 49.
  • [12] غادة السمان– كوابيس بيروت– ص 20.
  • [13]  محمد علي الشوابكة، السّرد المؤطّر في رواية النّهايات لعبد الرحمن منيف، منشورات أمانة عمان الكبرى، 2006 م، ص 136.

وحين سقطت السَّلة، سقطت آمالنا معها وتكوَّمت على الرَّصيف جثَّة تحتضر. حين سقطت السَّلّة، حزنًا كما لو أنَّ طفلًا سقط من على دولاب مدينة الملاهي وانطفأت الأضواء والضّحكات كلّها دفعة واحدة...

وداعًا أيتّها الشَّمس!... "[14]

فمن خلال النَّصِّ السَّابق نلاحظ أنَّ السَّمَّان قد بدأت المشهد بهدوء تام، وأنَّها هي اقتربت من النَّافذة وبدأت باستخدام صيغة المتكلّم، لكنَّها ما لبثت أن أدخلت العنصر الثَّاني ألا وهو (جارتها) ثمّ الثَّالث (البقال، والمغامر، والعجوز)؛ ومن خلال إضفاء جوٍّ دراميّ على المشهد الذي زاد من رعبه وهي تشاهد كبقية الجيران -العنصر الرَّابع- الخيط الذي يتدلَّى ببطءٍ ورعبٍ من المنزل المقابل لها، وتمنَّت أن تقوم بنفس العمل وتتواصل مع البقّال المغامر ذاته. حيث بدأت السَّلة تصعد وسط هذا المشهد الصَّامت المليء بالرّعب والخالي من أيّ حركة، إلّا حركة يد الجارة التي من الممكن أن تكون ترتعد وهي تحاول جاهدة إنقاذ رغيف السَّلام، وكذلك فعلت -مع بقية الجيران- وهم يقبعون خلف النَّوافذ المغلقة يراقبون طيران السَّلة، وكأنَّ السَّلة صارت طفل المحبة والسَّلام مع عالم المساكين الذين عزلتهم الحرب عن العالم الخارجيّ، ومن هذا المشهد السَّينمائيّ نلحظ اختلاط الضَّمائر التي استخدمتها الرَّوائيَّة، ما بين ضمير المتكلّم والضَّمير العائد على الآخرين، الجارة والبقَّال والجيران، كما أنَّها تدلّل من خلال هذا المشهد على أنَّ الرِّواية الحديثة زحفت نحو الفنون المسرحية والسّينمائية فاستعارت مشاهد التّشويق والإثارة.

وفجأة وخلال هذا الجو الذي يلفّه الصَّمت والرُّعب والانتظار، انطلقت رصاصة! وهم لم يستطيعوا التَّأكُّد من أنَّ الرّصاصة خرجت أولًا أم أن السَّلة هوت على الأرض وقضت على أمل الجياع بأن تصلهم أرغفة السَّلام، وكأنَّها رجل سقط من أعلى شرفة، حيث فهموا جميعهم من أنَّ قنَّاصًا في المنطقة سيصبح رعبهم الدَّائم، وبأنَّه قادر على إصابة أي هدف مهما صغر حجمه.

وبعد العودة إلى مشاعرها الدَّاخلية التي امتلأت حزنًا وقهرًا، ولاعنة للسَّاعات التي قضتها كي تتعلَّم وتصل لما هي عليه، بينما يوجد في الحياة من تدرب بضع الوَّقت على بندقية تحمل منظارًا وأصبح يتحكّم بحياة النَّاس، فقد تهاوت آمال الجميع مع السَّلّة التي أصاب القنَّاص خيطها الذي تحمله، كما أصاب الجميع حزن عارم، ونجدها تدمج الكلَّ في ضمير واحد ألّا وأنَّ هذا الحزن سيصهر الجميع في بوتقة الألم، وكأنَّ سقوط تلك السَّلة يمثل سقوط طفل فرح بألعاب العيد حيث أطفأت الأنوار والضّحكات كلّها مرة واحدة، فلقد فهموا رسالة القنَّاص بشكل جلي، فقد أغلقت النَّوافذ كلّها إلى وقت غير معلوم، فودَّعت من خلالها الشَّمس التي حجبت هي الأخرى عنهم حتى إشعار آخر.

- مناجاة النَّفس:

مفهوم المناجاة: أصبحت الذَّات الرِّوائيَّة تناجي نفسها، والمناجاة ما هي إلّا استحضار واستدعاء لأحداث مرَّت بها الشَّخصيّة، ولذلك فالمناجاة النَّفسيّة هي استحضار للزَّمن الماضي في زمن الحضور، وهي أكثر شيوعًا في رواية تيَّار الوعي[15]. وما يسمَّى بالأساليب الرِّوائيَّة التَّقليديّة، والمقصود بها، "الأساليب الأساسية المتعارف عليها، التي استخدمها كتَّاب "تيار الوعي" استخدامًا خاصًا، وأهم هذه الأساليب، أسلوب الوصف الذي يقوم به المؤلف الواسع المعرفة، ثم أسلوب مناجاة النّفس"[16].

وهي من التقنيات التيارية التي استخدمتها السمان، حيث لم يفت غادة، الأهميّة العظيمة لاستخدام تلك الأساليب، من مناجاة، ووصف عن طريق المعلومات المستفيضة، والقالب الشِّعري، والبناء الدرامي، ومن ضرورة توظيف بعضها في الرِّواية، واستخدامها لهذه الأساليب، أكسب عملها الوحدة والتَّرابط بين عناصره، حيث مزجت السَّمَّان بين الجانب الدَّاخلي للشخصية، والجانب الخارجي -بمعنى آخر- مزج الأساليب التَّقليديّة التي تتناول الشَّخصيات من الخارج، وأساليب تيّار الوعي الحديثة التي تتناول الحياة الداخلية للشّخصية، فاستطاعت أن تتحكَّم بالتَّداعي الدَّاخلي للشّخصية.

فمناجاة النَّفس هي: "تقديم المحتوى الذِّهني، والعمليات الذِّهنية للشَّخصيّة مباشرة من الشَّخصية إلى القارئ، دون حضور المؤلّف، ولكن مع افتراض وجود الجمهور افتراضًا صامتًا"[17] .

إنّ مناجاة النَّفس من النَّاحية النَّظرية أقل عشوائيّة من المونولوج الداخلي المباشر، وأكثر تحديدًا لعمق الوعي من المونولوج الدَّاخلي، وتتداعى الأفكار والصّور انطلاقًا من وجهة نظر الشَّخصية، ومن طبقة الوعي القريبة من السَّطح، أي أنَّ الأفكار والصور تتداعى في لحظة وصولها إلى الذِّهن، ولهذا فإنَّ تيَّار الوعي في مناجاة النّفس يكون أكثر ترابطًا منه في المونولوج الدَّاخلي المباشر، لأنَّه يهدف إلى توصيل المشاعر والأفكار المتّصلة بالحبكة الفَّنيّة، وبالفعل الفَّنّي، بينما المونولوج الدَّاخلي يهدف إلى توصيل الهويّة الذِّهنية للشَّخصية.

أمَّا من النَّاحية العملية فإنَّ هدف رواية التَّيَّار التي تستخدم تقنيّة (مناجاة النَّفس) فإنَّه يتحقق أحيانًا عن طريق مزج (مناجاة النَّفس بالمونولوج الدَّاخلي)[18] .

وهذا المزج قد يكون ضروريًّا –في بعض الأحيان- لرواية تيَّار الوعي؛ لأنَّ المونولوج الدَّاخلي المباشر غالبًا ما يبنى على افتراض عدم وجود سامع أو جمهور متلقٍ، بينما مناجاة النَّفس تبنى على افتراض وجود سامع أو جمهور صامت متلقٍ، لا سيما أن كلا الأسلوبين يقوم على افتراض عدم تدخل المؤلف بين ذهن الشَّخصية وبين القارئ، وقد يمزج الرِّوائي في بعض الأحيان بين المونولوج الدَّاخلي غير المباشر، وبين مناجاة النَّفس، وهذا المزج يوفر للمؤلف واسع المعرفة القدرة على التَّدخل الضِّمني بين ذهن الشَّخصيّة وبين القارئ[19]. وذلك لعمق الوعي الذي يقدمه، كما أنَّ هذه التقنية (مناجاة النَّفس) أقل عشوائيّة من المونولوج، وأكثر تحديدًا، وذلك لعمق الوعي الذي يقدمه.

فالذَّات الرِّوائيَّة تناجي نفسها وبخاصة عندما تفقد التَّواصل مع الأنا الجَّماعيّة، ويرجع هذا لاختلال معاييّر الواقع الذي تعيشه الشَّخصيّة الرِّوائيّة، من النَّاحية السِّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثَّقافيّة، ويرجع هذا إلى اعتماد الشَّخصية الرِّوائيّة على التَّرابطات النَّفسيّة والشُّعوريّة[20] . ولعلَّ من أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها في تقنية (مناجاة النفس)، هو دور الرّاوي -أو الرِّوائي بمعنى أدق- الذي يختفي خلف الشَّخصيّة في معظم الأحيان، لكنَّه يظهر هنا بعض الشيء محاولًا -نوعًا ما- أن يبدي رأيه في الأحداث من خلال بثِّه لبعض الأفكار والأيديولوجيا؛ ليثبت حضوره ووجوده في الرِّواية، لا أن يبقى مختفيًا خلف الشخصيات، فلعل هذه التقنية -أي المناجاة- هي نوع من التَّنفس الذي يمارسه كتَّاب رواية التَّيار من خلال استخدامهم لتقنيَّة (مناجاة النفس).

- مناجاة النَّفس في رواية "كوابيس بيروت"

"حاولت أن أتلهّى عن صوت الرّصاص بإعداد وجبة طعام... كان في المطبخ بعض ثمرات البطاطا المنسيّة في ركن معتم. أخرجتها وغليت الماء تمهيدًا لسلقها. حملت واحدة منها وقبل أن أغطسها في الماء المغلي فوجئت ببرعم أخضر وقد بدأ ينمو من أحد جوانبها. ذهلت. شعرت بأنَّ البطاطا (التي أراها كتلة بنيّة جامدة) هي جسد حيّ، يخفق بالحياة ويتوالد ويتكاثر... وضحكت كثيرًا من نفسي وأنا أصرف فكرة سلقها (حية)!... أعرف أنَّني إذا جعت بما فيه الكفاية، فقد أصير على استعداد لالتهام أوّل مخلوق أجده في طريقي حتى ولو كان رجلًا.

مأساتي أنّي أعتبر أيّ حادثة قتل مأساة كونيّة... قطف زهرة هو بالنّسبة إليّ حادثة قتل... وحينما يهديني أيّ إنسان باقة من الزِّهور أشعر بحزن عظيم لأنَّهم اغتالوها لأجلي... وإذا أحاط أحدهم رقبتي بعقد من اليَّاسمين فإنَّ بدني يقشَّعر، كما لو أحاطوه بحبل ربطت عليه عشرات الجثث...

موقفي من الحياة يمثله البروفيسور "لورين إيشلي" الذي صاح بعفوية مخاطبًا الدَّم الذي تدفَّق من فمه حين زلَّت به القدم على الرَّصيف: "أنا آسف لما سببته لكم.. آسف جدًّا.." وكان البروفيسور يعتذر من دمه! وحين ظنَّه صديقه مجنونًا قال له مفسِّرًا: كلّ نقطة دمٍ هي مجموعة لا متناهية من الخلايا الحيّة... وأنا حين سقطت وبالتَّالي نزفت، سببت موت عدد كبير منها، فخاطبتها وهي تحتضر على الرَّصيف مثل قبيلة من السَّمك المرميّة على الرَّمل الحار لتموت.. لقد سببت للكون الذي أقطنه عددًا هائلًا من الوفيات (خلايا الدَّم) وهو عدد يفوق عدد النَّاس الذي قد يقضي عليهم انفجار ذريّ!... أجل إنَّ مصرع أيَّة حياة هي كارثة كونيّة لا بالنِّسبة لكوكبنا فحسب، بل ولبقية الكواكب الأخرى أيضًا، فالكون بمجمله يصح تشبيهه ببحر من الحياة، وكل منّا نقطة في هذا البحر الشَّاسع، وموتها يؤثر في نحو ما بكل شيء، والقتل جريمة بحق الحياة، لا بحق القتيل فقط.. لذا، وأيًّا كانت قناعتي، كان من الصَّعب جَرّي إلى الإقرار بالعنف وسيلة لأيّ شيء رغم معرفتي الأكيدة بأنَّ التبديلات الجذريّة في تاريخ الكرة الأرضيّة لم تتم إلا عبر العنف.. كان ذلك يعذبني.. ذلك التَّناقض في داخلي بين العنف واللاعنف، على الوصول إلى قناعة عقليّة بخصوصه.. ولكن، هل يمكن للعنف أن يولد مجرد قناعة عقلية؟ أم من حاجة جسدية للدّفاع عن النَّفس؟ وردة فعل عفوية لجائع أمام متخم مثلًا؟ أم كلاهما معًا؟ لا أدري. كل ما أدريه هو أن أخي يدور حولي في حالة غيظ بانتظار أن يستقرَّ رأيي على ما سنأكله، فقد كنت قد قلت له: لن نأكل البطاطا؛ لأنَّها (فاسدة) لم أقل لأنها (حيَّة) خوفًا من سخريته...

فتحت البراد من جديد أتأمّل ما خلَّفته جدتي.. لا شيء يذكر غير مخزون جيّد من اللّحوم.. ومأساتي أنَّني صرت عاجزة تمامًا عن أكل اللّحوم... لكثرة ما شاهدت من جثث مرميّة في الشَّوارع طوال الأشهر السِّتة الماضية -منذ استعرت الحرب الأهلية- صرت شبه قانعة بأنَّ لحوم أسواقنا كلها هي لحوم بشريّة.. ولم أكن قد تحولت إلى حيوان مفترس بعد.. ما زلت أطعم النَّمل الذي يقطن زوايا بيتنا، وأدافع بضراوة عن كل الكائنات التي تشاركنا مسكننا، وأخفي دومًا المبيدات التي تتبنى جدتي استعمالها رغم غضب أسرتنا لتصرّفي (غير الصِّحي) هذا... أجل! لم أذق طعم الَّلحم منذ شهور، فالرّصاص يسكن منطقة المسلخ حيث يفترض ذبح المواشي، فمتى تسنح الفرصة لممارسة ذلك؟ بينما اللّحم البشريّ مكدَّس في الشَّوارع ومسلوخ الجلد ومقطوع الرَّأس غالبًا... فكيف آكل اللَّحم، ومن يقنعني أنَّني لا آكل قطعة ذراع صديقي التي طالما ضمني بها قبل دقائق من مقتله أمام عينيّ؟


  • [14] غادة السمان، كوابيس بيروت، ص 10-11-12.
  • [15] د. مراد عبد الرحمن مبروك، بناء الزّمن في الرّواية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص16.
  • [16]روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ص53.
  • [17] المصدر السابق نفسه، ص56.
  • [18] عدنان المحادين،: تيار الوعي في روايات عبد الرحمن منيف، ص127، 128. تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفري، ص56.
  • [19] المصدر السابق نفسه، ص128.م، ص٢٠
  • [20] د. مراد عبد الرحمن مبروك، بناء الزمن في الرواية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 16.

عدت وفتحت الثَّلاجة فقد يكون فيها بعض الخضار المجلَّدة المحفوظة، لكنَّني فوجئت برأس مقطوع متجلِّد مسلوخ الجلد...

وبدأت أصرخ.. وأصرخ.. وأصرخ.. وعبثًا حاول شقيقي إقناعي بأنَّ ما أراه هو رأس خروف مقطوع ولا رأسًا بشريًّا.. وحمل الرَّأس المقطوع غاضبًا وقال إنِّه سيهبط إلى بيت جارنا العم فؤاد في الطَّابق الأوَّل من البيت العتيق كي يُطبخ هناك ودعاني للحاق به.. الجثث، وبعضها لم يمت تمامًا، وما زال يصرخ... وينتحب وينتظر على أرصفتها.. أحسست أن جميع ثلاجات بيروت لم تعد صالحة لغير حفظ جثث القتلى المجهولين.. المرميين في الشَّوارع.."[21]

من خلال هذا التداعي الطويل والأفكار المضطربة التي استخدمت فيه الرِّوائيَّة إحدى تقنيات تيَّار الوعي (مناجاة النَّفس) فبدأت بمونولوج داخلي مباشر معبِّرة عن وجهة نظر خاصة بها، حيث دلّلت على موقفها تجاه الكائنات الحيَّة أيًّا كانت، فأحد أهم مميّزات هذه التقنية هو أنَّ الرِّوائي يحاول أن يدع لنفسه مجالًا للظّهور في حين أنّه في التقنيات السَّابقة يختفي خلف الشَّخصية، ولم يكون له ظهور صريح فهي تحاول أن تعلِّل عدم قدرتها على إيذاء أيِّ كائن مهما كان، "ويكتشف القارئ أنَّه داخل أفق دلاليّ احتماليّ مفتوح قابلٍ لمستويات متعدّدة من التَّأويل"[22] .

وتعود لتعضّد موقفها بصورة علميَّة لتصور لنا بمونولوج غير مباشر حين تحدَّثت بلسان البروفيسور (لورين إيشلي) -وهما المتقاربان في الرّؤية- الذي حدَّث رفيقه حين زلَّت قدمه ونزف فمه؛ ما أدى لإزهاق عدد كبير من كريات الدَّم الذي اعتذر منها، فهي تمزج بين المونولوجين الدَّاخلي والخارجي من خلال حديث البروفيسور لتدلّل على القدرة على توصيل الفكرة من وجهات نظر متعدّدة. فهي أيضًا حين يهديها أحدهم باقة من الزّهور فقد يكون أزهق حياة مجموعة من الكائنات لإسعاد شخص آخر. فهي تعود لتشعر بقلق مفرط حيث تتأرجح بين العنف واللَّاعنف، وعليها أن تصل لنتيجة فارقة بين طرفي صراعها الدَّاخلي، فهل العنف هو حاجة غريزية للإنسان أم هو محض إشباع رغبة أو نزوة؟ لكنَّ كل هذه الأسئلة أزالها يقينها الوحيد، بأنَّ أخاها وشريكها في المنزل قد استشاط غضبًا من شدِّة الجوع الذي بدأ بفتك به، وهي التي وقعت في حيرة بدا أنَّها حسمت أمرها ولم تعد قادرة على أكل البطاطا (الحيَّة) التي قالت له إنها (فاسدة)، وهي التي أصبحت عاجزة عن أكل اللحوم أيًّا كان نوعها بسبب ما شاهدته من جثث القتلى خلال الفترة الماضية، فالحرب الطَّاحنة التي تدور حول المسلخ لم تعد تترك فرصة ليقوم أحد الجزارين بعمله، فالمفارقة بأنَّ اللحم البشريّ ملقى في الشَّوارع، وما يدريها أن تأكل يد رفيقها التي طالما غمرتها بالدِّفء والحنان، أمَّا اللّحم الحيواني فقد أضحى شيئًا نادرًا، لكنَّها عادت لفتح الثَّلاجة التي يوجد فيها مخزون لا بأس به من اللحوم، في محاولة منها تُعدّ يائسة علَّها تجد شيئًا من الخضار المجلَّدة، لكن لا جدوى فقد ارتفع صراخها بصورة ملفتة، حيث باءت محاولات شقيقها بإيقاف صراخها بالفشل، ما جعله يهبط لبيت جاره ليطبخه هناك. فهي تسقط من خلال حديثه النَّفسي على عوالم بيروت، التي أضحت مثل ثلاجة الموتى التي ملئت بالجّثث التي لا يزال بعضها يحتضر، على أنَّ كل ثلاجات بيروت أصبحت غير قادرة على استيعاب الأطعمة بل الجثث التي فاقت كل طاقة على الاستيعاب.

الخاتمة

يمكننا القول ونحن نحاول الخروج مما قد بدأناه في دراسة بعض التقنيات المستخدمة في رواية تيار الوعي إن هذا النوع قد استطاع سبر أغوار الذات البشرية، مُقدمًا إياها على حقيقتها، رغم ما يُقال إنها تصطحب لغة بالغة التهجين ما يصل بالسرد لدرجة الغموض، للغتها السردية الشعرية العالية، لكنا نشفع ذلك كونها متميزة بطريقتها وتقنياتها عن باقي الأصناف السردية الأخرى.

دافعةً حركة الكتابة السردية نحو منطقة أرحب تدع للنفس مساحة كافية للتعبير، لتكون منطقة فاصلة واصلة من حيث ابتعادها عن الواقع والمعاش ورؤيتها له بطريقة مغايرة تمثل ببعض الأحيان لما يجب عليه أن يكون القول الحقيقي لكن كل ذلك يكون من خلال خلق عوالم روائية من لحم ودم لكن على الورق.

النتائج

1- وثقت رواية التّيار الصّلة مع المناهج النفسية، وجعلها ميدانًا للبحث النّقدي وإخراجها من هيمنة علم النّفس.

2- سبرت رواية تيار الوعي النفس البشريّة، واستطاعت الغوص في أغوارها واستبطانها.

3- أظهر البحث أهمية بعض الأساليب من اللُّغة الهجين التي استخدمتها المؤلفة في التعبير عن مكنون الشخصيات وسبر أغوار نفوسها.

3- أظهر البحث أهمية بعض الأساليب من اللُّغة الهجين التي استخدمتها المؤلفة في التعبير عن مكنون الشخصيات وسبر أغوار نفوسها.

5- قدمت أنموذجًا يمكن البناء عليها وتطويره؛ لتداخل العلوم والفنون الأخرى مع الفنون السردية وبخاصة الرواية التي مثّلت وعاءً يمكن سبر فيه العلوم النفسانية التي تجد رحابةً أكبر من خلال تسخيرها ضمن نطاق يتجه نحو الشيوع بصورة أكبر مما هو عليه ضمن الكتب والدراسات العلمية.

6- لرواية تيار الوعي قدرة على الاتصال بالقارئ بصورة مباشرة من خلال هامش الحرية الكتابية الكبير الذي يُنتفى من خلال سلطة الروائي نوعًا ما، حيث يفسح المجال أكثر فأكثر للشخصيات الروائية في الامتزاج بواقع القارئ المعاش.


    المصادر والمراجع
  • 1- ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1414ه/ 1994م، ط3، ج13.
  • 2- الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار بيروت، دار العلم للملايين، 1407هـ‍/ 1987م، ط4، ج2.
  • 3- السيوطي، تدريب الراوي، دون مكان، دار طيبة، دون تاريخ، ط1، ج1.
  • 4- الرواية العربية ورهان التّجديد، محمد برادة، دبي الثّقافية، دار الصّدى للصّحافة والنّشر والتّوزيع، 1431ه/ 2011م، ط1.
  • 5- إبراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبية، صفاقس، العمالية للطباعة والنشر، 1406ه/ 1986م، ط1.
  • 6- أنطونيوس بطرس، الأدب تعريفه أنواعه مذاهبه، طرابلس، المؤسّسة الحديثة للكتاب، دون تاريخ، ط1.
  • 7- جميلة الشمري، مفهوم التيارات الفكرية، دراسة.
  • 8- حسن عليان، الرواية والتّجريب، دمشق، مجلة جامعة دمشق، العدد الثاني، 1427ه/2007م.
  • 9- خليل الموسى، آفاق الرّواية بنية وتاريخًا ونماذج تطبيقية، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1422ه/ 2002م، ط1.
  • 10- عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية تقنيات السرد، الكويت، عالم المعرفة، 1418ه/ 1998م، ط1.
  • 11- عباس عبد جاسم، ما وراء السرد– ما وراء الرواية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2005 م، ط1.
  • 12- عبد الله إبراهيم، أعراف الكتابة السردية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2019 م، ط1.
  • 13- عبده ميخائيل، خمس حالات من التحليل النفسي، فرويد، ترجمة صلاح مخيمر، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، دون تاريخ، ط1، ج2.
  • 14- عدنان المحادين، تيار الوعي في روايات عبد الرحمن منيف، دراسة.
  • 15- غادة السّمّان، كوابيس بيروت، منشورات غادة السّمان، بيروت، لبنان، 1976م.
  • 16- فرجينيا وولف، جيوب مثقلة بالحجارة، ترجمة فاطمة ناعوت، المشروع القومي للترجمة، القاهرة 2004، عدد 761، ط1.
  • 17- روبرت همفري، ترجمة محمود الربيعي، تيار الوعي في الرواية الحديثة، دون مكان، دار غريب للطباعة والنشر، 140ه/2000م، ط1.
  • 18- صلاح أحمد الدوش، الشخصية القصصية بين الماهية وتقنيات الإبداع، أمارا بارك، المجلد رقم 7، العدد رقم 20.
  • 19- طويل سعاد، تيار الوعي في رواية خويا دحمان، مجلة المخبر، جامعة محمد خيضر، بقسم الأدب العربي، 1429ه/ 2009م، العدد الخامس.
  • 20- لطفي زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، بيروت، دار النهار للنشر، 1422ه/2002م، ط1.
  • 21- محمد حسن طبيل، تحوّلات الرواية التاريخية في الأدب العربي، الجامعة الإسلامية، غزة، 2016م.
  • 22- محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار الثقافة، دار العودة بيروت.
  • 23- معجم الأدباء، ياقوت الحموي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1414 هـ/ 1993م، ط1، ج2.
  • 24- محمد علي الشوابكة، السّرد المؤطّر في رواية النّهايات لعبد الرحمن منيف، منشورات أمانة عمان الكبرى، 2006م.
  • 25- محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار الثقافة، دار العودة، بيروت، 1973.
  • 26- مراد عبد الرحمن مبروك، بناء الزّمن في الرّواية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998.
  • 27- مراد عبد الرحمن مبروك، بناء الزمن في الرواية المعاصرة، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، 1989 م، ط1.
  • 28- منيرة بنت سليمان، تيار الوعي في روايات رجاء عالم، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في الدراسات الأدبية، جامعة القصيم، 1432ه/2011م.
  • 29- نجيب محفوظ، الرواية الواقعية، مجلة النهار العربية، عدد 99، 11/05/1988م.

  • [21] غادة السمان، كوابيس بيروت، ص 23، 24.
  • [22] 22 عباس عبد جاسم، ما وراء السرد– ما وراء الرواية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2005 م، ط 1، ص 69.