استجابات الجمهور لقصائد أبي العتاهية في كتاب الأغاني دراسة ضمن مشروع بلاغة الجمهور

رحمة القرشي

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

إن الدراسات في حقل الجمهور هي وليدة هذا العصر، فالحضور الجماهيري طاغٍ، بل كاد يلغي مكانة المتكلم، ويغير خطابه بما يتلاءم مع فكره وثقافته، وجمهور الشعر العربي القديم هو جمهور نخبوي، فما قبله ذاع صيته وخُلِّد، وتناقلته الجماهير في مجالسها الخاصة والعامة، فالقبول مبني عندها على أسس بلاغية ولغوية.

إن الجمهور المتلقي ركن أساس في العملية الإبداعية، وقد حرص تراثنا الأدبي العربي على الجمهور؛ فاختار ما يتناسب مع حاله من ضروب القول. وقد أولت البلاغة العربية اهتمامها بالمتكلم؛ فاعتنت به، وبخطابه الذي يروم به إقناع المخاطَب، والتأثير فيه، واهتمامها بالطرف الثالث كان محفوفًا بالحذر؛ لأنه المقصود بالتأثر، وقد تنبه الجاحظ في تعريفه للبيان لهذا المخاطَب؛ الذي كان يخشاه ويحذر منه، ويدعو المتكلم إلى مراعاته؛ إذ يقول: "حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان"[1]. يلاحظ أن الجاحظ هنا قد اهتم بمخاطب خاص وفاعل في العملية الخطابية، فالهجوم يدل على تحرك مضاد.

إن هذه الدراسة تتصدى لاستنطاق جملة من الاستجابات، التي تشكلت حول الخطاب الشعري العربي القديم عن أبي العتاهية، وهذه الاستجابات تمثل المتلقين الأوائل، الذين عاصروا ولادة النص الشعري، وتلقوه شفهيًّا، وتباينت مواقفهم من النص وقائله، وهذا التوجه يكسب الدراسة أهميتها، من حيث إنه: يمثل أول اختبار لقيمة النص الجمالية، وأول إدراك مبدئي لطبيعته، وسماته، ومؤثراته.

ولو أردنا التعرف على التاريخ الذي بدأ فيه الاهتمام بالدراسات المتعلقة بالجمهور لوجدنا أن الدراسات حوله قد ارتبطت بالقرن التاسع عشر الميلادي وما تلاه، من تطورات متسارعة في التقنية الاتصالية، وقد وصف جلال أمين هذا العصر قائلًا إنه: "عصر الجماهير الغفيرة". ويلاحظ أن الدراسات قد ألغت تأثير الجمهور قبل القرن التاسع عشر، وكأن الحراك والتأثير الجماهيري بدأ منه، وزاد بعد تطور وسائل الاتصال؛ بسبب وجود منابر لكل فرد من أفراد الجمهور.

وقد ظهرت دراسات حديثة، درست تأثير الجمهور على الأديب وأدبه، وهي دراسات قليلة، تستعين بالنظريات والمعارف الإنسانية الأخرى، وتقترض منها؛ للإجابة عن أسئلة الدراسة التي فرضتها طبيعة العصر، وموضوعه.

والشعر العربي أدب جماهيري، إذ هو فن نشأ في كنف الجمهور، ودراسة تأثير الجمهور فيه أولى؛ لأن المدونات العربية احتفظت باستجابات الجمهور التي كان لها بالغ الأثر في مسيرة تطور الشعر العربي، وضعفه في مراحل زمنية معينة.

إن فكرة البحث -وفق ما ينص عنوانها-، تدرس:

الاستجابات التي صدرت من الجمهور، وكان لها دور رئيس في مسار تطور الشعر العربي وضعفه في مراحل زمنية، ولا يقصد بالجمهور ذلك المتلقي المتخيل في الحكاية، إنما الجمهور الفعلي الذي أصدر استجابات لفظية، وغير لفظية، شهدت كتب التراث على وفرتها، ونقتصر في هذا البحث على استجابات الجمهور (اللغوية، وغير اللغوية) لقصائد أبي العتاهية، وذلك في كتاب الأغاني للأصفهاني، الذي عكس نوع الجمهور، واحتفظت مدونته باستجابات وسرديات تبين نوع الجمهور وخلفيته.

ولهذا الموضوع أهمية قصوى في الدراسة النقدية الحديثة، إلا أنه لم ينل عناية الباحثين والدارسين؛ إذ جاءت الإشارات إليه خجولة؛ واقتصرت دراسة الاستجابات في تراثنا الأدبي على: تأييد شعر الشاعر، أو إثبات تفوقه، ولم ينظر إليها على أنها مؤثرة وحقيقة بالدراسة، فهي استجابات بقيت حبيسة المدونات العربية، وهذا البحث يأخذ على عاتقه: إبرازها، والكشف عنها، وتحليلها.

ومن أسباب اختيار الموضوع هو: إبراز تأثير الاستجابات في تطور الشعر العربي، واحتواء المدونة العربية -محل الدراسة- على استجابات ضخمة، لم تأخذ حقها من الدراسة، وإقرار النقاد بتأثير متلقي الخطاب الشعري في الشعر العربي القديم. والوقوف على ملامح تأثير الجمهور في سير الخطاب الأدبي العربي القديم.

يهدف البحث إلى: التعرف على بلاغة الجمهور، وأهدافها، ووظيفتها، والتعرف على استجابات الجمهور في المدونة العربية عند تلقي نصوص أبي العتاهية.

منهج البحث

سيقتصر هذا البحث -بمشيئة الله- على تطبيق آليات بلاغة الجمهور. ويُعدّ امتدادًا للدراسات المنضوية تحت مشروع بلاغة الجمهور، حيث يستعير أدواته المنهجية من الدكتور عماد عبد اللطيف صاحب المشروع، والدراسات التي تنتمي لهذا الحقل، ومن أمثلة ذلك دراسات وبحوث الدكتور عماد عبد اللطيف، مثل كتاب: بلاغة الحرية، ولماذا يصفق المصريون.

الدراسات السابقة

هناك دراسة يتيمة ضمن مشروع بلاغة الجمهور، درست استجابات الجمهور في الأدب العربي القديم، وهي:

- محمد، ميس فرات، (رسالة ماجستير)، بعنوان: بلاغة الجمهور في النص التراثي: كتاب الأغاني للأصفهاني نموذجًا، من جامعة البصرة، ٢٠٢١م.

مدونة الدراسة

ستضم الدراسة كل استجابة كانت ردة فعل على الخطاب الشعري لأبي العتاهية، سواء أكانت في مجلس عام، أم في أسواق العرب، أم حوارات الشعراء، أم استجابات المجاهيل، كأن يقول الناقد (سئل القوم). وكل استجابة وظفها النقاد لخدمة النص أو الحكم عليه.

وقد قامت فكرة الدراسة على المدونة العربية؛ التي رصدت استجابات (أبي العتاهية)، متمثلة في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني[2].

التمهيد

تحاول بلاغة الجمهور إعادة ترسيم حدود البلاغة العربية، وذلك بالانفتاح على خطابات الحياة اليومية، وجعل البلاغة علمًا بينيًا تتلاقى حوله علوم الاتصال والاجتماع والسياسة والأنثروبولوجيا وعلم النفس، وتحليل الخطاب[3]، وتعد بلاغة الجمهور تخصصًا فرعيًا لدراسات الخطاب مهمتها دراسة بلاغة الجمهور أثناء تلقيها لخطاب ما[4].

وتفترض (بلاغة الجمهور) أن الخطابات الجماهيرية هي خطابات وظّف منشؤوها اللُّغة بكيفيات معينة، قد تتضمن الخداع والتضليل؛ لمحاولة السيطرة والهيمنة والتأثير أو الإقناع فيه، وترى أن الـمـُخَاطَب ليس طرفًا سلبيًّا في العملية الخطابية، بل فاعلًا فيها، فبالإضافة إلى قيام الـمُخَاطَب بتفسير نص من نص المتكلم وتأويله وإنتاجه، فإن باستطاعته إحداث تغيير جوهري في نصِّ المتكلم من خلال استجابته، ويمتلك الجمهور في بلاغة الجمهور القدرة على التفريق بين الخطاب السُّلطوي الذي يحاول السيطرة عليه، والخِطاب غير السُّلطوي الذي يحاول تحريره، وكشف الطريقة التي تستخدم بها الخطابات اللُّغة؛ ليقلل من قدرتها على تحقيق أغراضها، وهذا يتطلب أهمية وعي من المُخَاطَب في الكشف عن الطريقة التي تستخدم بها الخطابات اللغة لمحاولة الهيمنة[5].

ووظيفة بلاغة الجمهور هي: دراسة الاستجابات الفعلية والمحتملة التي ينتجها الـمُخَاطَب أثناء تلقيه لخطاب ما وبعده، وتعنى بالبحث في العلاقات بين الظواهر اللُّغوية المكونة للخِطاب وأساليب السيطرة عليه، والاستجابة الفعلية التي ينتجها المستهدفون بالخِطاب، سواءً أكانت استجابات لُّغوية أم غير لُّغوية، ودراسة العلاقة بين السلطة واستجابات الجمهور وأساليب التلاعب بها[6].

كما تدرس بلاغة الجمهور "الاستجابات البلاغية الفعلية والمحتملة للجمهور الذي يتلقى خطابًا بلاغيًّا عامًّا"[7]، سواءً في الفضاء العمومي أو الافتراضي، ويُعدّ الخطاب الجماهيري موضوعًا قامت عليه بلاغة الجمهور؛ فهي معنية بالاستجابات التي يصدرها المواطنون في حياتهم اليومية عند تلقيهم أي نوع من الخطابات، فالجمهور يتعرض لخطابات شبه يومية تختلف فيما بينها وتكون إما خطابات مهيمنة تحاول السيطرة عليه، وإما خطابات غير سلطوية تحاول تحريره[8].

وترصد بلاغة الجمهور استجابته للخطاب الأصلي، وطرق استهلاكهم له، ودرجة تلقيهم له في الفضاءات العمومية والفضاءات الافتراضية، ومحلل بلاغة الجمهور لا يقف عند استهلاكه والاستجابة له، ولا عند قوته اللغوية وسلطته في التغيير، إنما يتجاوز ذلك إلى إجهاض التحكم في استجابة مستهلكيه[9].

بلاغة الجمهور هي تصور عكسي للبلاغة الإنشائيّة، إذ تُعيد تعريف البلاغة، وأطرافها، والمهارة البلاغية، فالبلاغة من منظور بلاغة الجمهور هي: "العلم الذي يقوم بتحديد مهارات إنتاج الخطاب غير السلطوي، ويمرن على ممارستها، ويحدد خصائص الخطاب السلطوي، ويمرن على مقاومته"[10] (وعرَّفت المتكلم البليغ بأنه "من يقوم بإنتاج خطاب غير سلطوي"[11]، وأضافت تعريفًا للمُخاطَب هو: "مَن يقوم باستجابات بليغة"[12] كما عرَّفت المهارة البلاغية بأنها: "الاستخدام غير السلطوي للغة، وإنتاج استجابات بليغة"[13].

ولبلاغة الجمهور أهداف وغايات بدأت مع البواكير الأولى لنشأتها، وتتشكل الغاية الأولى في انتقالها من المتكلم إلى الـمُخَاطَب، فبدأ الرهان على الجمهور بوصفه طرفًا أساسًا في الخطاب، لديه القدرة على الإنتاج والتفاعل.

وقد وظفت هذه الدراسة أدوات بلاغة الجمهور وفكرتها على خطابات الجمهور في تراثنا العربي، ذلك أن المتلقي العربي لم يكن سلبيًا في تلقيه؛ إذ أسهمت استجاباته في حركة تطور الشعر العربي.

بلاغة الجمهور عند العلماء العرب

اهتم العلماء العرب بالطرف الثالث في العملية الخطابية اهتمامًا أكاد أجزم أنه كان من أولويات النقاد، ولم تكن العناية بالمتكلم وكلامه إلا من أجل الطرف الثالث، الذي هو مركز الاهتمام في النقد العربي القديم، فالعناية بالمتكلم غايتها الطرف الثالث، والعناية بالخطاب هدفه الطرف الثالث، فهو مركز الدائرة التي بنيت الدراسات عليها.

وقد أظهر النقد الحديث ثروة المخزون التراثي العربي (البلاغي والنقدي)، وغناه بمفاتيح للعلم، وكنوز معرفية لا تبلى مع الزمن، بل أثبتت عبقرية العقل الفكري العربي، وفي هذه الدراسة نركز على عالمين اثنين، من علماء العربية، أحدهما قبل أن ينشأ علم البلاغة والآخر بعد أن اكتمل علم البلاغة وهما (الجاحظ، والقرطاجني). يمثل الجاحظ البدايات ويمثل القرطاجني آخر النقاد الكبار الذي بناء على ما قبله.


  • [1] 1الجاحظ، البيان والتبيين، ت: درويش جويدي، ط1، صيدا، لبنان، المكتبة العصرية، 2016م، ص 56/1.
  • [2] اعتمدنا هذه النسخة: الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق: إحسان عباس، بكر عباس، وآخرون، دار صادر، بيروت، لبنان.
  • [3] يُنظر، عبد اللطيف عماد، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، ضمن كتاب السلطة ودور المثقف، القاهرة، جامعة القاهرة، 2005م، ص 16.
  • [4] يُنظر، بكار، سعيد، في مفهوم بلاغة الجمهور، ضمن كتاب بلاغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات، ط1، البصرة، العراق، دار شهريار، 2017م، ص71.
  • [5] يُنظر، عبد اللطيف، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، مرجع سابق، ص17.
  • [6] يُنظر، عبد اللطيف، عماد، لماذا يصفق المصريون؟، ط1، القاهرة، مصر، دار العين للنشر، 2009م، ص59،58.
  • [7] المرجع السابق، ص58.
  • [8] يُنظر، بكّار، مرجع سابق، ص72،71.
  • [9] يُنظر، جبري، إدريس، في علاقة البلاغة العامة بالبلاغة الخاصة: بلاغة الجمهور عند عماد عبد اللطيف، ضمن كتاب بلاغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات، مرجع سابق، ص61.
  • [10] عبد اللطيف، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، ص20.
  • [11]  المرجع السابق.
  • [12]  لطيف، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، المرجع السابق.
  • [13]  المرجع السابق، 21.
أولًا: الجاحظ والعناية بالطرف الثالث

تمثل أفكاره النقدية والبلاغية، وأخص في هذه الدراسة كتاب الجاحظ (البيان والتبيين)؛ لأنه أرسى فيه قواعد البيان، ومن شذراته انطلق علم البلاغة، وفيه تحدث عن أعمدة البيان وهي: المتكلم والنص والمتلقي، قال أبو هلال العسكري عن كتاب البيان والتبيين، قولًا يلخص لنا التعريف بالكتاب: "وهو لعمري كثير الفوائد، جمّ المنافع لما اشتمل عليه من الفصول الشريفة، والفقر اللطيفة، والخطب الرائعة والأخبار البارعة، وما حواه من أسماء البلغاء، وما نبَّه عليه من مقاديرهم في البلاغة والخطابة"[14]، ولا تهدف الدراسة إلى إبراز العقلية العربية، أو إثبات حق السبق؛ فالدراسات العربية لم تصل إلى مرحلة النضج المنهجي الذي وصلته النظريات الغربية، وهدف الدراسة هو البحث عن أساسيات لبلاغة الجمهور، ومقارنات على مستوى المفاهيم، وذكر لمظاهر التلقي.

لقد تحدث الجاحظ عن المتلقي (السامع)، وهو ركن البيان، إذ عرف الجاحظ البيان بأنه: "اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحُجُب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل"[15] وقال معقبًا على تعريفه إن: "مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغتَ الإفهام، وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع"[16].

من خلال تعريفه لعلم البيان، فقد حدد وظيفة المُخاطَب، وهي الفهم والتّفهم[17] ويقول الدكتور محمد العُمري إن معنى البيان عند الجاحظ يتلخص في أن: "البيان معرفة: الوظيفة الإفهامية، والبيان إقناع: الوظيفة الإقناعية"[18]، وهاتان الوظيفتان على علاقة بالطرف الثالث.

لقد حدد الدكتور محمد المبارك، في كتابه: (استقبال النص عند العرب) أهم مبادئ اهتمام العرب بالمتلقي، وهي مبادئ وظفها الجاحظ واهتم بها، ومن أهمها:

أولًا: الصواب وإحراز المنفعة[19]: وهذا أحد مصادر التلقي عند العرب، وللقصد أهمية في الخطاب، وهو حمل المتلقي على فعل شيء أو تركه، ونقل الجاحظ عن بشر بن المعتمر: "مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة"[20].

ثانيًا: بزوز الشيء من غير معدنه: وبرز هذا عند الجاحظ، فاللذة والأريحية، والهجوم على المحصول، (التلقي المعاكس) تأتي من الغرابة، إذ يقول الجاحظ: "فإن هجموا منه على ما لم يحتسبوه، وظهر منه خلاف ما قدروه، تضاعف حسن كلامه في صدورهم، وكبر في عيونهم، لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم"[21]، هذه الغرابة تجعل النص مفتوحا للتأويلات، والفراغات التي يخلقها النص للقارئ، فتزيد من بحثه، وتجعل نيله للنص أكثر متعة لأنه "كلما كان أعجب كان أبدع"[22]، والمتلقون أكثر تعجبهم بالغريب الذي يعمق من بحثهم، ويفرحهم بمردود اكتشافهم وتأويلاتهم، "والناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البعيد"[23].

وأضيف -على المبادئ السابقة- مبدآن هما:

أولًا: حسن الموقع:

لقد عُنى الجاحظ بحسن الموقع، وهو أداة من أدوات الإقناع والتأثير، فالكلام لا يكون مقبولًا، إلا بحسن الموقع في القلب والسمع، و"جماع البلاغة حسن الموقع"، ودل الجاحظ المتكلم على قواعد التأثير، ومنها الاقتباس من الآية الكريمة، لما لها من حسن الموقع[24]، "وكانوا يستحسنون أن يكون في الخطيب، يوم الحفل، وفي الكلام يوم الجمع، آية من القرآن، فإن ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار والرقة، [25].

ثانيًا: بلاغة الاستماع تسبق بلاغة الكلام:

وهو أساس من أسس (الهجوم على المحصول)، ومن "لم يحسن الاستماع لم يحسن القول"[26]، فتلقي العمل والأصغاء إليه شرط من شروط التلقي، ولا يستحق الكلام اسم بلاغة "حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"[27]، والتدبر في الكلام من شروط التلقي، ولقد أفاض الجاحظ في فضيلة الاستماع، "حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم"[28].

وقد أولى الجاحظ مراعاة مقتضى الحال عناية كبيرة، ونقل أقوالًا تذهب إلى أن مراعاة مقتضى الحال أهم ما ينبغي أن يتمسك به المتكلم عند إنشاء خِطابه[29]، وقال نقلًا عن بشر بن المعتمر قولًا يدعو إلى مراعاة حال المخاطبين "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينهما وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات[30]، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات"، ومن رحم مراعاة المقام، تحدث عن المعرفة بساعات القول، والإيجاز، إذ يقول: "جماع البلاغة التماس حسن الموقع والمعرفة بساعات القول، وقلة الحرف بما التبس، من المعاني أو غمض وبما شرد عليك من اللفظ أو تعذر، وزين ذلك وبهاؤه، وحلاوته، وسناؤه، أن تكون الشمائل موزونة، والألفاظ معدلة، [31].

وهناك نوع من المُخاطب لم يتوقف عنده الجاحظ في كتابه كثيرًا إلا في (تعريفه للبيان)، وهو المُخاطَب المتفاعل إذ يقول: "حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان"[32] نجد الجاحظ في هذه العبارة اعتنى بمُخَاطَب خاص فاعل في العملية الخطابية، فهو لا يتأثر فحسب إنما يؤثر؛ فالهجوم يدلُّ على تَحرُكٍ مُضاد، وهذه العبارة تدل على مشاركة المُخَاطَب للمتكلم مشاركة فعلية بعد فهم المقصود، والجاحظ إذ يضع هذا الاعتبار للمُخاطَب في تعريف علم البيان؛ ليدلل على أهميته، وأن نجاح المتكلم (الخطيب) مبني على قدرته في تحريك المُخاطبين والتأثير فيهم. وعلى ضوء ما سبق، نجد أن عناية الجاحظ بالمُخَاطَب تهدف إلى إقناعه والتأثير فيه.

مظاهر التلقي عند الجاحظ:

برزت مظاهر التلقي في كتاب (البيان والتبيين) بصور متفرقة، فمن مظاهر التلقي الغموض، وهو يقابل -برأيي- أفق التوقع في نظرية التلقي، حيث أشار إلى قدرة البلاغة على تحوير الحقائق، وتصوير الباطل في صورة الحق[33] ، إذ يقول: البلاغة إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق" ويخيّب الخطاب الذي يخالف فهم المتلقي، وعبارة (تصوير الباطل في صورة الحق) لا تحمل تعريفًا للمهارة البلاغية بقدر ما تدل على إثارة البلاغة للمتلقي وكسر أفق توقعه، ويدخل في هذا الباب ما تحدثنا عنه سابقًا (بروز الشيء من غير معدنه).

ومن مظاهر التلقي عن الجاحظ مراعاة الطبقات، إذ نقل تعريفًا للبلاغة عند الهنود، "أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة. ولا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة"[34]، ومراعاة الطبقة الثقافية شرط من شروط التلقي، والبليغ من يستطيع أن يفهم العامة معاني الخاصة، ويكسوها من الألفاظ الواسطة، التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء[35].

البيان ووضوح الدلالة مظهر من ظاهر التلقي، إذ تحدث الجاحظ عن البيان القرآني، وما فيه من "استمالة الأسماع"[36]، "فبأي شيء بلغت الأفهام، وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان"[37]، والبيان عند الجاحظ منزلة رفيعة، واستشهد بدلائل من القرآن الكريم، تبين أهمية البيان والتبيين، والبيان عنده هو حُسن التعبير ووضوح المقاصد، "والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي، هو البيان الذي سمعت الله عز وجل يمدحه"[38].

ومن أوجه الوضوح عند الجاحظ العدول عن اللفظ الصريح إلى الكناية، إذا كان الإفصاح أوعر طريقة، وأبلغ من اللفظ الصريح؛ لما فيها من إثارة المتلقي، وتجعل الظفر بالمعنى أوقع أثرًا[39].

الإشارة واللفظ، مظهران من مظاهر التلقي، فقد تدعم الإشارة اللفظ، وتنيب عن الإبانة، وقد تكون أداة من أدوات الإيصال والإقناع، "والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تغني عن الخط"[40] والإشارة طبقات في دلالاتها، وصورها، وعرض لنماذج الإشارة، وتكون بالحاجب أو الطرف، أو السيف، وغير ذلك من الجوارح، فالإشارة فعل من أفعال الكلام، تكون ردعًا أو وعيدًا أو تحذيرًا أو خوفًا أو مدحًا.

إن مظاهر التلقي مبثوثة في كتاب (البيان والتبيين)، وقد أولى الجاحظ المتلقي عناية كُبرى، فهو عمدة البيان، وركنه المقصود، وقواعد البيان التي وجهها إلى المتكلم وبيانه، قصد بها المتلقي.

ثانيًا: مظاهر العناية بالطرف الثالث عند القرطاجني

لقد أنتج كتاب حازم القرطاجني مادة بلاغية ونقدية، ثابر النُّقاد في إبرازها، وتبين من خلال الحفر في كتاب منهاج البلغاء غنى المنهاج، بالمادة الجديدة، وأثبت تهافت النقاد إلى الحفر عن نوعية المادة، ومناسبتها للخطابات المتجددة، وهذا -برأيي- دلَّ على أسبقية القرطاجني، وتأسيسه للنظريات التي اكتمل بناؤها في المدارس الغربية.

الجمهور عند القرطاجني:

توقف القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) عند جمهور المتلقين، ولم يجعل لفظة جمهور حِكرًا على الخِطابة، بل نجده يتحدث عن جمهور الشِّعر، وقسمه إلى:

1- جمهور من العامة.

2- جمهور من الخاصة.

ولقد وردت كلمة جمهور في منهاج البلغاء ما يربو على خمس وعشرين مرة، وذكرت مرادفات لها تحمل ذات الدلالة، مثل: العامة، والخاصة، وجميع الناس، والسامعين، ويأتي مصطلح جمهور عنده مرادفًا (للعامة)، ويخالف نهجه ويجعل الجمهور هو (العامة والخاصة). وقسمت الدراسة الجمهور بحسب وروده في أقوال القرطاجني أقسامًا:

أولًا: الجمهور والتأثير: وذلك من خلال رعايته لمقامه، وعلى المتكلم أن يورد ما يتناسب مع مقام الجمهور، وأن يميز بين أنواع الجمهور المتلقي لشعره، فيأتي بما يتناسب معه، فهناك أمور يشترك في معرفتها العامة والخاصة، وهي أمور فُطرت عليها النفس، وجُبلت على الاستلذاذ بها، أو النفور منها: "والأشياء التي يقال فيها خيرات وشرور، أو يتوهم أنها كذلك، منها أمور يشترك في معرفتها وإدراكها الخاصة والجمهور، ومنها أمور ينفرد بإدراكها ومعرفتها الخاصة دون الجمهور"[41].

ولتحقيق التأثير في الجمهور على (المتكلم) أن يورد أوصافًا متعارفًا عليها عند العامة والخاصة، فدعوة القرطاجني هذه تكشف عن هدف التأثير، وذلك من خلال دعوته إلى عدم الغموض والإتيان بأوصاف يشترك في معرفتها العامة والخاصة إذ يقول: "وجب أن تكون أعراق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان... وكانت نفوس الخاصة والعامة قد اشتركت في الفطرة على الميل إليه، أو النفور عنها"[42].

وقد قسم القرطاجاني المعاني بحسب نوع الجمهور إلى معان أوائل، ومعان ثوان، فمنها ما يصلح "أن تورد فيها أوائل وثواني ومنها لا يصلح أن تورد أوائل، ولكن تورد ثواني"[43]، والمعاني الواضحة المتعارف عليها عند الجمهور هي التي يصلح أن تورد فيها أوائل وثواني، التي تورد فيها ثواني دون أوائل هي المعاني الغامضة التي لا يعمم فهمها على سائر الجمهور[44]، هنا يتحدث القرطاجني عن نوعين من الجمهور، وعلى المتكلم أن يختار نوع جمهوره قبل إنشاء خِطابه.

كما قسم القرطاجني المتصورات بحسب نوع الجمهور قسمين:

1- المتصورات الأصيلة: وهي التي فطرت النفوس عليها، ويشترك في معرفتها الجمهور من العامة والخاصة[45].

2- المتصورات الدخيلة: وهي غير معروفة عند العامة، ولا يوجد لها في النفوس تقبلًا أو تأثرًا، ويعرفها نوع من الخاصة[46].

ثانيًا: طبقات الجمهور:

يُعدّ القرطاجني -بحسب ما طاله بحثي- أول عالم يتحدث عن (جمهور الشعر)، مقسمًا إياه إلى أربع طبقات، وذلك بحسب تنوع القراءات الجماهيرية للخِطاب، فلا تخلو الخِطابات الشعرية من الطبقات الآتية:

1- طبقة الجمهور الذي يفهم المعنى، ويتأثر به.

2- طبقة الجمهور الذي يفهم المعنى، ولا يتأثر به.

3- طبقة الجمهور الذي لا يفهم المعنى، ويتأثر به إذ عرفه.

4- طبقة الجمهور الذي لا يفهم المعنى، ولا يتأثر إذ عرفه[47].

ولا يستطيع المتكلم أن يراعي هذا الطبقات مجتمعة، ولكن عليه أن يورد: "اللفظ المستعذب وإن كان لا يعرفه جميع الجمهور، فهو مستحسنٌ إيراده في الشعر؛ لأنه مع استعذابه قد يفسر معناه لمن لا يفهمه"[48]. والقرطاجني حين يقسم الجمهور لا يكتفي بالجانب التأثيري، ولم تكن عنايته بالجمهور منكبة على هذا الجانب، ولا يكبل المتكلم بالجمهور، فهو طبقات، ولا يستطيع إرضاءها.

ثالثًا: الجمهور وشرط البلاغة والفصاحة:

لقد ذكر القرطاجني أن من شروط البلاغة والفصاحة التأثير في الجمهور، والتأثير يكون باستخدام الأساليب البلاغية والنفسية؛ ليصل المعنى إلى قلب الجمهور إذ قال: "من شروط البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور"[49].

وأشار إلى أنه لا يمكن أن يتألف كلام بديع عال في الفصاحة إلا من المعاني الجمهورية[50]، والمعاني الجمهورية هي: المعاني الأولى للألفاظ، وهي أسس الكلام، أي: هي الألفاظ السطحية، ومنها يكون الانتقال إلى المعاني الاصطلاحية، وهي كذلك المعاني المتعارفة، التي يدركها العامة والخاصة[51].

نستخلص مما سبق، أن نظرة القرطاجني للجمهور هي نظرة مغايرة عما هو متعارف عليه عند سابقيه، فدائمًا ما ينظر إليهم بأنهم مجموعة من الحشود المُحرَكة، التي لا تحمل معارفًا وقدرات، ويمتلك الخطيب القوَّة البلاغية في توجيههم، أما من منظوره فهم طبقات يستطيع الشاعر أن يوازن بينهم في نصه، وليس ملزمًا برعايتهم، فهو أمام جمهور يحمل أفكارًا وروئ، ولا يكون حاجزًا أمام إبداع المتكلم؛ لأن الغاية ليست إقناعية.

ولا بدَّ من الإشارة إلى أن هذه المدونة مدونة ضخمة، ولا يفي جزء من مبحث بإعطائها حقّها، والدراسة لم تحصر كل الوقفات التي خُصَّ بها طرفا الخطاب، ولكنها حاولت أن تركز على الجمهور بوصفه متلقيًا له مركزيته في الخِطاب الشعري.

أشكال الاستجابات في الشعر العربي القديم

أولًا: الاستجابات اللغوية:

أولًا: استجابات إسقاطية: وهي "القراءة التي تتعامل مع النص من الخارج، تمر عليه متجهة نحو المؤلف، أو ملابسات النص المختلفة، وهي قراءة تعنى بالخارجي أكثر من الداخلي" ومن مثال ذلك[52]:

قال أحمد بن حرب عن شعر أبي العتاهية: "كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد، وإن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما، وإن العالم حديث العين، والصنعة لا محدث لها إلا الله. وكان يزعم أن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعًا، وكان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعًا، وكان يقول بالوعيد وبتحريم المكاسب ..."[53].

 إن هذا النوع من الاستجابات يحمل النص وصاحبه ما لا يحتمل، فالمستجيب من خلال ما يعرفه ويفهمه من قصائد أبي العتاهية، أوّل النصوص وأسقطها على الشاعر، وبالغ في إسقاطاته.

ومن الاستجابات الإسقاطية، كان الفضل بن أبي الربيع من أميل الناس إلى أبي العتاهية، إلى أن أنشده، يتحدث عن العبر وأن الأيام دول:

ولى الشباب فما له من حيلة

وكسا ذؤابتي المشيب خمارا

أين البرامكة الذين عهدتهم

بالأمس أعظم أهلها أخطارا


  • [14] العسكري، أبو هلال، الصناعتين، ط١، مكتبة الثقافة الدينية، ٢٠١٧م، ص١٠.
  • [15] الجاحظ، البيان والتبيين، ت: درويش جويدي، ط١ المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، ٢٠١٦م، 1/56.
  • [16]المصدر السابق.
  • [17]  لم يصرح الجاحظ بهذه الوظيفة، ولم يحددها، ويطلق عليها (وظيفة) إنما هي ظاهرة في تضاعيف كتابه، إذ يقول إن "مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام" ونستطيع أن نقول إن هذه من الوظائف الأساسية للمُخَاطَب عنده، والفهم هو: العلم بالشيء فهمت الشيء، أي: علمته، (الجواهري، معجم الصحاح، ص826)، والتفهم هو: التقبل، وتفهم الكلام، أي: فهمه شيئًا بعد شيء، وفهمت الشيء عقلته وعرفته، والفهم هو: معرفتك الشيء بالقلب.  يُنظر، ابن منظور، لسان العرب، مادة: (فهم)، ص٧/١٨٣.
  • [18] العُمري، محمد، البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، ط1، (الدار البيضاء: المغرب، أفريقيا الشرق، 2010)، ص295.
  • [19] المبارك، محمد، استقبال النص عند العرب، ط١، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩٩٩م، ص٢٠
  • [20]  البيان والتبيين، مصدر سابق،١/٩١.
  • [21] المصدر السابق، ١/٦٤.
  • [22] المصدر السابق،١/٦٤.
  • [23] المصدر السابق،١/٦٤.
  • [24] المصدر السابق،١/٦٣.
  • [25] البيان والتبيين، مصدر سابق، ١/٨٠.
  • [26] المصدر السابق، ١/٧٨. 
  • [27] المصدر السابق، ١/٧٨.
  • [28]المصدر السابق، ١/٧٨.
  • [29] يُنظر، مطلوب، أحمد، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، ط1، (بيروت، لبنان: الدار العربية للموسوعات، 2006م)، 243/3.
  • [30] البيان والتبيين، مصدر سابق، ص1/92.
  • [31]  المصدر السابق، ١/٦٣.
  • [32] المصدر السابق، 56/1.
  • [33] البيان والتبيين، مصدر سابق، ١/١٣٨.
  • [34] البيان والتبيين، مصدر سابق، ١/٦٥.
  • [35] يُنظر، المصدر السابق، ١/٩١.
  • [36] السابق، ١/١٢.
  • [37] السابق، ١/٥٦.
  • [38]السابق، ١/٥٦.
  • [39] السابق، ١/٦٣.
  • [40] السابق، ١/٥٧.
  • [41] القرطاجني، حازم، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ط١ تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، تونس، دار الغرب الإسلامي، ص20.
  • [42] المصدر السابق. 
  • [43] المصدر السابق، 24.
  • [44] القرطاجني، مصدر سابق.
  • [45] المصدر السابق، ص25،24.
  • [46] المصدر السابق.
  • [47] المصدر السابق، ص21. 
  • [48] المصدر السابق، ص29
  • [49] المصدر السابق، ص25.
  • [50] المصدر السابق.
  • [51] ينظر، مطلوب، أحمد، معجم مصطلحات النقد العربي القديم، ط1، (بيروت، لبنان، مكتبة لبنان ناشرون، 2001م)، ص387.
  • [52] قصاب، وليد، مناهج النقد الأدبي الحديث، دار الفكر، دمشق، ط١، ٢٠٠٧م.
  • [53] الأغاني، مصدر السابق، 8/4.

فلما سمع ذكري البرامكة تغير لونه ورأيت الكراهية في وجهه، فما رأيت منه خيرًا بعد ذلك[54] إن أخذ النص على وجهه الحقيقي، وعدم النظر في قصد الشاعر، أدى إلى إسقاط المستمع النص على الفتنة التي وقعت مع البرامكة، وسقوطهم، وغض الطرف عما حمله البيت الأول والنص فهو يذكره ويستوعظه، باستذكار ما حلَّ بالبرامكة.

ثانيًا: استجابات ذوقية/ انطباعية:

والذوق هو: مصدر من ذاق الشيء يذوقه ذوقًا، والمذاق طعم الشيء، ومعناه حصول ملكة البلاغة للسان، والذوق السليم هو الذي هذبته الثقافة، والدُّربة، والرِّياضة[55]، ولأن النص نقل مشافهة برزت الاستجابات الذوقية، وتتميز الاستجابات الذوقية بميزتين: عدم التبرير، فجاءت انطباعية انفعالية، تعظم النص تارة وتعظم صاحب النص تارة أخرى. الثانية: استجابات ذوقية معللة، لا يكتفي بإصدار الذوق، بل يعلل ويذكر سبب استحسانه. ومن أمثلة الاستجابات الذوقية المعللة: "تذاكروا يومًا شعر أبي العتاهية بحضرة الجاحظ، إلى أن جرى ذكر أرجوزته "ذات الأمثال"، فأخذ بعض من حضر ينشدها حتى أتى على قوله:

يا للشباب المرح التصابي

روائح الجنة في الشباب

فقال الجاحظ للمنشد: قف، ثم قال انظروا إلى قوله: "روائح الجنة في الشباب"، فإن له كمعنى الطرب، الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة إلا بعد التطويل وإدامة التفكير. وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان، إلى وصفه. وهذه الأرجوزة من بدائع أبي العتاهية"[56].

إن الجاحظ وهو فرد من أفراد الجمهور، جاء نقده نقدًا ذوقيًّا معللًا، وأطلق في نهاية استجابته حكمًا على النص، بأنه من بدائع أبي العتاهية.

ومن الاستجابات الذوقية المعللة "ما ورد على لسان مصعب بن عبد الله إذ يقول: أبو العتاهية (أشعر الناس)، واستحق ذلك بقوله:

تعلقت بآمال

طِوال أي ِّ آمالِ

وأقبلت على الدنيا

مُلحا أي إقبالِ

أيا هذا تجهز لـــــــ

فراق الأهل والمالِ

فلا بد من الموت

على حالٍ من الحالِ

ثم قال: هذا كلام سهل حقٌّ لا حشو فيه ولا نقصان، يعرفه العاقل ويقر به الجاهل"[57]. تتميز الاستجابات الذوقية عامة بسطحيتها، لكن ما يلفت النظر في الجمهور القديم أنه يؤيد رأيه بالنماذج، فهو يصدر حكمًا عامًا ثم يبدأ يعلله. وهذه من الأسباب التي جعلت الشعر قويًّا، فالجمهور يعمل كعمل الناقد يميز جيد الشعر من رديئه. ومن أمثلة الاستجابات الذوقية لقصائد أبي العتاهية: رد أحد الناس في مجلس عن أبي العتاهية على من قال بضعف شعره: "ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر؟ فوالله ما رأيت شاعرًا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربًا من السحر، ثم أنشد له أبياتًا يعلل ما ذكره، وهي:

قطعت منك حبائل الآمال

وحططت عن ظهر المطي رحالي

... إلى آخر الأبيات

ثم سأل الرجل: هل تعرف أحدًا يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟[58]

لقد بدأ المستجيب بسؤال تعجبي: (ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر؟)، وبدأ يذكر نماذج بتقدم شعره، وتفوقه، وختم استجابته باستفهام تقريري، والاستفهام التقريري يحمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بالمقصود من السياق، وهو هنا التأكيد على تفوق أبي العتاهية. ومن الاستجابات الذوقية قول الأصمعي نقلًا عن حمد بن موسى يقول: سمعت الأصمعي يقول: شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى"[59] لقد شبه المستجيب شعره بساحة الملوك وهذه الساحة فيها الجيد والرديء الثمين والأقل ثمنًا.

ومن الاستجابات الذوقية غير المعللة التي كثر ذكرها، وهي استجابات تعظيم الشاعر وهو نوع من أنواع الاستجابات: يقول أعرابي: "أزعم أن أبا العتاهية أشعر أهل هذا العصر، ومثله قوله: "أبو العتاهية أشعر أهل الجن والأنس"، وقال عبد الله بن عبد العزيز العمري: أشعر الناس أبو العتاهية حيث يقول:

" ما ضر من جعل التراب مهاده ألا ينام على الحرير إذا قنع"

صدق والله وأحسن[60] .

ثالثًا: المواجهة/ كسر أفق التوقع:

وقد وجدت استجابات لم أجد لها مصطلحًا يفي بها في الكتب النقدية، وتحاول الدراسة وضع مصطلحات تتناسب مع أنواع الاستجابات المنثورة في كتب التراث. ومن أمثلة ذلك:

مواجهة الشاعر/كسر أفق التوقع: والمواجهة، هي: المقابلة. والمواجهة هي استقبال الرجل بكلام أو وجه[61].

وهو نوع من الاستجابات يرفض المتلقي: مقاصد، أو ألفاظ، أو معاني الشاعر، وتكون بالسؤال أو الرفض، وغالبًا ما تنتهي الاستجابة: بتمسك المستجيب برأيه، وغموض الشاعر في رده.

مثال ذلك: قال ثمامة بن أشرس أنشدني أبو العتاهية:

"إذا المرء لم يعتق من المال نفسه

تملكه المال الذي هو مالكه

ألا إنما مالي الذي أنا منفقٌ

وليس لي المال الذي أنا تاركه

إذا كنت ذا مالٍ فبادر به الذي

يحق وإلا استهلكته مهالكه

فقلت له: من أين قضيت بهذا؟ فقال: من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)، فقلت له: أتؤمن بأن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأنه الحق؟ قال: نعم. فقلت: فلم تحبس عندك سبعًا وعشرين بدرة في دارك، ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخرًا ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا معن، والله إن ما قلت لهو الحق ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس ... إلى أن قال المستجيب: فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام"[62].

ثانيًا: الاستجابات غير اللغوية: وهي استجابات غير لفظية، ولها تأثير يوازي تأثير الاستجابات اللفظية، وذلك مثل: الصمت، والضحك، والتصفيق، والهتاف، والهدايا/ العطايا. ومن الاستجابات غير اللغوية العطايا وهي أكثر الاستجابات انتشارًا في المدونة، حيث كان للشعر حضوره في مجالس الملوك والوزراء وعلية القوم، ومن أمثلة ذلك: كان للرشيد فرس اسمه (المشَمِّر)، فأمر الشعراء أن يقولوا فيه؛ فبدر أبو العتاهية:

جاء المشمر والأفراس يقدمُها

هونا على رسله منها وما انبهرا

... إلى آخر الأبيات، فأجزل صلته[63]، لم تكن العطية والمكافأة عادية، بل كانت فوزًا وجائزة، بدليل لفظة (أجزل)، فهذا العطاء مقرون بتفوق نص الشاعر، فالعطاء وجه من أوجه الرضاء والاستحسان.

ومن الاستجابات التي تأثر بها الخليفة فأصدر استجابة، وهي تدل على أهمية الشعر، واهتمام الساسة به، عندما سجن هارون الرشيد أبا العتاهية، فأنشد له أبياتًا:

أما والله إن الظلم لومُ 

وما زال المسيء هو الظلومُ

إلى ديان يوم الدِّين نمضي

وعند الله تجتمعُ الخصوم

قال: فبكى الرشيد، وأمر بإحضار أبي العتاهية، وإطلاقه، وأمر له بألفي دينار، يجتمع في هذا النموذج أربع استجابات وهي: (البكاء، وطلب حضوره، والأمر بفك أسره، والعطاء له).

لقد كان للشعر العربي قوّة تتمظهر في كيف يفعل الشاعر بالكلمات، فالقصيدة قادرة على فعل ما تعجز عنه المواقف الفعلية، وهذه القوة لها أرضية صلبة مستمدة من الجمهور ومن الخلفاء.

الخاتمة

تنوعت استجابات الجمهور لقصائد أبي العتاهية، وحصر كل الاستجابات أمر في غاية الصعوبة؛ نظرًا إلى ما يقتضيه مقام البحث، وأثار أبو العتاهية بشعره الجدل، فتنوعت الاستجابات حوله، وجعلت ردود الفعل لشعره قيمة، وذاع بها صيته، وكتاب الأغاني حوى بين دفتيه استجابات قيمة، أسهمت في معرفة نوع الجمهور الشعري في الأدب العربي القديم.
إن البحث في بلاغة جمهور الشعر العربي القديم، هو ملحظ ذكي ومهم؛ لأن المدونات العربية احتفظت باستجابات تؤكد أهمية الجمهور، وكان الاهتمام بالطرف الثالث جليًّا، في مصنفات الأدب ومصادره، فهو بوابة عبور النصوص وطريقها إلى الخلود، فبعض الاستجابات ربَّما تكون مختلقة من الناقد؛ ليدلل على إبداع المبدع، وهذه السرديات لو كانت مختلقة، فهي تعكس بلا أدنى شك الخلفية المعرفية والثقافية، وقدرة الجمهور ومكانته، وأهميته وموقعه من المبدع وإبداعه. ويوصي البحث بتتبع بلاغة الجمهور في النثر العربي، وأخص في هذا المقام السرديات التي كتبها جمال الدين ابن الجوزي في كتاب: (أخبار الأذكياء) فهذا الكتاب احتفظ بسرديات كان للجمهور حضوره.


    المصادر والمراجع
  • 1- ابن منظور، لسان العرب، ط1، دار الحديث، القاهرة، 2013م.
  • 2- الأصفهاني، أبو الفرج، كتاب الأغاني، تحقيق: إحسان عباس، بكر عباس، وآخرون، دار صادر، بيروت، لبنان، ٢٠١٩م.
  • 3- الجاحظ، البيان والتبيين، ت: درويش جويدي، ط1، صيدا، لبنان، المكتبة العصرية، 2016م.
  • 4- جلال، أمين، عصر الجماهير الغفيرة، ط1، دار الشروق، الأردن، 2003م.
  • 5- حاوي، صلاح، عبد الوهاب صديقي، وآخرون، بلاغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات، ط1، البصرة، العراق، دار شهريار، 2017م.
  • 6- عبد اللطيف، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته ضمن كتاب السلطة ودور المثقف، القاهرة، جامعة القاهرة، 2005م.
  • 7- عبد اللطيف، عماد، لماذا يصفق المصريون؟، ط1، القاهرة، مصر، دار العين للنشر، 2009م.
  • 8- العسكري، أبو هلال، الصناعتين، ط١، مكتبة الثقافة الدينية، ٢٠١٧م.
  • 9- العُمري، محمد، البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، ط1، الدار البيضاء: المغرب، أفريقيا الشرق، 2010.
  • 10- قصاب، وليد، مناهج النقد الأدبي الحديث، دار الفكر، دمشق، ط١، ٢٠٠٧م.
  • 11- المبارك، محمد، استقبال النص عند العرب، ط١، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩٩٩م.
  • 12- مطلوب، أحمد، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، ط1، بيروت، لبنان: الدار العربية للموسوعات، 2006م.
  • 13- مطلوب، أحمد، معجم مصطلحات النقد العربي القديم، ط1، بيروت، لبنان، مكتبة لبنان ناشرون، 2001م.

  • [54] الأغاني، مصدر سابق، ٧٠-٧١/٤.
  • [55] مطلوب، أحمد، معجم مصطلحات النقد العربي القديم، ط١، ناشرون، لبنان، ٢٠٠١م، ص٢٣٢-٢٣١.
  • [56]  الأغاني، مصدر سابق، 30/4.
  • [57] المصدر السابق، 11/4
  • [58] المصدر السابق، 14/4.
  • [59] الأغاني، مصدر سابق، ص٣٣.
  • [60] المصدر السابق، 12- 13/4.
  • [61] ابن منظور، لسان العرب، ط1، دار الحديث، القاهرة، 2013م، 229/9.
  • [62] الأغاني، مصدر سابق، 15/4.
  • [63]الأغاني، مصدر سابق، ص٣٦.