رحمة القرشي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إن الدراسات في حقل الجمهور هي وليدة هذا العصر، فالحضور الجماهيري طاغٍ، بل كاد يلغي مكانة المتكلم، ويغير خطابه بما يتلاءم مع فكره وثقافته، وجمهور الشعر العربي القديم هو جمهور نخبوي، فما قبله ذاع صيته وخُلِّد، وتناقلته الجماهير في مجالسها الخاصة والعامة، فالقبول مبني عندها على أسس بلاغية ولغوية.
إن الجمهور المتلقي ركن أساس في العملية الإبداعية، وقد حرص تراثنا الأدبي العربي على الجمهور؛ فاختار ما يتناسب مع حاله من ضروب القول. وقد أولت البلاغة العربية اهتمامها بالمتكلم؛ فاعتنت به، وبخطابه الذي يروم به إقناع المخاطَب، والتأثير فيه، واهتمامها بالطرف الثالث كان محفوفًا بالحذر؛ لأنه المقصود بالتأثر، وقد تنبه الجاحظ في تعريفه للبيان لهذا المخاطَب؛ الذي كان يخشاه ويحذر منه، ويدعو المتكلم إلى مراعاته؛ إذ يقول: "حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان"[1]. يلاحظ أن الجاحظ هنا قد اهتم بمخاطب خاص وفاعل في العملية الخطابية، فالهجوم يدل على تحرك مضاد.
إن هذه الدراسة تتصدى لاستنطاق جملة من الاستجابات، التي تشكلت حول الخطاب الشعري العربي القديم عن أبي العتاهية، وهذه الاستجابات تمثل المتلقين الأوائل، الذين عاصروا ولادة النص الشعري، وتلقوه شفهيًّا، وتباينت مواقفهم من النص وقائله، وهذا التوجه يكسب الدراسة أهميتها، من حيث إنه: يمثل أول اختبار لقيمة النص الجمالية، وأول إدراك مبدئي لطبيعته، وسماته، ومؤثراته.
ولو أردنا التعرف على التاريخ الذي بدأ فيه الاهتمام بالدراسات المتعلقة بالجمهور لوجدنا أن الدراسات حوله قد ارتبطت بالقرن التاسع عشر الميلادي وما تلاه، من تطورات متسارعة في التقنية الاتصالية، وقد وصف جلال أمين هذا العصر قائلًا إنه: "عصر الجماهير الغفيرة". ويلاحظ أن الدراسات قد ألغت تأثير الجمهور قبل القرن التاسع عشر، وكأن الحراك والتأثير الجماهيري بدأ منه، وزاد بعد تطور وسائل الاتصال؛ بسبب وجود منابر لكل فرد من أفراد الجمهور.
وقد ظهرت دراسات حديثة، درست تأثير الجمهور على الأديب وأدبه، وهي دراسات قليلة، تستعين بالنظريات والمعارف الإنسانية الأخرى، وتقترض منها؛ للإجابة عن أسئلة الدراسة التي فرضتها طبيعة العصر، وموضوعه.
والشعر العربي أدب جماهيري، إذ هو فن نشأ في كنف الجمهور، ودراسة تأثير الجمهور فيه أولى؛ لأن المدونات العربية احتفظت باستجابات الجمهور التي كان لها بالغ الأثر في مسيرة تطور الشعر العربي، وضعفه في مراحل زمنية معينة.
إن فكرة البحث -وفق ما ينص عنوانها-، تدرس:
الاستجابات التي صدرت من الجمهور، وكان لها دور رئيس في مسار تطور الشعر العربي وضعفه في مراحل زمنية، ولا يقصد بالجمهور ذلك المتلقي المتخيل في الحكاية، إنما الجمهور الفعلي الذي أصدر استجابات لفظية، وغير لفظية، شهدت كتب التراث على وفرتها، ونقتصر في هذا البحث على استجابات الجمهور (اللغوية، وغير اللغوية) لقصائد أبي العتاهية، وذلك في كتاب الأغاني للأصفهاني، الذي عكس نوع الجمهور، واحتفظت مدونته باستجابات وسرديات تبين نوع الجمهور وخلفيته.
ولهذا الموضوع أهمية قصوى في الدراسة النقدية الحديثة، إلا أنه لم ينل عناية الباحثين والدارسين؛ إذ جاءت الإشارات إليه خجولة؛ واقتصرت دراسة الاستجابات في تراثنا الأدبي على: تأييد شعر الشاعر، أو إثبات تفوقه، ولم ينظر إليها على أنها مؤثرة وحقيقة بالدراسة، فهي استجابات بقيت حبيسة المدونات العربية، وهذا البحث يأخذ على عاتقه: إبرازها، والكشف عنها، وتحليلها.
ومن أسباب اختيار الموضوع هو: إبراز تأثير الاستجابات في تطور الشعر العربي، واحتواء المدونة العربية -محل الدراسة- على استجابات ضخمة، لم تأخذ حقها من الدراسة، وإقرار النقاد بتأثير متلقي الخطاب الشعري في الشعر العربي القديم. والوقوف على ملامح تأثير الجمهور في سير الخطاب الأدبي العربي القديم.
يهدف البحث إلى: التعرف على بلاغة الجمهور، وأهدافها، ووظيفتها، والتعرف على استجابات الجمهور في المدونة العربية عند تلقي نصوص أبي العتاهية.
منهج البحث
سيقتصر هذا البحث -بمشيئة الله- على تطبيق آليات بلاغة الجمهور. ويُعدّ امتدادًا للدراسات المنضوية تحت مشروع بلاغة الجمهور، حيث يستعير أدواته المنهجية من الدكتور عماد عبد اللطيف صاحب المشروع، والدراسات التي تنتمي لهذا الحقل، ومن أمثلة ذلك دراسات وبحوث الدكتور عماد عبد اللطيف، مثل كتاب: بلاغة الحرية، ولماذا يصفق المصريون.
الدراسات السابقة
هناك دراسة يتيمة ضمن مشروع بلاغة الجمهور، درست استجابات الجمهور في الأدب العربي القديم، وهي:
- محمد، ميس فرات، (رسالة ماجستير)، بعنوان: بلاغة الجمهور في النص التراثي: كتاب الأغاني للأصفهاني نموذجًا، من جامعة البصرة، ٢٠٢١م.
مدونة الدراسة
ستضم الدراسة كل استجابة كانت ردة فعل على الخطاب الشعري لأبي العتاهية، سواء أكانت في مجلس عام، أم في أسواق العرب، أم حوارات الشعراء، أم استجابات المجاهيل، كأن يقول الناقد (سئل القوم). وكل استجابة وظفها النقاد لخدمة النص أو الحكم عليه.
وقد قامت فكرة الدراسة على المدونة العربية؛ التي رصدت استجابات (أبي العتاهية)، متمثلة في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني[2].
التمهيد
تحاول بلاغة الجمهور إعادة ترسيم حدود البلاغة العربية، وذلك بالانفتاح على خطابات الحياة اليومية، وجعل البلاغة علمًا بينيًا تتلاقى حوله علوم الاتصال والاجتماع والسياسة والأنثروبولوجيا وعلم النفس، وتحليل الخطاب[3]، وتعد بلاغة الجمهور تخصصًا فرعيًا لدراسات الخطاب مهمتها دراسة بلاغة الجمهور أثناء تلقيها لخطاب ما[4].
وتفترض (بلاغة الجمهور) أن الخطابات الجماهيرية هي خطابات وظّف منشؤوها اللُّغة بكيفيات معينة، قد تتضمن الخداع والتضليل؛ لمحاولة السيطرة والهيمنة والتأثير أو الإقناع فيه، وترى أن الـمـُخَاطَب ليس طرفًا سلبيًّا في العملية الخطابية، بل فاعلًا فيها، فبالإضافة إلى قيام الـمُخَاطَب بتفسير نص من نص المتكلم وتأويله وإنتاجه، فإن باستطاعته إحداث تغيير جوهري في نصِّ المتكلم من خلال استجابته، ويمتلك الجمهور في بلاغة الجمهور القدرة على التفريق بين الخطاب السُّلطوي الذي يحاول السيطرة عليه، والخِطاب غير السُّلطوي الذي يحاول تحريره، وكشف الطريقة التي تستخدم بها الخطابات اللُّغة؛ ليقلل من قدرتها على تحقيق أغراضها، وهذا يتطلب أهمية وعي من المُخَاطَب في الكشف عن الطريقة التي تستخدم بها الخطابات اللغة لمحاولة الهيمنة[5].
ووظيفة بلاغة الجمهور هي: دراسة الاستجابات الفعلية والمحتملة التي ينتجها الـمُخَاطَب أثناء تلقيه لخطاب ما وبعده، وتعنى بالبحث في العلاقات بين الظواهر اللُّغوية المكونة للخِطاب وأساليب السيطرة عليه، والاستجابة الفعلية التي ينتجها المستهدفون بالخِطاب، سواءً أكانت استجابات لُّغوية أم غير لُّغوية، ودراسة العلاقة بين السلطة واستجابات الجمهور وأساليب التلاعب بها[6].
كما تدرس بلاغة الجمهور "الاستجابات البلاغية الفعلية والمحتملة للجمهور الذي يتلقى خطابًا بلاغيًّا عامًّا"[7]، سواءً في الفضاء العمومي أو الافتراضي، ويُعدّ الخطاب الجماهيري موضوعًا قامت عليه بلاغة الجمهور؛ فهي معنية بالاستجابات التي يصدرها المواطنون في حياتهم اليومية عند تلقيهم أي نوع من الخطابات، فالجمهور يتعرض لخطابات شبه يومية تختلف فيما بينها وتكون إما خطابات مهيمنة تحاول السيطرة عليه، وإما خطابات غير سلطوية تحاول تحريره[8].
وترصد بلاغة الجمهور استجابته للخطاب الأصلي، وطرق استهلاكهم له، ودرجة تلقيهم له في الفضاءات العمومية والفضاءات الافتراضية، ومحلل بلاغة الجمهور لا يقف عند استهلاكه والاستجابة له، ولا عند قوته اللغوية وسلطته في التغيير، إنما يتجاوز ذلك إلى إجهاض التحكم في استجابة مستهلكيه[9].
بلاغة الجمهور هي تصور عكسي للبلاغة الإنشائيّة، إذ تُعيد تعريف البلاغة، وأطرافها، والمهارة البلاغية، فالبلاغة من منظور بلاغة الجمهور هي: "العلم الذي يقوم بتحديد مهارات إنتاج الخطاب غير السلطوي، ويمرن على ممارستها، ويحدد خصائص الخطاب السلطوي، ويمرن على مقاومته"[10] (وعرَّفت المتكلم البليغ بأنه "من يقوم بإنتاج خطاب غير سلطوي"[11]، وأضافت تعريفًا للمُخاطَب هو: "مَن يقوم باستجابات بليغة"[12] كما عرَّفت المهارة البلاغية بأنها: "الاستخدام غير السلطوي للغة، وإنتاج استجابات بليغة"[13].
ولبلاغة الجمهور أهداف وغايات بدأت مع البواكير الأولى لنشأتها، وتتشكل الغاية الأولى في انتقالها من المتكلم إلى الـمُخَاطَب، فبدأ الرهان على الجمهور بوصفه طرفًا أساسًا في الخطاب، لديه القدرة على الإنتاج والتفاعل.
وقد وظفت هذه الدراسة أدوات بلاغة الجمهور وفكرتها على خطابات الجمهور في تراثنا العربي، ذلك أن المتلقي العربي لم يكن سلبيًا في تلقيه؛ إذ أسهمت استجاباته في حركة تطور الشعر العربي.
بلاغة الجمهور عند العلماء العرب
اهتم العلماء العرب بالطرف الثالث في العملية الخطابية اهتمامًا أكاد أجزم أنه كان من أولويات النقاد، ولم تكن العناية بالمتكلم وكلامه إلا من أجل الطرف الثالث، الذي هو مركز الاهتمام في النقد العربي القديم، فالعناية بالمتكلم غايتها الطرف الثالث، والعناية بالخطاب هدفه الطرف الثالث، فهو مركز الدائرة التي بنيت الدراسات عليها.
وقد أظهر النقد الحديث ثروة المخزون التراثي العربي (البلاغي والنقدي)، وغناه بمفاتيح للعلم، وكنوز معرفية لا تبلى مع الزمن، بل أثبتت عبقرية العقل الفكري العربي، وفي هذه الدراسة نركز على عالمين اثنين، من علماء العربية، أحدهما قبل أن ينشأ علم البلاغة والآخر بعد أن اكتمل علم البلاغة وهما (الجاحظ، والقرطاجني). يمثل الجاحظ البدايات ويمثل القرطاجني آخر النقاد الكبار الذي بناء على ما قبله.
- [1] 1الجاحظ، البيان والتبيين، ت: درويش جويدي، ط1، صيدا، لبنان، المكتبة العصرية، 2016م، ص 56/1.
- [2] اعتمدنا هذه النسخة: الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق: إحسان عباس، بكر عباس، وآخرون، دار صادر، بيروت، لبنان.
- [3] يُنظر، عبد اللطيف عماد، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، ضمن كتاب السلطة ودور المثقف، القاهرة، جامعة القاهرة، 2005م، ص 16.
- [4] يُنظر، بكار، سعيد، في مفهوم بلاغة الجمهور، ضمن كتاب بلاغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات، ط1، البصرة، العراق، دار شهريار، 2017م، ص71.
- [5] يُنظر، عبد اللطيف، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، مرجع سابق، ص17.
- [6] يُنظر، عبد اللطيف، عماد، لماذا يصفق المصريون؟، ط1، القاهرة، مصر، دار العين للنشر، 2009م، ص59،58.
- [7] المرجع السابق، ص58.
- [8] يُنظر، بكّار، مرجع سابق، ص72،71.
- [9] يُنظر، جبري، إدريس، في علاقة البلاغة العامة بالبلاغة الخاصة: بلاغة الجمهور عند عماد عبد اللطيف، ضمن كتاب بلاغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات، مرجع سابق، ص61.
- [10] عبد اللطيف، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، ص20.
- [11] المرجع السابق.
- [12] لطيف، بلاغة المخاطب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، المرجع السابق.
- [13] المرجع السابق، 21.