ندى الفيفي
المقدمة
تدرس هذه الورقة سيكولوجية أزمة الهوية للشخصية الرئيسة في رواية "أيام وكتب" لأحمد الحقيل. فيبدو ناصر متذمرًا من حياته ومجتمعه، ويفضل أن يعزل نفسه في عالم من الخيال الذي يعتقد بأنه يغذي احتياجاته ويتوافق مع ميوله بوصفه شخصًا يهتم بالقراءة. وإذا أمعنا النظر في مفهوم الهوية نجده يختلف باختلاف توجهات الدارسين والأدباء والفلاسفة له، حيث يُعرِّفها معجم المعاني بأنها "إحساس الفرد بنفسه وفرديته وحفاظه على تكامله وقيمته وسلوكياته وأفكاره في مختلف المواقف"، بينما يُعرِّف أزمة الهوية بأنها "الاضطراب الذي يصيب الفرد فيما يختص بأدواره في الحياة، ويصيبه الشك في قدرته أو رغبته في الحياة طبقًا لتوقعات الآخرين عنه، كما يصبح غير متيقن من مستقبل شخصيته إذا لم يتيسر له تحقيق ما يتوقعه الآخرون منه فيصبح في أزمة"[1]، كما يركز الدارسون للطب النفسي والفلاسفة على الهوية في معناها المرتبط بمفهوم الذات واختلافها عن الآخر والآثار العقلية المترتبة على فقدانها، بينما يربطها الاجتماعيون بالأدوار المختلفة المرتبطة بالهوية في معناها العام والخاص. لكن هذه الورقة ستركز على مفهوم الهوية ومعانيها كما قُدِمت في فلسفة بول ريكور، ونظرية سيغموند فرويد عن تداعيات الصدمة وتكوين الأنا، ونظرية جاك لاكان عن لغة الذات وارتباطها بالفعل، حيث تظهر أزمة الهوية في بدايتها كانعكاس لأكثر من سلوك ونفسية، وذلك عند ربطها بطريقة تقسيم الرواية إلى فصول زوجية، لكن عند دراستي المتعمقة للعمل يظهر تمثيلها لحالة الاكتئاب التي لا يستطيع ناصر الفكاك منها رغم محاولاته أن يبدو مندمجًا مع مجتمعه كما هو في خلواته. يبدأ نهار ناصر بأعماله الروتينية بوصفه أبًا وزوجًا وابنًا وصديقًا، وينتهي يومه عند المساء في مكتبته الخاصة حيث يبدو أكثر سيطرة وانسجامًا مع دوره بوصفه ناقدًا وعاشقًا أو كما يظن. يرسم الروائي أحمد الحقيل تفاصيل مأساة ناصر وتناقضات سلوكه المنبثق من تأثير الأحداث الماضية وصورها المحفورة في ذاكرته المتمزقة. كما أسهب الروائي في تصوير الخوف والقلق والعزلة ومنهج التدمير الذاتي التي تبناها ناصر كأسلوب حياة يعكس هويته أو المكونات الهوياتية المتعددة التي يستحضر فيها الماضي ليُعمله على الحاضر، ثم يخوض بعدها في سلسلة من الأسئلة التشكيكية والجدلية التي تتزامن مع تطور أحداث الرواية. وتجدر الإشارة إلى طريقة الروائي في تقديم القصة بمزيج من اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية التي عكست تفردًا وتميزًا وتأثيرًا أعمق على القارئ السعودي. وبناءً على ما سبق فقد قسّمت هذه الورقة إلى ثلاثة محاور: كيف تشكّل أزمة الهوية في الرواية؟ وكيف يعكس العمل الأدبي الآثار النفسية لأزمة الهوية التي عانى منها ناصر؟ وكيف يستخدم ناصر اللغة بالتزامن مع أزمة الهوية؟
تَشكّل أزمة الهوية وتداعياتها في الرواية
في كتابه "الذات بوصفها آخر" يشرح بول ريكور معنى الهوية بتقديم قراءات مختلفة لها، وذلك بربطها بمقاصد محددة تعتمد على طريقة التحليل والسرد الروائي، فالهوية السردية تنقسم إلى ما يعرف بالهوية المطابقة أو التطابقية التي تتمثل في التراكم الكمي للتجارب السلوكية كما تظهر في الرواية، والهوية الذاتية التي تتمثل في جدل الذات والآخر[2]، يوضح ريكور معنى الهوية المطابقة في مراحلها الأولية بأنها مرتبطة بإمكانية معرفة وتمييز الغير ضمن مجموعة من الطراز نفسه، وتُعيّن الهوية المطابقة بوصفها شيئًا يمكن التحدث عنه أكثر من عدّه شخصًا عاقلًا متحدثًا، ويُسأل عنه بصيغة "ماذا"؛ لغرض تجسيد الخواص والتراكم المعرفي الذي أدى إلى نمو الشخصية بطريقة معينة وفي بيئة محددة (12- 13). عملية دراسة الهوية المطابقة التراكمية لناصر وأدواره المتعددة كما ظهرت في زمن الرواية تظهر في سلوكياته المتوقعة منه التي تربى عليها منذ الصغر، فلكونه أبًا ورب أسرة يحتم عليه أن يكون المعيل الأساسي والوحيد لعائلته، "لقد تربى على أن من أهم أدوار الرجل الحياتية شراء الخضروات والفواكه واللحوم للبيت"(31)، وفي حالة عدم قدرته على ذلك فإنه يحس بالنقص، فمن تجاربه مع والده يؤكد ناصر أن توفير مؤونة المنزل لأفراد عائلته يُعدّ شيئًا أساسيًا يعكس رجولته، وقد "ارتبطت في ذهنه بالرجال البالغين. من يتقضى للبيت، فهو أحد رجاله"(31). كما أنه بوصفه زوجًا يرى أن العاطفة أو إظهار المشاعر لزوجته شيء غير مقبول خصوصًا عندما يكونان في الخارج وتحت عين المجتمع، حيث يتعمد ألا يمسك بيدها أو يظهر أي عاطفة تجاهها إلا إذا بادرت هي بذلك (21). ويظهر إصراره على خلق فاصل واضح بين الواقع والخيال في رفضه أن يستحضر خياله في بيئة العمل فهو "لم يجلب كتابًا إلى الدوام في حياته."(27) وفي دوره أخ وابن وصديق يقدم ناصر دائمًا أسلوب التململ والسخرية، ويصف وقته معهم بقوله: "جلسة مملة مع الأصدقاء." (107)، ويذكر أن قضاء وقت مع العائلة لا يثير اهتمامه؛ لتفادي الحديث عن مشاعره لأن لا أحد يفهمه ويجب عليه أن يعزل نفسه دائمًا (89)، وهو ما يتوق إلى فعله كل يوم عند ذهابه لمكتبته.
ويتحدث ريكور في كتابه أيضًا عن الهوية الذاتية وأهميتها في تحديد مفهوم الشخصية عن طريق دراسة ردات الفعل والتصورات التي تتفاعل بها الشخصية مع الآخر، وكيف تؤثر فيه ويعاني منها من خلال الزمن السردي، فدراسة الهوية الذاتية في الرواية ما هي إلا تتبع لمعاناة ناصر بالتركيز على الفعل المرتبط بالقول، الذي يدل على طريقة تفكير قائله، ويُسأل عنه بلفظة "من" للدلالة على العاقل (150). فمثلًا يظهر إحساس ناصر بالخوف والقلق في حواراته مع ابنته رشا عن أزمة الهوية والوجود وكيف أنها "تخيفه. يخيفونه، كلهم." (43) في الحديث عنها وعن جيلها الذي ينظر للحياة بواقعية، ويمكن قراءة تخوفه منها بقدرتها على قراءته بوضوح بعيدًا عن أقنعة الرجولة والصلابة واللامبالاة والسخرية التي يلبسها دائمًا. ويتوقع ناصر هنا بأنها تعرف معاناته مع الاكتئاب ولكنها اختارت عدم مناقشته في ذلك. كما أن قلقه وتخوفه يزيد في حواراته معها عن الانتحار، ففي حديث استمر لـ"نصف ساعة"، وغلب عليه التردد والتخوف والنبرة الدفاعية تقول رشا: "تخاف أني بنتحر يعني"، ليرد عليها: "للحين مقتنعة أن كلنا يمر بأزمات وهو ما يدري؟"، لتصمت رشا في حيرة، وينهض ناصر قائلًا بنبرة ساخرة: " تصبحين على خير"، ولكنه توقف ورفع سبابته مهددًا: "لا تنتحرين إلا مبلغتني". ويظهر انعدام الاتزان العقلي في حضور فكرة الموت في الكثير من حوارات ناصر، ففي صغره استنكر فقدان والده بتكراره بأن الموت أخذه بالخطأ (85)، وكذلك في حواره مع والدته في طفولته عن أخت صديقه التي توفيت في العشرين بسبب مرض أصابها، ليسأل والدته: "يمه لازم أروح المستشفى. أخاف أني مريض ويمكن أموت"، لترد والدته: "توك صغير، ما يموت أحد أقل من العشرين". ليعود ناصر من هذه الذكرى إلى الحاضر مقارنًا عمر الفتاة التي توفيت عندما كان طفلًا بعمر ابنته رشا "التي تقترب من سن الموت، من العشرين" على حد زعمه.
تهدف دراسة أنواع الهوية السردية كما ذُكر في موسوعة ستانفورد للفلسفة وتحت موضوع "الهوية السردية والتحول نحو الذاتية" لبول ريكور إلى الإجابة عن السؤال الأخلاقي الذي يعتمد على فهم حقيقة الهوية ودوافعها ومبرراتها من خلال السرد الذي يمثل وجودًا يمكن دراسة تفاصيله[3]، حيث يظهر اختيار ناصر للعزلة في مكتبته وابتعاده عن التواصل الفعال مع أفراد عائلته وأصدقائه بتكراره المتواصل لأحداث الماضي التي لا يستطيع الفكاك عنها. شخصيته تتدرج من الاكتئاب بسبب صدمة الفقد التي عانى منها في مرحلة الطفولة إلى عدم قدرته على التفاعل أو التحدث عن مشاعره أو فهم ما يفرضه عليه المجتمع كقوانين يجب أن يتبعها الجميع، لذلك يختار أن يُعرّف عن نفسه بطريقته التي تفتقر إلى أي مقومات عقلانية، ويستبدل ذلك بإيذائه لنفسه ومن حوله وهو المعنى المتبنى والمقبول عنده، ومن ذلك قراره بأن يبدأ علاقة سرية مع كاتبة تدعى رنا، التي يتعامل معها وكأنها جزء من خياله، ويناقشها في كل شيء يرفض أن يناقشه مع زوجته أو عائلته أو أصدقائه (109). فعندما يعاني المكتئب لفترة طويلة مع فقدان الأمل وانحسار الشغف فإن شعوره بالاستقرار يتغذى من قدرته على اختيار الإبقاء على حياته أو إنهائها، وهذا ظاهر في حوارات ناصر عن الحياة وتقبله لفكرة الموت، وهذا ما سيُناقش في الجزئية القادمة.
الآثار النفسية لأزمة الهوية في تكوين شخصية ناصر
في كتابها عن الاكتئاب والسوداوية تفصل ليتشيا فوريني توجه سيغموند فرويد وشرحه لتداعيات صدمة الفقد وارتباطها بصراع الأنا مع الواقع وانعدام تقبله[4]. حيث يوضح سيغموند فرويد أن الحداد يظهر في أحد أنواعه كردة فعل لوفاة أو لفراق أو لخسران شخص أو شيء يرتبط به الإنسان بطريقة عاطفية، حتى إن كان مكان أو فكرة أو غيرها (125). وهذا ما تعكسه شخصية ناصر عند قوله: "لقد جعل والدي نسيانه شبه مستحيل، لأن كل سبحة تذكرك به، وتشكك أنها ربما تكون له. أذكر أنني جلست مذهولًا حينما علمت بوفاته… لقد مات بالخطأ" (83- 85). يوضح فرويد أن صدمة الفقد والاكتئاب في مثل هذه الحالات تؤثر سلبًا في احترام الفرد لذاته عندما يبدأ بالنظر إلى نفسه على أنه عديم القيمة، ولذلك فهو يمتنع عن التواصل والتحدث عن مشاعره بصورة اجتماعية وأخلاقية فعّالة، ثم يبدأ بالتكيّف مع فكرة أنه أقل أهمية من الآخرين، ولذلك يقرر أن يبتعد عنهم أو أن ينهي حياته. وكمثال على ذلك يقارن ناصر نفسه بوالده بقوله: "أمي تقول إنني أشبهه. ويقول إخوتي وأخواتي إنني أشبهه." لينهي المقارنة بقوله عن والده إنه "غير ممل، غير روتيني. لا أشبهه!" (84). وهنا يؤكد ناصر بأنه أقل قيمة من والده المتوفى، ولذلك فهو أبعد ما يكون عنه. ويستمر بتعزيز تعلّقه الشديد بكل ما يربطه بوالده كقلم الباركر الذي "يزين به صدره"، حيث اشتراه له والده "من مكتبة الحارة." ويرفض أن يستبدله بالقلم الذي أهدته له زوجته نورة (7- 8). كما يرفض ناصر وفي أحداث متكررة ما تقدمه له زوجته من هدايا لرفضه لمبدأ تعزيز أو تقدير الذات. فحينما قدمت له "قماشًا فاخرًا ليفصله ثيابًا" رفضه لأنه "يجعله يبدو وكأنه يلبس ورقًا"، وكذلك عندما "طبعت له لوحة ليلة النجوم لفان غوخ" ليعلقها في مكتبه أخبرها بأنها "تحول عينيه كلما شاهدها." ثم يعلل رفضه بقوله: "تزعلين من مريض نفسي؟"(8). وتتعمق مأساة ناصر بوصفه لنفسه وأفراد عائلته بقوله إنهم "يبدون متجمعين في جلستهم المتقاربة... ولكن يمكن تمييز أن كل واحد منهم في جلسة منفصلة." (9) ليقرر بعدها بأنها "ليلة ثلاثاء تقليدية بليدة"، وعليه الذهاب إلى مكتبته لأن لا شيء يثير اهتمامه. ومن هنا يظهر جليًا ما ذكره فرويد بأن المكتئب يختار العقاب الذاتي، كما أنه يستهدف من حوله ويلومهم هربًا من التركيز على المصدر الأساسي لألمه (251). كما يعمد ناصر دائمًا إلى التشكيك في نوايا زوجته نورة ولأتفه الأسباب، فقد ربط بين تذكير زوجته المتواصل له بحاجتهم إلى عمل صيانة لسخان المنزل بخروجهم إلى المطعم في جلسة رومانسية، ووصفه بأن النادل تعمّد أن يضع "قارورة الماء العملاقة" أمامهما لتذكيره بذلك، ليقرر "أنه لن يصلح السخانة حتى تنفجر، أي نورة وليس السخانة" (22). تعكس سطور الرواية كيف يعيش ناصر حاضره في دوامة من ذكريات الماضي، وكمثال على ذلك توضيحه أنه رغم تفويته لكثير من صلوات الجماعة فإنه "كلما دخل مسجدًا تذكر والده، الذي كان يأخذه كل صلاة بيده" (32). ويزداد تفاعله مع الماضي حتى يصل إلى مرحلة من تذكر الأزمان والأفعال بطريقته الخاصة ومن ذلك: "العصر مثلًا، ارتبط في ذهنه وهو طفل باللعب في الحارة، وهو فتى بالمشاوير مع والده... ولكنه في عمر يفوق والده حينما كان يرافقه. اجلسته هذه الفكرة الطارئة عدة دقائق في السيارة" (67)، هذا الجلوس وهذه السكينة ما هي إلا استرجاع لفكرة الموت والاستحقاق المرتبط بها، وكأنه يسأل نفسه كيف له أن يعيش وقد تجاوز العمر الذي توفي فيه والده. ومن الأمثلة السابقة يظهر وصول ناصر إلى أدنى درجات التفكير العقلاني، حيث يؤكد فرويد، تبدأ الأنا بالانقسام حيث تبحث عن شيء جديد لتلصق به مفهوم التعلق أو الحب غير العقلاني، وذلك ظاهر في تعلق ناصر بمكتبته التي يقدمها على عائلته، وهذه وسيلة يستخدمها العقل الواعي للارتباط مباشرة مع إشكاليات العقل اللاواعي والانغماس فيها (247)، وفي المقابل لا يوجد أي اهتمام أو عاطفة حقيقية موجهة للأهل والأصدقاء. يرى فرويد أيضًا أن إحساس انعدام القيمة عند المكتئب قد يؤدي به إلى تقبل فكرة الانتحار وذلك بالحديث المتواصل عن الموت، وقد لا يكون هذا الانتحار بصورة حرفية دائمًا، حيث يمكن تمثيله بانتحار الذات عندما يتعمد المكتئب أن يقتل شخصيته الذاتية بتبني السلبيات التي يسقطها على نفسه ويسقطها عليه الآخرون من حوله (247- 248). كما يشرح فرويد أن انعدام الرضا واستمرار المعاناة يتجذر من صراع العقل اللاواعي مع صدمة الفقد التي تؤجج وتحفز الكثير من التجارب والذكريات لماضٍ مكبوت (138). ففي حديث ناصر عن الموت وسخريته واستخفافه بشكوى والدته ونفسيتها، اقترح عليها قائلًا على سبيل المزاح: "عندي واحد في الحارة شُبهة… وش رأيك أكلمه، وأقول له يجي، ويغتالك، وتفتكين من الحياة... تروحين للحياة الأبدية" (30). ليناقض هذه الشخصية الساخرة بأخرى حالمة تسترجع ماضي الطفولة الجميل بعد هذه الحادثة مباشرةً، وذلك بنظره في أرجاء المنزل الذي "يذكره بطفولته ومراهقته ... ولا ينقص الذكرى القوية إلا نفسه الصغيرة تخرج إليه من زاوية الصالة" (30).
- [1] Identity and Crisis.” Almaany, https://www.almaany.com. Summer 2024.
- [2] Ricoeur, Paul. Oneself as Another. Chicago UP, 1992.
- [3] Ricoeur, Paul “Narrative Identity and the Turn to Selfhood”.Stanford Encyclopedia of Philosophy. https://plato.stanford.edu/entries/ricoeur/#NarrIdenTurnSelf.Dec 15, 2022
- [4] Fiorini, Leticia G., et al. On Frued's Mourning and Melancholia. Karnac Books, 2007.