منيرة العسعوس
المقدمة
تبرز أهمية نصٍّ ما بتعدد قراءاته، وكلما وقع الضوء أكثر على نواحي النص ورموزه وزواياه تألق جوهره وتجلت احتمالاته وانفتح على معانٍ أخرى جديدة. والقراءة المقصودة هنا هي القراءة التي تقوم على التلقي واستجابة القارئ، الناتج عن سعة ثقافة واطلاع وخبرة تتحول معها النصوص إلى مساحات شاسعة. وإذا لم يُقرأ النص كما أريد له أن يُقرأ فهذا يدل على تفاوت مستويات القراءة والقرّاء، وذلك يعود إلى "اختلاف الاستعدادات الفردية والثقافية والاجتماعية لكل قارئ. علاوة على ذلك فإن هذه القراءات الفعلية والمختلفة والمشروطة سوسيولوجيًّا؛ أي المتغيرة حسب الظروف والشروط الاجتماعية، لن تكون بالضرورة تحقيقًا فعليًا للقراءات الضمنية أو متطابقة معها "[1].
وهذا يعني أن هناك قارئين للنص، القارئ المباشر والقارئ الضمني "والقارئ الضمني وهو القارئ المرسوم في النص"[2].
من هنا فإن تمظهرات القارئ الضمني من أهم الأمور التي اشتغل عليها البحث، إلى جانب الفجوات والفراغات النصيّة التي كان لزامًا على القارئ الضمني ملؤها ومحاولة بنائها رابطًا بين جوانب الموضوع الذي انكشفت له.
أهمية البحث وأهدافه
قف هذا البحث على جماليات التلقي لقصيدة الــرَّسُولة بِـشَعْــرِها الطَّــــويل حــتـى الينابيع، من خلال مبدأ فولفغانغ آيزر (القارئ الضمني- والفجوات أو فراغات النص)، التي يقدمها النص للقارئ ذي الخبرة والثقافة الجمالية بصفته قارئًـا واعيًا ببواعث الجمال المؤثرة، وقدرته على سد تلك الفجوات وملء الفراغات التي لم تكن بدورها خللًا أو عيبًا في النص، بل إن وجودها ضرورة وسبب رئيس لخلق التواصل الفعال بين النص والقارئ. وهذا الفراغ هو الفراغ الباني للمعنى كما يرى آيزر، حيث يتدخل القارئ الضمني -وهو عنصر ظاهر للغاية في جزئية القارئ الضمني- في صنع المعنى وتكوين الصورة الجمالية، فنحن نقف خارج الموضوع المعطى في حين نحتل موقعًـا داخل النص، فالقراءة تفاعلٌ وتجاذبٌ بين القارئ والنَّص بغموضه ورموزه وفراغاته المسكوت عنها التي افترض المبدع مسبقًا قارئًا ضمنيًا سيحسن إلى حدٍّ ما التعرف عليها فهمها وملئها.
المدونة: ديوان قصيدة الــرَّسُولة بِـشَعْــرِها الطَّــــويل حــتـى الينابيع
وبالنظر لما سبق نقول كيف تحفّز القصيدة بناء المعنى وإدراكه من خلال فكرةَ بنية الفراغ وسد الفجوات؟ وما استعدادات وبنيات القصيدة التي يمارس القارئ الضمني تأثيره الفعلي للوصول إلى العملية التواصلية التي هي أساس في نظرية التلقي وجمالية التفاعل بين القارئ والنص؟
تخلّــقُ قصيدة النثر
خُلقت قصيدة النثر في الوطن العربي على يد أنسي الحاج بإيقاعٍ منقوصٍ متعمَّدٍ لتتجلَّى الشِّــعــريَّــة، وليخلق هذه العلاقات بين الثنائيات والأضداد، واخترع صورًا شعريةً مركّبَةً. أما الجملة الشعرية لدى أنسي فكان يغلب عليها استخدام الأفعال على الأسماء؛ ذلك أن الفعل يمكِّن من اللعب على هذا الزمن وكسر البنية الزمنية تلك؛ مما يجعل لنصوص أنسي الحركة بأكثر من اتجاه، محتملةً تأويلاتٍ كثيرة، ببنياتٍ ترتكز على قارئ ضمنيّ ومساحاتٍ وفجوات تقبل تعدد الاحتمالات والمعاني. هكذا من «لَنْ» 1960 إلى «خواتم» مرورًا بـ«الوليمة» 1994 و«الرأس المقطوع» 1963 و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» 1970، "فأي قصيدة نثر كما ذكر أنسي الحاج في مقدمته لديوان "لَنْ" " يجب أن تحتوي على ثلاثة عناصر، وهي التوهج، والمجانية، والإيجاز. فالقصيدة أيُّ قصيدة نثرٍ لا يمكن أن تكون إلا وهي تعتمد على الإيجاز، ذلك تحقيقًا لشرط أصيل وهو الوحدة الموضوعية؛ إذ لا يمكن لها أن تكون غنائية ولا يمكن لها أن تكون نشيدًا طويلًّا، فيختل أهمّ شرطٍ فيها وهو الإيجاز والتوهُّج."[3]
يجعلهُ هذا بعيدًا بقصيدته عن أسلافٍ مباشرين يحدّدون مضمونها بل على العكس، تمهر قصيدة أنسي مبدأ النسيان والتلاعب بالذاكرة والتقديم والتأخير في بناء وتركيب الجملة، ليتخفى التعبير وراء شبكة متراصة من المؤثرات الدلالية المتضاربة.
ومع صدور الــرَّسُولة بِـشَعْــرِها الطَّــــويل حــتـى الينابيع عام 1975، ظهر أنسي منسجمًا مع مشروعه الحداثي ومع إنسانيته التي أقامت في ذلك النصّ وقصيدة الحبِّ تلك؛ بين التناصّ والتكرار وبين الأضداد والثنائيات. وبدا وكأنه مخالف لما كان يؤسِّس له في قصيدة النثر في مقدمة ديوانه "لَـنْ"، حيث عاد لنا بنصٍّ نشيديّ ممتدٍّ فالقصيدة هي الديوان، نصٌّ غنائي طويل يقع في أربعين صفحة من القَطْع الصّغير، تقسّمَ على موضوعاتٍ وأجزاء.
متأثرًا بنص موغل في القدم نشيد الإنشاد وسفر التكوين، عائدًا للماضي، عائدًا بالزمن، وكأنّه يمهدُ للحياة بدايةً جديدةً، تُـرتّبُ فوضاها بالدّين والإيمانِ، وتزن ميزان عالمنا الدّنيوي بالحبّ، وبالتّكَامُلِ لا التّفَــاضل بين الرّجل والمرْأَة، في رحلةٍ تعيدُنا إلى الحقيقة.
"هذه قصة الوجه الآخر من التّكوين
أكتبها
بحبرٍ ضاع
أكتبُ عكس الكلمة
أكتبُ عكس الذاكرة
وكلَّ شيءٍ صار
كيف صار."[4]
تجلت لغة القداسة، ووحدة الجسد وتعدّد الموضوعات، فحينًـا على شفيرٍ بين النعيم والعذاب، وبين العفو والخطيئة والخلاص والأسر، بين الرجل والحبيبة، وبين الإله والشيطان، مُظهرًا جانبًا ميلودرامي عائدًا فيه إلى جوهرٍ ربما غاب بفعل الحروب والنكبات التي مرت بالعالم ذلك الحين.
وخلافًا للنصوص التي تعلي الجسد أعاد أنسي صياغة الكون وقصة التكوين، وجعل الحبّ والرّجل والحبيبة والله مركزًا بعيدًا عن كلِّ ما هو معهود ومعروف. بعيدًا عن جسدها قريبًا من جوهرها، بعيدًا عن صوتها قريبًـا من مناجاتها وصلاتها لأجلهِ ولأجل والبشر، بعيدًا عن ظلام شهوتهِ قريبًا من نور حكمتِها، بعيدًا عن رقّتها عندما تستلبها، قريبًا من ضعفها عندما يُكسبها القداسة والسيادة والعلو. هكذا قدّم الديوان بالإهداء: (مَغْلُوبــكِ).
يجيء أنسي على هذا كصاحب نبوءةٍ يحشد القوم من حوله مفتتحًا نصَّه بصلاة: "ساعدني ليكن فيّ جميع الشعراء فالوديعة أكبر من يدي"، معترفًا بثقل الرسالة، ورهبة الحقيقة الجديدة، فمن سيسمعهُ ويصدّق قصّة الوجه الآخر من التكوين.
"هذه قصة الوجه الآخر من التكوين
"هذه قصة الوجه الآخر من التكوين
وجدتها وعينايَ مُغمضتان ..
فالطريقُ حبيبتي
قادمٌ من انتظارها لي ..
قادمٌ من رجوعي إليها...
يا حبيبتي صلي لي كي أُحسن دعوتهم إلى العيد."
في أول مقطع تُـظهر لنا البنية النصية صيغةً مخالفةً للواقع، عندما يعثر على حبيبته وهو مغمض العينين؛ لأنها هي الطريق أصلًا.
"ترتبط الحبيبة بقصة الوجه الآخر من التكوين بطريقة رؤيوية وليس بطريقة بصرية، فعيناها كانتا مغمضتين، والطريق كان الحبيبة وليس الطريق؛ أي ليس
- [1] شرفي، عبد الكريم. من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2007، ص 245.
- [2] المرجع نفسه.
- [3] الحاج، أنسي. لن. دار الجديد، ط4، 1994، ص 18.
- [4] الحاج، أنسي. الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع. دار الجديد، ط4، 1994، ص42.