جماليات التلقّي عند القارئ الضمني في قصيدة الرَّسولَـةُ بشَعْــرِهـا الطويل حتى الينابيع

منيرة العسعوس

المقدمة

تبرز أهمية نصٍّ ما بتعدد قراءاته، وكلما وقع الضوء أكثر على نواحي النص ورموزه وزواياه تألق جوهره وتجلت احتمالاته وانفتح على معانٍ أخرى جديدة. والقراءة المقصودة هنا هي القراءة التي تقوم على التلقي واستجابة القارئ، الناتج عن سعة ثقافة واطلاع وخبرة تتحول معها النصوص إلى مساحات شاسعة. وإذا لم يُقرأ النص كما أريد له أن يُقرأ فهذا يدل على تفاوت مستويات القراءة والقرّاء، وذلك يعود إلى "اختلاف الاستعدادات الفردية والثقافية والاجتماعية لكل قارئ. علاوة على ذلك فإن هذه القراءات الفعلية والمختلفة والمشروطة سوسيولوجيًّا؛ أي المتغيرة حسب الظروف والشروط الاجتماعية، لن تكون بالضرورة تحقيقًا فعليًا للقراءات الضمنية أو متطابقة معها "[1].

وهذا يعني أن هناك قارئين للنص، القارئ المباشر والقارئ الضمني "والقارئ الضمني وهو القارئ المرسوم في النص"[2].

من هنا فإن تمظهرات القارئ الضمني من أهم الأمور التي اشتغل عليها البحث، إلى جانب الفجوات والفراغات النصيّة التي كان لزامًا على القارئ الضمني ملؤها ومحاولة بنائها رابطًا بين جوانب الموضوع الذي انكشفت له.

أهمية البحث وأهدافه

قف هذا البحث على جماليات التلقي لقصيدة الــرَّسُولة بِـشَعْــرِها الطَّــــويل حــتـى الينابيع، من خلال مبدأ فولفغانغ آيزر (القارئ الضمني- والفجوات أو فراغات النص)، التي يقدمها النص للقارئ ذي الخبرة والثقافة الجمالية بصفته قارئًـا واعيًا ببواعث الجمال المؤثرة، وقدرته على سد تلك الفجوات وملء الفراغات التي لم تكن بدورها خللًا أو عيبًا في النص، بل إن وجودها ضرورة وسبب رئيس لخلق التواصل الفعال بين النص والقارئ. وهذا الفراغ هو الفراغ الباني للمعنى كما يرى آيزر، حيث يتدخل القارئ الضمني -وهو عنصر ظاهر للغاية في جزئية القارئ الضمني- في صنع المعنى وتكوين الصورة الجمالية، فنحن نقف خارج الموضوع المعطى في حين نحتل موقعًـا داخل النص، فالقراءة تفاعلٌ وتجاذبٌ بين القارئ والنَّص بغموضه ورموزه وفراغاته المسكوت عنها التي افترض المبدع مسبقًا قارئًا ضمنيًا سيحسن إلى حدٍّ ما التعرف عليها فهمها وملئها.

المدونة: ديوان قصيدة الــرَّسُولة بِـشَعْــرِها الطَّــــويل حــتـى الينابيع

وبالنظر لما سبق نقول كيف تحفّز القصيدة بناء المعنى وإدراكه من خلال فكرةَ بنية الفراغ وسد الفجوات؟ وما استعدادات وبنيات القصيدة التي يمارس القارئ الضمني تأثيره الفعلي للوصول إلى العملية التواصلية التي هي أساس في نظرية التلقي وجمالية التفاعل بين القارئ والنص؟

تخلّــقُ قصيدة النثر

خُلقت قصيدة النثر في الوطن العربي على يد أنسي الحاج بإيقاعٍ منقوصٍ متعمَّدٍ لتتجلَّى الشِّــعــريَّــة، وليخلق هذه العلاقات بين الثنائيات والأضداد، واخترع صورًا شعريةً مركّبَةً. أما الجملة الشعرية لدى أنسي فكان يغلب عليها استخدام الأفعال على الأسماء؛ ذلك أن الفعل يمكِّن من اللعب على هذا الزمن وكسر البنية الزمنية تلك؛ مما يجعل لنصوص أنسي الحركة بأكثر من اتجاه، محتملةً تأويلاتٍ كثيرة، ببنياتٍ ترتكز على قارئ ضمنيّ ومساحاتٍ وفجوات تقبل تعدد الاحتمالات والمعاني. هكذا من «لَنْ» 1960 إلى «خواتم» مرورًا بـ«الوليمة» 1994 و«الرأس المقطوع» 1963 و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» 1970، "فأي قصيدة نثر كما ذكر أنسي الحاج في مقدمته لديوان "لَنْ" " يجب أن تحتوي على ثلاثة عناصر، وهي التوهج، والمجانية، والإيجاز. فالقصيدة أيُّ قصيدة نثرٍ لا يمكن أن تكون إلا وهي تعتمد على الإيجاز، ذلك تحقيقًا لشرط أصيل وهو الوحدة الموضوعية؛ إذ لا يمكن لها أن تكون غنائية ولا يمكن لها أن تكون نشيدًا طويلًّا، فيختل أهمّ شرطٍ فيها وهو الإيجاز والتوهُّج."[3]

يجعلهُ هذا بعيدًا بقصيدته عن أسلافٍ مباشرين يحدّدون مضمونها بل على العكس، تمهر قصيدة أنسي مبدأ النسيان والتلاعب بالذاكرة والتقديم والتأخير في بناء وتركيب الجملة، ليتخفى التعبير وراء شبكة متراصة من المؤثرات الدلالية المتضاربة.

ومع صدور الــرَّسُولة بِـشَعْــرِها الطَّــــويل حــتـى الينابيع عام 1975، ظهر أنسي منسجمًا مع مشروعه الحداثي ومع إنسانيته التي أقامت في ذلك النصّ وقصيدة الحبِّ تلك؛ بين التناصّ والتكرار وبين الأضداد والثنائيات. وبدا وكأنه مخالف لما كان يؤسِّس له في قصيدة النثر في مقدمة ديوانه "لَـنْ"، حيث عاد لنا بنصٍّ نشيديّ ممتدٍّ فالقصيدة هي الديوان، نصٌّ غنائي طويل يقع في أربعين صفحة من القَطْع الصّغير، تقسّمَ على موضوعاتٍ وأجزاء.

متأثرًا بنص موغل في القدم نشيد الإنشاد وسفر التكوين، عائدًا للماضي، عائدًا بالزمن، وكأنّه يمهدُ للحياة بدايةً جديدةً، تُـرتّبُ فوضاها بالدّين والإيمانِ، وتزن ميزان عالمنا الدّنيوي بالحبّ، وبالتّكَامُلِ لا التّفَــاضل بين الرّجل والمرْأَة، في رحلةٍ تعيدُنا إلى الحقيقة.

"هذه قصة الوجه الآخر من التّكوين
أكتبها
بحبرٍ ضاع
أكتبُ عكس الكلمة
أكتبُ عكس الذاكرة
وكلَّ شيءٍ صار
كيف صار."[4]

تجلت لغة القداسة، ووحدة الجسد وتعدّد الموضوعات، فحينًـا على شفيرٍ بين النعيم والعذاب، وبين العفو والخطيئة والخلاص والأسر، بين الرجل والحبيبة، وبين الإله والشيطان، مُظهرًا جانبًا ميلودرامي عائدًا فيه إلى جوهرٍ ربما غاب بفعل الحروب والنكبات التي مرت بالعالم ذلك الحين.

وخلافًا للنصوص التي تعلي الجسد أعاد أنسي صياغة الكون وقصة التكوين، وجعل الحبّ والرّجل والحبيبة والله مركزًا بعيدًا عن كلِّ ما هو معهود ومعروف. بعيدًا عن جسدها قريبًا من جوهرها، بعيدًا عن صوتها قريبًـا من مناجاتها وصلاتها لأجلهِ ولأجل والبشر، بعيدًا عن ظلام شهوتهِ قريبًا من نور حكمتِها، بعيدًا عن رقّتها عندما تستلبها، قريبًا من ضعفها عندما يُكسبها القداسة والسيادة والعلو. هكذا قدّم الديوان بالإهداء: (مَغْلُوبــكِ).

يجيء أنسي على هذا كصاحب نبوءةٍ يحشد القوم من حوله مفتتحًا نصَّه بصلاة: "ساعدني ليكن فيّ جميع الشعراء فالوديعة أكبر من يدي"، معترفًا بثقل الرسالة، ورهبة الحقيقة الجديدة، فمن سيسمعهُ ويصدّق قصّة الوجه الآخر من التكوين.

"هذه قصة الوجه الآخر من التكوين
"هذه قصة الوجه الآخر من التكوين
وجدتها وعينايَ مُغمضتان ..
فالطريقُ حبيبتي
قادمٌ من انتظارها لي ..
قادمٌ من رجوعي إليها...
يا حبيبتي صلي لي كي أُحسن دعوتهم إلى العيد."

في أول مقطع تُـظهر لنا البنية النصية صيغةً مخالفةً للواقع، عندما يعثر على حبيبته وهو مغمض العينين؛ لأنها هي الطريق أصلًا.

"ترتبط الحبيبة بقصة الوجه الآخر من التكوين بطريقة رؤيوية وليس بطريقة بصرية، فعيناها كانتا مغمضتين، والطريق كان الحبيبة وليس الطريق؛ أي ليس


  • [1] شرفي، عبد الكريم. من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2007، ص 245.
  • [2] المرجع نفسه.
  • [3] الحاج، أنسي. لن. دار الجديد، ط4، 1994، ص 18.
  • [4] الحاج، أنسي. الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع. دار الجديد، ط4، 1994، ص42.

مكانًا ماديًّـــا محدّدًّا، إنما هو حالة الحب التي تملّكت الشاعر وألهمته، من هنا تكسب الحبيبة بعدًا إلهاميًا ورؤيويًا، يقود الشاعر إلى معرفة القصة؛ قصة الوجه الآخر من التكوين"[5].

وهو قادم إليها من خلال انتظارها ومن خلال رجوعه إليها بمعنى توبته، ثم يطلب منها مباركة رسالته ويطلبها أن تصلي له ليُحسن دعوة الناس للرجوع إلى الفطرة، والفكرة الأولى للحياة، كما يريدُ لها، وهي الحرية والخلاص بالحب ومن خلاله.

"أنتِ التي تغيرين الحياة بجهلٍ صاعقٍ
أنتِ المضمونة تغيرينَ الحياة بعــريّ النقاء الذي لا تستلم الأسرار إلا لشهوته..
هي قصتك قصة الوجه الآخر من التكوين".

التناصّ مع الأثر ودوره في تفعيل القارئ الضمني

يشرع أنسي في قصة التكوين والوجه الآخر من التكوين بادئًا باليوم السادس بتناصٍّ أخَّــاذ مع ما جاء في سفر التكوين، مشهرًا البنية والاستعداد النصي الأول الذي ينخرط به القارئ الضمني في مواجهة النص، حيث بدأ بصيغة معاكسة لما ورد في الأثر، فالأصل في سفر التكوين كان: "بالبدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خالية وخرابًا وظلمة وعلى وجه الغمر ظلمة"، ثم قال الله لكل شيء كن ليكن، حتى وصل التكوين إلى اليوم السادس، [6] كانت الحية أحيَلُ جميع حيوانات البرية فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله لا تأكُلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمَر شجر الجنة نأكل، وأما ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمَسَّاه، لئلَّا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله، عالِم أنه يوم تأكلان منه تنفتِح أعينكما، وتكونان كالله عارفَين الخيرَ والشر، فرأت المرأة أنَّ الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأنَّ الشجرة شهيَّة للنظر، فأخذت من ثمرِها وأكلَت، وأعطت رَجُلها أيضًا معها فأكل، فانفتحت أعينُهما وعَلِما أنهما عُريانين، فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر، فدخلا في العقاب وخرجا من الجنة بعد ذلك، بفعل حواء واستلام آدم لإغوائها"[7].

يعيد لنا أنسي صياغة تلك الحادثة، ويصور الرجل شيطانًـا بعد أن افترى على المرأة البريئة واتهمها بالشر والشيطنة وتعمّد إغوائه، ثم ينشقَّ عن أصله فهو المخلوق منها لا العكس حسب القصيدة، ويفرض هيمنته ويسلّط عليها عنفه...!

" خلق الله الإنسان
ذكرًا وأنثى خلقه
لأجل أن تبقى الأرض والسماوات جميلة في سعادة من أُعطي جسدًا في شكلين
ليعطى جميع أنواع السعادة.
ودخل الله ليستريح تاركًا وكيله ذكرًا وأنثى
وما إن دخل حتى انشق الرجل عن المرأة
شق نفسه قسمها
كان واحدًا
كان ذكرًا وأنثى واحدًا بالحب
كان جنسين بلا هوة .. كان جنسين باتحاد دون انقطاع مثل كل شيء
أسعد مما كان لم يكن
لكنه بدأ ولم يكمل".

وينطلق ويعيث في الكون فسادًا وخرابًا متجهمًا في وجه المرح والجمال والرقة ..
"رماها انسحب الرجل من المرأة
النسر استل من صدره العصفورة..
قال: الضعيفة هذه وتشاركني؟
قال: لأكن عليها إلها
وكسرها
ومن شفقتها عليه انكسرت
وأطاعت لئلا تلفت غضب الله إليه
وبسط يديه بصوته الصارخ: لا شريك لي..!
وافتتح سلطانه هكذا نصف الإنسان إذ شد المرأة من حنانها وخنقها
وصار الناقص هو السيد".

نستند على مقدمة انسي في ديوانه، لن، إذ يقول: "إن العالم يتغير وإن الشاعر ذو موقف من العالم ويضطره إلى لغة جديدة تستوعب موقفه الجديد؛ لغة تختصر كل شيء، وتسيره في وثبة الخارق، الوصف إلى المطلق المجهول". حتى نفسر هذه الجزئية التي خاض فيها الحبيب معركة ضد الفطرة، أي ضد الحب، وخرق القانون وكذب على الله ثم افترى على المرأة وانشق عن المحبوبة وعهود السلام، وبدأ في رحلة الخراب والتدمير، وصار الناقص هو السيد إذ ولى نفسه عليها إله، شدها من حنانها وخنقها وغوغائية الشيطان كبره قائل: بصوت صارخ لا شريك لي!. بينما تشفق عليه من العقوبة وتحنو عليه وتنكسر طوع أمره فقط لئلا تلفت غضب الله إليه. يراها الضعيفة يراها العصفورة التي استلها من كل حريتها؛ ليودعها في أسر الوحشة والظلم هكذا حتى "نادى الله الرجل: ماذا فعلت؟
فشكاها يا الله. فرقتني. أغوتني، جرتني إلى الشر
فالتفت إلى الأسر. وكما أرسل ظله فوق الغمر
أرسل هواء جديدًا فوق الأسر قائلا: رفرف على أمر السيدة السجينة
وكان ذلك الهواء هو الحب!".

يحنو الله عليها ويجدد هوائها ويزيدها ماءً وحياة.

جماليات الثنائيات والأضداد والتكرار ودورها في تفعيل القارئ الضمني

أ) الثنائيات والأضداد:

تمكننا هذه الجزئية من الوقوف على الثنائيات والأضداد في لغة أنسي التي تختصر كل شيء وتسايره في وثبهِ نحو المجهول والمطلق تاركًا للقارئ الضمني مساحات من البناء والتأويل وتركيب الأفكار وترتيب الحكاية. والتضاد عنصر مهم في تحقيق فاعلية شعرية النص الأدبي فهو مخالفة، "والمخالفة تغدو فاعلية أساسية يلقاها القارئ عبر كسر السياق والخروج عليه "[8]. وما يزال أنسي يبحر في قصة بداية التكوين وبداية القتل والوحشية والاستبداد، عندما يقول:
" ظن هزمها وما هزمها؟
بل تركته يفرح بأوهامه لأنه الضعيف، ولأنها القوية.
للعصفورة البيضاء قوة.. وللنسر الأسود إرهاب.
عصفورة الميثاق حفظت ميثاقها وحضنت عذابها لتحضن معذبيها
فالكاذبون أطفالها، ولو تزوجوها..
لم تحقد كناحية قاحلة، ولا طلبت شفقة، فالنبع لا يطلب الماء.
بقيت في الأسر منذ الخليقة، وجهها ينتظر كالبحيرة المسحورة،
والعريس فوق الخيل، فوق الدم هائم،
يتمم عهد القتل، واصل الجبال بالجحيم
لعنته تهدر في سلالته،
يقتل كالبهيمة. ويقتل كعاقل،
يقتل كباغ، ويقتل كعادل.
يقتل كمخيف، ويقتل كخائف
الجبار الشقي، يطارد الموت، فيقتل الحياة".

يواصل بصدق التائبين في الاعتراف بخطيئته ويسردها على من عرف ومن لم يعرف، وليعلم الحاضر الغائب بفداحة جرم الرجل وبقصة العنف وبداية الشرور، وكيف أن المرأة التي هي الحبيبة جـامـعًــا فيها كل النساء "أجمهن فيك لأنك المفردة .. ولا وجود لهن إلا فيك"، وجامعـًـا في اعترافه بذنبه وطلبه العفو والغفران كل الرجال "اسمح لي يا الله أن أتذكر خطيئتي. أن أتذكر عن جميع آبائي"؛ ليتطهر العالم، ساعيًا لتعويض الأرض والبشرية ما فاتها من الحب والتسامح والسلام والعدالة، مع المرأة الحبيبة الضعيفة التي تواصل خوفها على الرجل، وتصرّ على الحنوّ وإرادة الحب والخير فيها. وتشفق "ولا تطلب الشفقة .. فالنبع لا يطلب ماء"، في حين كان الرجل يتمم عهد القتل، ولعنته تهدر في سلالته، يقتل في كل حال، وفي كل حين عادلًا، جائرًا عاقلًا، جاهلًا، خائفًا، أو مخيفًا، يطارد الموت ويقتل الحياة، بالمقابل نرى كيف أن الله كان مع الحبيبة مع المرأة؛ إذ يقول الرجل: "أنا هو الشيطان مقدم نفسي".

ويضيف الرقة مع والوداعة أسبابًا لعودته إلى الجنة التي طرد منها، وفي توبته وتغير مسار أحداث الكون في هزيمةِ قسوته، وانتصار الرقة والتسامح.

"غلبتني الرقة، يقول: اشتدت الغيوم وراء الأقفال والحجب انشقت
غلبتني الرقة، حبيبتي أحبتني
حبيبتي أطلعتني من عمق البحر فشاهدت الكون منذ البداية حبيبتي عقدتن
في النور كنبي
إذا أنا رأسك يا حبيبتي، فأنت الهالة حول رأسي.
أنا رأسك، وأنت التاج على رأسي.
أنا الهجرة والعودة بين هلاليك
حبك حياني حررني من الصراع الأحمق،
وسقاني خمر العرس صفاني، وأبدعني.
أطفأ ما يشتعل، وأشعل ما ينطفئ،
فلا ينطفئ . .".

ظهرت لنا الثنائيات والأضداد جلية لتعكس ثورته على النفس صراعاتها وتناقضاتها ومحاولات الوصول إلى نفس أزكى وروحٍ أبهى.


  • [5] العويط، عقل. دراسة تحليلية لثلاثة نصوص شعرية (الرسولة.. أنسي الحاج، سنجاب يقع من البرج شوقي أبي شقرا، بوصلة الدم بول شاوول).
  • [6] سفر التكوين- البدء 1 التكوين.
  • [7] المرجع نفسه.
  • [8] ربابعة، موسى. جماليات الأسلوب والتلقي، دار جرير، عمان، الأردن، ط1، 2008، ص 184.

ب) التكرار:

نبينُ الحركات الأساسية التي تصاعدت القصيدة بها في التأثير والإقناع فمع التناص والتضاد والثنائيات، يشع لنا التكرار. والتكرار في القصيدة العربية الحديثة تقنية حاضرة وظاهرة مميزة فيها لأنه ساهم كثيرًا "في تثبيت إيقاعها الداخلي وتسويغ الاتكاء عليه صوتيًا، يشعر الإذن. بالانسجام والتوافق والقبول ولتستحوذ على اهتمام المتلقي، فتنساب إليه المعاني والأفكار."[9]، إذا التكرار يتجاوز البعد الإيقاعي إلى دعم المتلقي في تشكيل البنية الدلالية وهو ما نشهده بوضوح في قصيدة الــرَّسُولة بِـشَعْــرِها الطَّــــويل حــتـى الينابيع. في أكثر من جزء وأكثر من مقطع بقصد من الشاعر ..

أنت الصغيرة كنقطة الذهب تفكين السحر الأسود.
أنت السائغة اللينة؟ تشابكت يداك مع الحب؟ وكل كلمة تقولينها تتكاثف في جموع الرياح.
أنت الخفيفة كريش النعام، لا تقولين تعال
ولكن كلما صادفتُك كل لحظة، أعود إليك بعد غياب طويل،
أنتِ البسيطة تبهرين الحكمة
العالم تحت نظركِ سنابل وشجر ماء
والحياة حياة والفضاء عربات من الهدايا
أنتِ هدايتي .. يا الله أضف عمري إلى عمرها
يا حبيبتي، أنتِ الوجه الآخر من التكوين. يا حبيبتي، أنتِ الحقيقة
أنتِ عودة جسدينا جسدا صالحا للعناصر
لم تعلميني كالرجال، ولا تتسلطين علي
بل تسكتين، كمريم العذراء، فأطيعكِ،
وشري لخضوعكِ يخضع
منك أتعلم، وأنت لا تُعلّمين
كيف المنيعة بالحب تحب لقاتليها الحياة؟
كيف ذات الرفق؟ عظيمة لا تشكو؟
وكيف الله أعطاها الخوف علينا؟
أيّها الرب؟ احفظ حبيبتي.
أيّها الرب.
مهّد أمامها، تعهّد أيامها
موّج حقولها بعشب الخيال.
أيّها الرّب.
إله الخواتم والعقود والتنهدات.
يلتمسون منك طعامهم، وألتمس منك لحبيبتي البركة.
يلتمسون منك لديارهم، وما من ديار غير حبيبتي".

ينكشف حب الرجل وحب المرأة حتى إنه صار يضاهيها ألوهةً وتعاليًا على كل ما هو مادي وحسي، ويلتمس من الله صلاة مسموعة مستجابة يخصها لحبيبته ويطلب لأجلها البركة وطول العمر والبقاء. في كل تلك الفراغات والمساحات من التأمل والتفكر والتساؤل عن كنه اللحظة والعودة والكلمات التي تقولها الحبيبة لتفك السحر، "شبكة من البنيات التي تستدعي تجاوبًا… إن القارئ الحقيقي، أيًا ما كان، وكيفما يكون. فإنه يسند له دائمًا دور خاص يقوم به، وهذا الدور هو الذي يكون مفهوم القارئ الضمني. هناك مظهران أساسيان ومترابطان بهذا المفهوم دور القارئ. بنية نصية، ودور القارئ، كفعل مبنين"[10].

لقد ضاق العاشق ذرعًا من الاستبداد والعنجهية والاستعباد ولم يعد في مقدوره أن يحتمل مزيدًا من الخطايا والدم، التعب ينهش روحه، ويسفك دمه. وها هي بنية التكرار تتجلى أيضًا في قَسَم الشّرف الذي يرددّهُ الرّجال المخلصون للوطن والأرض، تصديقًا وتأكيدًا على صدق الأمانة والولاء والإخلاص للحب والتسامح حتى موت الغيرة والكراهية والعنف.

"يا حبيبتي
أُقسِمُ أنْ أكون لُعبتكِ ومغلوبكِ
أُقسِمُ أنْ أحاول استحقاق نجمتكِ على كتفي
أُقسِمُ أن أنسى قصائدي لأحفظكِ
أُقسِمُ أن أركض وراء حبّي وأُقسم أنّه سيظلّ يسبقني
أُقسِمُ أن أنطفئ لسعادتكِ كنجوم النهار
أُقسِمُ أن أكون المسافة بين كلمتَي أُحبّكِ أحبّكِ
أُقسِمُ أن أرميَ جسدي الى الأبد لأُسودِ ضجركِ
أُقسِمُ أنْ أكون بابَ سجنكِ المفتوح على الوفاء بوعود الليل
أُقسِمُ أنْ تكون غرفةُ انتظاريَ الغَيْرة ودخوليَ الطاعةَ وإقامتي الذوبان
أُقسِمُ أنْ أظلّ أشتهي أنْ أكون كتابًا مفتوحًا على رِكبتيكِ
أُقسِمُ أنْ أكون انقسام العالم بينكِ وبينكِ لأكون وحْدَتَه فيكِ
أُقسِمُ أنْ أُناديَكِ فتلتفت السعادة
أُقسِمُ أنْ أحمل بلاديَ في حُبّكِ وأنْ أحمل العالم في بلادي
أُقسِمُ أنْ أحبّكِ دون أن أعرف كم أُحبّكِ
أُقسِمُ أن أمشي إلى جانبي وأُقاسمكِ هذا الصديقَ الوحيد
أُقسمُ أن أنزل من برقِ شَعْرِكِ مطرًا على السهول
أُقسِمُ كُلّما عثرتُ على قلبي بين السّطور أن أهتف: وجدُتكِ .. وجدُتك!

يذكر د. عقل العويط أن: "قصيدة "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"

للشاعر أنسي الحاج، ظاهرة حبّ فريدة من نوعها في الشعر العربي الحديث. وهي قصيدة كنا اخترناها موضوعًا للدراسة لنيل شهادة الماجستير في العام 1979، حيث درسنا ظواهر التركيب، فأظهرنا العناصر المتوحدة التي تحيط ببنية هذه القصيدة، وأدركنا أن التفاصيل التركيبية الكثيرة تنصهر في توحد دائري كثيف، هو توحد البنية. ودرسنا الوحدة في العلاقة المثلثة: الرجل، والمرأة، والله، وأثبتنا أن التوحد الشكلي يخفي وراءه توحدًا في العلاقة بين الأطراف الثلاثة، فرأينا أن نعيد دراسة هذا الكتاب للدكتوراه، الذي يرتفع فيه الحبّ إلى المراتب الصوفية، حتى ليظن أن الشاعر يحب الله من خلال المرأة، وحتى ليتم فعل دمج بين الاثنين، الحبيبة والله".

الخاتمة

وهكذا ترخي الرسولة شعرها الطويل منذ الأزل من أعالي القمم وحتى آخر الينابيع ليصير في كل شيء، عبر قصيدة حب، قصتها بدأت منذ بدء الخليقة في رحلة للوراء نحو الإنسانية من جديد. تعايش فيها الجميع بالحب وبالتسامح والرقة، مستندةً على الخواص الفنية لقصيدة النثر، منتجة نصًا تفاعليًا تجسد فيه القارئ الضمني، وظهر في شبكة واضحة من البنيات التي استدعت تجاوبًا ملزمًا بفهم النص، مثل: التناص والأضداد والتكرار.

وقد أفادت هذه الورقة من بحث سعادة الدكتور عقل العويط: شاعر وناقد وصحافي وأستاذ جامعي، ورئيس تحرير ملحق النهار الثقافي في بيروت، كما أنه صديق مقرب من الراحل أنسي الحاج؛ حيث أمدني بأطروحة الدكتوراه خاصته وهي: دراسة تحليلية لثلاثة نصوص شعرية (الرسولة.. أنسي الحاج، سنجاب يقع من البرج شوقي أبي شقرا، بوصلة الدم بول شاوول)، وخص طلبي لأطروحته بالاهتمام البالغ، ولا سيما أنها ليست متوفرة إلكترونيًا بل متوفرة منها نسخة ورقية فقط في رفوف مكتبة الجامعة اليسوعية في بيروت. فجزيل الشكر وعظيم الامتنان.


    المراجع
  • 1- شرفي، عبد الكريم. من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2007، ص 245.
  • 2- الحاج، أنسي. لن. دار الجديد، ط4، 1994، ص 18.
  • 3- الحاج، أنسي. الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع. دار الجديد، ط4، 1994، ص42.
  • 4- العويط، عقل. دراسة تحليلية لثلاثة نصوص شعرية (الرسولة.. أنسي الحاج، سنجاب يقع من البرج شوقي أبي شقرا، بوصلة الدم بول شاوول).
  • 5- سفر التكوين-البدء 1 التكوين.
  • 6- ربابعة، موسى. جماليات الأسلوب والتلقي، دار جرير، عمان، الأردن، ط1، 2008.

  • [9] السيد، شفيع، النظم وبناء الأسلوب في البلاغة العربية، مكتبة الآداب، مصر، 1228.
  • [10] آيزر، فولفغانع، فعل القراءة جمالية التجاوب في الأدب، منشورات مكتبة المناهل، ص 32.